مؤتمر حل الدولتين.. دعم للقضية أم تقييد للحقوق الفلسطينية؟

على مدار يومي (28 و29 تموز/ يوليو2025)، عُقد بالجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أعمال المؤتمر الدولي لـ “تسوية القضية الفلسطينية بالطرق السلمية وتنفيذ حل الدولتين”، برئاسة سعودية – فرنسية، ومشاركة دولية وأممية، بعدما أُجل المؤتمر عن الانعقاد الذي كان مقررا في حزيران/ يونيو نتيجة اندلاع المواجهة الإسرائيلية الإيرانية.
اعتمد المؤتمر وثيقة ختامية، تؤكد على الالتزام بحل الدولتين بحدود آمنة ومعترف بها، كما نصت الوثيقة على أنه سيتم تضمين تعهدات دول أخرى مستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر المقبل، إضافة إلى العديد من البنود التي يمكن أن تكون قابلة للنقاش، منها اشتراطات على الفلسطينيين مقابل التسليم بالواقع الاحتلالي وممارساته على الأرض، تحت مسمى “إصلاح السلطة” وسحب سلاح المقاومة.
فكرة المؤتمر وظروف انعقاده
يأتي انعقاد المؤتمر بعد قرابة عامين من حرب الإبادة والتدمير الممنهج التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي، على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي خلفت أكثر من 60 ألف شهيد وما يزيد عن 150 ألف جريح فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، ونحو 12 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة مستمرة أزهقت أرواح كثيرين، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، دون أن يكون هناك أفق حقيقي يمكن البناء عليه لوقف الحرب الإجرامية المستمرة.
انطلقت فكرة المؤتمر من توافق فرنسي سعودي، في ظل رفض إسرائيلي إنهاء حرب الإبادة وانغلاق الأفق المستقبلي تجاه القضية الفلسطينية، بل تعمد الاحتلال، وبغطاء أمريكي، انتهاك اتفاقيات الهدنة وتنفيذ صفقة تبادل الأسرى، والتي كان آخرها اتفاق وقف إطلاق النار في كانون الثاني/ يناير2025 بعد انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
أظهرت الخطابات السياسية والمداخلات التي ألقيت في المؤتمر، على مدار يومين من انعقاده على أنه جزء من دعم حالة التحول في المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال، إلا أن بعض المراقبين شككوا في هذه الخطوة، رغم أهميتها السياسية والدبلوماسية، وتساءلوا عن توقيت المؤتمر، وطبيعة الاشتراطات التي توضع في جوهر النقاش حوله، وحول مخرجاته، والموقف المباشر لهذه الدول من حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل ضد قطاع غزة، مقابل عدم وجود تدخل جاد وواضح بهدف وقفها. ولذا يبرز السؤال حول إن كانت مخرجات المؤتمر تشكل خطوة حقيقية لوقف معاناة الفلسطينيين ووقف الحرب على غزة، أم أن الأمر مجرد حراك سياسي ودبلوماسي مفرغ من مضمونه، وغير قادر على تطبيق مخرجاته.
42 بندًا مشروطًا
تضمن البيان الختامي، أو ما بات يطلق عليه “الوثيقة الختامية” للمؤتمر، 42 بندًا، تراوحت ما بين المطالب والأمنيات وتكليف اللجان، بانتظار أن يتحقق أي منها على الأرض، أو تتحول إلى قرارات فعلية يمكن تنفيذها. وعند تحليل بنود هذه الوثيقة، يتضح غياب الخطوات الفعلية المباشرة لصالح القضية الفلسطينية، وتعليقها على الآجال المستقبلية المبنية على نوايا المشاركين بالمؤتمر، وارتهانها لظروف سياسية أو ميدانية أو اقتصادية، أو جميعها معا.
فعلى سبيل المثال، ينص البند 38 على: “التزامنا بتهيئة الأرضية لـ “يوم السلام” في المستقبل، استنادا إلى مبادرة السلام العربية، و”الحزمة الأوروبية لدعم السلام”، وغيرها من المساهمات الدولية، والتي ستقدم مكاسب ملموسة للفلسطينيين والإسرائيليين والمنطقة ككل، بما في ذلك مجالات التجارة والبنية التحتية والطاقة، وتمكين الاندماج الإقليمي، وصولاً إلى بناء هيكل أمني إقليمي “. وهنا يكمن السؤال: كيف يمكن العودة لمبادرة السلام العربية كأساس للتحرك السياسي، وهي التي يرفض الاحتلال الاعتراف بها، أو قبولها أو التعامل معها منذ إطلاقها في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002؟
كما ينص البند 39 على أنه “في سياق تحقيق الدولة الفلسطينية ذات السيادة، قررنا استكشاف هيكل أمني إقليمي يمكن أن يوفر ضمانات أمنية للجميع، بالاستفادة من تجربة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، مما يمهّد الطريق لشرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً، فضلاً عن وضع إطار إقليمي ودولي يقدم الدعم المناسب لحل قضية اللاجئين، مع التأكيد على حق العودة”. وهذا يعني إمكانية القبول بإقامة مرجعية دولية لإدارة مستقبل قطاع غزة، مما قد يُفهم أنه تجريد للفلسطينيين من سيادتهم الحقيقية وإدارتهم للقطاع، ما يعني تناقضا واضحا ما بين الدعوة لحل الدولتين، وبين قبول وجود دولي يدير القطاع.
وبقراءة معظم بنود الوثيقة، يتضح أن جل ما ورد فيها هو حالة عامة فضفاضة تأخذ بالاعتبار المصالح الأمنية والسياسية الإسرائيلية والأمريكية، وتجعل من الفلسطينيين الطرف الأضعف الذي يجب أن يقبل بكل ما يملى عليه تحت إطار إمكانية منحه “دولة”، دون أن يحدد شكل وطبيعة هذه الدولة، التي باتت إمكانية تطبيقها على الأرض مرهونة أيضا بواقع جديد يشكله الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي، ويثبت دعائمه عبر ما يزيد عن ألف بوابة وحاجز قطعت أوصال الضفة، وعمليات تدمير ممنهج وخنق للحياة اليومية للفلسطينيين بالضفة، وإبادة جماعية وتدمير في غزة.
إلا أن البند الأخطر في وثيقة المؤتمر، هو تجريم سلاح المقاومة الفلسطينية، فلأول مرة توقع دول عربية وإقليمية على وثيقة لا ترتكز على قرارات الشرعية الدولية، ولا على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بل على تصور مقيَّد ومشروط يربط بين الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية، وبين تحولات داخلية عميقة في سلوك الحكم الفلسطيني وخطابه. وبالتالي فإن الاعتراف هنا بالدولة لا يُمنح كاستحقاق، بل يُقدَّم كمكافأة مشروطة إذا التزم الفلسطينيون بقواعد اللعبة الجديدة: الاعتراف بإسرائيل، ونبذ المقاومة وسحب سلاحها، وإعادة هيكلة نظامهم السياسي تحت سقف من الضوابط الدولية.
هذا يعني، وفقا لما يراه الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة النجاح رائد أبو بدوية، أننا أمام إعادة تعريف الفلسطيني من طرف شريك يجب أن يحصل على حقوقه الكاملة، إلى كيان إداري منزوع السيادة السياسية والوطنية، يُدين الكفاح المسلح حتى في سياق مقاومة الاحتلال، ويُقصي القوى السياسية الرافضة لمسار أوسلو. كما يعني فرض سردية جديدة تمحو جوهر النضال الفلسطيني، تبدأ من اعتبار عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول “مجزرة”، وتصل إلى تعديل المناهج الفلسطينية، وإلغاء مكافآت الأسرى والشهداء، وفرض تصور جديد للفلسطيني “المقبول”: المطيع، غير المقاوم، المنضبط دوليًا، وهي الاشتراطات التي تضمنتها وثيقة المؤتمر من أجل القبول بحل الدولتين.
فيما يرى آخرون، أن فرنسا الراعي الرسمي والشريك في الدعوة للمؤتمر، ومعها مجموعة دول غربية، ما زالت تمارس حالة الدعم العسكري والسياسي والاستخباراتي لصالح الاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة، بل إن الاتحاد الأوروبي في اجتماعه الأخير في بلجيكا، أعلن بوضوح أنه لن يعاقب إسرائيل على حرب الإبادة والتجويع في القطاع، بل أصبح متواطئا مع ممارسات الاحتلال عبر إنزالات جوية، الغرض منها تخفيف حجم الضغط الذي بات يمارس على إسرائيل.
وقياسا على ذلك، لم تنجح المواقف الرسمية العربية، في اتخاذ خطوات حقيقية لوقف الحرب على غزة، أو وقف ممارسات الاحتلال والمستوطنين بالضفة الغربية.
انقسام إسرائيلي وضغوط أمريكية
ينقسم الموقف الإسرائيلي من المؤتمر ومخرجاته ما بين موقف رسمي قدمه وزير خارجية الاحتلال، أكد فيه عدم الاعتراف بدولة فلسطينية، وهو ما يعني رفض مخرجات المؤتمر، وبين موقف آخر عبر عنه كتاب ومحللون وخبراء إسرائيليون، رأوا فيه أن هذه الخطوة يمكن أن تؤسس “لعزل إسرائيل” سياسيا ودبلوماسيا وسط موجة “تسونامي” من الاعترافات بالدولة الفلسطينية، وبالتالي يجب المسارعة إلى اتخاذ خطوات إسرائيلية للحيلولة دون الوصول إلى هذه المرحلة.
أما الإدارة الأمريكية، التي اعتبرت المؤتمر بمثابة “دعاية كاذبة” تمارسها الدول المشاركة بالمؤتمر، فسارعت إلى اتخاذ خطوات للضغط على الأطراف الدولية للحيلولة دون تطبيق الوعود بالاعتراف بالدولة، وهي الحيلة التي قد تلجأ لها واشنطن من خلال تقديم وعود تخدير، أو التهديد بوقف دعمها لهذه الدول كما جرى في محطات سابقة، أو استخدام الفيتو أمام مجلس الأمن إن وصلت هذه الدول لمشروع قرار للاعتراف بدولة فلسطينية.
ترحيب رسمي فلسطيني
أما قيادة السلطة الفلسطينية، فقد رحبت بمخرجات المؤتمر، وقال حسين الشيخ نائب الرئيس الفلسطيني، في منشور على منصة إكس: “نرحب بإعلان نيويورك الذي صدر عن مجموعة الدول المشاركة، الذي دعا إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وإحياء المسار السياسي القائم على حل الدولتين، وإعادة الاعتبار للشرعية الدولية، ووقف الحرب في قطاع غزة، وإدخال المساعدات فورا دون أي عوائق”، مشيراً إلى أن “فلسطين تؤكد التزامها بما ورد في رسالة الرئيس محمود عباس إلى كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان”.
حماس ترحب وتتمسك بالمقاومة
في المقابل، عبرت حركة حماس، عن” بالغ اهتمامها بكل خطوة من شأنها تحقيق أي تقدّم إيجابي في مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية على مختلف المستويات”، معبرة من هذا المنطلق عن تقديرها لما أُعلن من مواقف إيجابية في المؤتمر الدولي، ومؤكدة أن “سلاحها هو استحقاق وطني وقانوني طالما بقي الاحتلال قائما، وقد أقرّته المواثيق والأعراف الدولية، ولا يمكن التخلي عنه إلا باستعادة حقوقنا كاملة، وإقامة دولتنا المستقلة ذات السيادة الكاملة”.
الخاتمة
ينظر إلى هذا المؤتمر على أنه جزء من حالة التململ التي بات يمر بها العالم نتيجة السياسة الإسرائيلية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، وأن النظم السياسية الإقليمية والدولية باتت تستشعر حجم وخطورة الممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، خصوصا حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة. وعلى الرغم من أهمية هذا الحراك السياسي والدبلوماسي على المستوى الدولي، الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى مكانتها عبر المنصات الدولية، إلا أنه ما يزال هناك تشكيك لدى المراقبين، من أن يكون هذا الحراك مجرد استجابة مؤقته لحجم وطبيعة الجريمة التي ينفذها الاحتلال بحق الفلسطينيين، وما توفره الولايات المتحدة الأمريكية من غطاء ومظلة مستمرة منذ قرابة عامين متواصلين، تشرعن من خلالها ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي. ويبقى المعيار الأهم هو ما ستؤول إليه الجهود الدولية في سبتمبر/ أيلول المقبل، وهو الموعد الذي حددته العديد من الدول للاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية. إضافة إلى معيار القدرة على فرض الرؤية الدولية على الاحتلال الإسرائيلي، وعدم السماح له بالتفرد في فرض واقع يعمل عليه الاحتلال من خلال التمهيد لعمليات السيطرة والضم والتهجير، وبالتالي ترتهن كل الوعود الدولية ومواقفها بشكل وطبيعة التطبيق على الأرض، وانتظار إن كان هذا التحرك الدولي من شأنه توفير حماية للشعب الفلسطيني، الذي يعاني من الإبادة الجماعية والتجويع الممنهج.