مآلات الاتفاق اللبناني “الإسرائيلي” حول ترسيم الحدود البحرية

د. عدنان أبو عامر

  • المقدمة:

شكّل تحقيق الاتفاق بين دولة الاحتلال ولبنان علامة فارقة مهمة في علاقاتهما، وهما اللتان تصنفان على أنهما في حالة عداء مستمر منذ عقود، وخاضتا حروبًا عديدة خلالها، مما جعل هذا الاتفاق يحوز على مزايا لكليهما، وقد أصبح ممكنًا بسبب تقاطع مصالحهما، واستعدادهما لتقديم تنازلات في نافذة الفرصة التي فتحت لفترة محدودة، وفق المفهوم “الإسرائيلي”.

حاول كل منهما إبداء تمسكه بمواقفه، وإجبار الطرف الآخر على تقديم التنازلات، لكن الجميع يدرك أن أي اتفاق لابد أن يشمل تنازلًا متبادلًا، مع بقاء الاحتياجات الخاصة بالرأي العام الداخلي: اللبناني و”الإسرائيلي”، ورغبة الحكومة “الإسرائيلية” التي تعيش حقبة انتخابية حامية الوطيس، وحزب الله الذي يدعم الحكومة اللبنانية، بإظهار أنهما لم تتنازلا عن مصالحهما الاقتصادية والسياسية من هذا الاتفاق، وهي تصريحات يفهم أنها من أجل الاستهلاك الإعلامي ليس أكثر، مع العلم أن هذه السطور لن تنشغل كثيرًا بالتفاصيل التقنية الفنية بقدر ما يتوقف عند مآلاتها السياسية والأمنية والاقتصادية.

  • أبعاد الاتفاق:

سينشغل هذا التقدير أكثر بوجهة النظر “الإسرائيلية” من الاتفاق البحري مع لبنان، مع التركيز على ما وراء تحولات الاتفاق في المجال الاقتصادي، إلى الأبعاد الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، من خلال الحديث عنها بالتفصيل فيما يلي:

1- العلاقات بين تل أبيب وبيروت: لا يحتاج الأمر لكثير من العناء في القول إن إقامة خط حدودي بين الدولتين المطلّتين على البحر المتوسط يعني في الواقع اعترافًا لبنانيًا بوجود دولة الاحتلال، رغم أن مفاوضاتهما كانت غير مباشرة، ولكن عبر الوسيط الأمريكي “عاموس هوشستين”، وهو اليهودي “الإسرائيلي” الذي خدم في جيش الاحتلال، ويعمل مستشارًا لدى الإدارة الأمريكية لشؤون الطاقة، ويا لها من مفارقة!

إن هذا الاتفاق لا يشمل تطبيعًا متبادلًا، لكنه يحمل تعبيرًا عن تغيير جوهري في علاقاتهما، مما يضع علامات استفهام حادّة حول مواقف حزب الله الذي يسيطر على لبنان من أن “إسرائيل” كيان غير شرعي لا ينبغي الاعتراف به، بل يجب العمل من أجل تدميره، ومع مرور الوقت قد يساهم الاتفاق في تغيير صورة “إسرائيل” لدى الجمهور اللبناني، على الأقل كما تتأمل الأخيرة.

2- موقع ونفوذ حزب الله في لبنان: تثبت موافقة الدولة اللبنانية على الاتفاق أن حزب الله ليس كلي القدرة في لبنان، على الأقل من وجهة النظر “الإسرائيلية”، صحيح أنه كان مطلعاً على الاتفاق، وأثّر في صنع القرار، لكن الاتفاق يتضمن بوضوح عناصر تخلق صعوبة له، ويريد تجنبها، مما اضطره للتنازل في ظل الوضع الاقتصادي الكارثي في ​​لبنان، وتوسع النقد الداخلي تجاهه، للاكتفاء بالحجة القائلة بأن تهديداته هي التي ساهمت بتحقيق الاتفاق، في محاولة لتحسين الحالة القائمة، مع العلم أن الاتفاق من شأنه أن يوثق علاقة لبنان بالغرب، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا، اللتان تعيشان تناقضًا تامًا مع رؤية الحزب المتهم بضم لبنان إلى المحور الإيراني.

3- المصالح المتبادلة: يتوقع الجانبان، تل أبيب وبيروت، أن يشكل الاتفاق إنجازًا مهمًا لهما، رغم زيادة الأصوات المعارضة له من الجانب “الإسرائيلي” تحديدًا، ويدور الحديث عن جملة من المزايا في المجالات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، بعد تجاوز الصعوبات القانونية التي يثيرها رافضوه في الحلبة السياسية والحزبية “الإسرائيلية”، رغم أنه يتضمن مراعاة مصالح وحساسيات الجانبين، وفي ضوء ذلك، من الواضح أن الحكومة “الإسرائيلية” “الانتقالية” ستعمل بشكل حاسم لتحصيل موافقة على الاتفاق، وهو ما تم فعلا، على افتراض أن لبنان لا يزال مهتمًا بالترويج؛ للتوقيع قبل نهاية رئاسة ميشال عون نهاية الشهر الجاري.

  • تفاصيل البنود:

تبادل الوسيط الأمريكي مع الطرفين اللبناني و”الإسرائيلي” العديد من المسودات الخاصة ببنود الاتفاق، وبقي معظمها حبيس الأدراج، لكن التوقيع على الاتفاق قبل أيام كشف عن العديد منها، ولا تبدو هذه السطور منشغلة بإيرادها بالتفصيل، إلا أن ما كُشف عنه من أثار انتقادات “إسرائيلية”، وبشكل رئيسي من عناصر المعارضة في النظام السياسي، خاصة فيما يتعلق بمحتواها، والادعاء بأنه قُدِمت تنازلات في الاتفاق، لاسيما وأننا أمام حكومة انتقالية تسير الأعمال، وتُوقع على اتفاقية حساسة من هذا الوزن الثقيل قبل خوض انتخابات الكنيست بفترة وجيزة، وهي المقررة في الأول من نوفمبر.

يضاف إلى التغيرات الاقتصادية المتوقعة ل”إسرائيل”، فإن تسوية قضية الحدود البحرية مع لبنان لها مزايا مهمة بالنسبة لها، وأهمها على الصعيد الأمني، لأن الاتفاق سيساعد الاحتلال على ضمان الهدوء الأمني في المجال البحري، ويقلل من الحاجة إلى تأمين حقل كاريش، رغم أن الاتفاقية لا تمنع تمامًا احتمال أن يجد حزب الله أسبابًا لتجديد تهديداته، ولكن في حال وُقع على الاتفاقية في النهاية، فإن التقدير “الإسرائيلي” يرجح فرضية تراجع التوتر الأمني، بما في ذلك احتمال المواجهات مع الحزب في المجال البحري.

تنطلق ميزة “إسرائيلية” أخرى للاتفاق مما يمكن اعتباره تغيرًا “إيجابياً” بعلاقات الجانبين، وفق ما تراه دولة الاحتلال، إذ كانتا في علاقات عدائية حتى الآن، وقد تفتح فرصة للتغيير تضاف في علاقتهما المستقبلية، رغم أن هذا الجانب من الاتفاق ينفيه المسؤولون اللبنانيون، خاصة حزب الله، الذي لم يتردد في تخفيض السقف “الإسرائيلي” من التوقعات من “تطبيع” العلاقات معه، بل اعتبار الاتفاق مناسبة لإظهار طبيعة “إسرائيل” العدوانية، وضرورة الحفاظ على سلاح باعتباره “درعاً” للبنان.

  • هوية الوسيط:

بدا لافتا أن الوسيط الأمريكي “عاموس هوشستين” حظي بمتابعة “إسرائيلية” لافتة، منذ انطلاق المفاوضات اللبنانية “الإسرائيلية”، كونه عرّاب الاتفاق، فهو من أقرب مستشاري الرئيس “جو بايدن”، لكن ما لا يعرفه كثير من قرّاء هذه السطور أن “هوشستين” “إسرائيلي” بالأساس، ويتحدث اللغة العبرية بطلاقة، لكنه يحرص على عدم التحدث بها في غرف المفاوضات، رغم أنه زار عائلته في القدس المحتلة خلال رحلاته المكوكية بينها وبين بيروت، حتى أن “الإسرائيليين” لا يخفون اندهاشهم من قبول اللبنانيين له كونه وسيط، مع أنه يهودي و”إسرائيلي”.

قد يكون مفيدا الإشارة إلى أن “هوشستين” ولد في فلسطين المحتلة، لكنه يعيش حاليًا في الولايات المتحدة، وخدم في جيش الاحتلال في التسعينيات، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة فور انتهاء خدمته العسكرية، فوصل واشنطن، وشغل مناصب في الإدارات الديمقراطية، ويعدّ صديقًا ل”إسرائيل”، رغم أنه مسؤول بالأساس في الإدارة الأمريكية، وله مصلحة عليا بالتوصل إلى تسوية.

يشار إلى أن “هوشستين” حضر اجتماعات بايدن في جولاته للشرق الأوسط، بما فيها اجتماعاته الثنائية مع رؤساء الإمارات ومصر والعراق و”إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، ويعرّف عن نفسه بأنه يهودي أرثوذكسي، لكنه لا يرتدي الكيباه، وقبل 17 عامًا جلس مع 25 ممثلًا يهوديًا آخر على أرضية مركز المؤتمر لقراءة “لفيفة” من التوراة والكتب الدينية اليهودية.

  • تحفظات “إسرائيلية”:

إن موضوعية استعراض الاتفاق تتطلب بالضرورة استحضار ما يمكن وصفها بالتحفظات “الإسرائيلية” عليه، رغم المميزات “الإسرائيلية” الخاصة به مع لبنان، وأول هذه التحفظات تتمثل في أن الموقف القانوني منه يبدو غامضًا، فهل احتاج إجراء استفتاء بين “الإسرائيليين”، أم يقتصر الأمر على موافقة الكنيست فقط، أم أن الأمر لا يستدعي أكثر من موافقة الحكومة أو مجلس الوزراء الأمني السياسي المصغر- الكابينت، مع العلم أن عدم توفر الصورة القانونية للاتفاق في مرحلة مبكرة شكل “ثلمة” في الاتفاق.

يتعلق ثاني تحقظ بالإجراءات السرية المبالغ فيها في المفاوضات مع لبنان عبر الوسيط الأمريكي، مما أعاد لل”إسرائيليين” ما حصل في اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين من مفاوضات سرية، صحيح أن المباحثات تعلقت بمسائل حساسة مع دولة “معادية”، وكان من الطبيعي أن تُجرى في سرية، من أجل تجنب الضغط الشعبي على كل طرف، لكن المعارضين “الإسرائيليين” للاتفاق لا يبررون التعتيم المتعمد على تفاصيله، وآلية الموافقة عليه، بزعم أن الجمهور يستحق تلقي التفاصيل، كما كانت قبل التوقيع، لغرض إجراء مناقشة عامة.

أمّا التحفظ الثالث؛ فيتعلق بتوقيت الاتفاق الذي أُعلِن عنه بالتزامن مع تهديدات حزب الله باستهداف حقل كاريش في حال عملت “إسرائيل” به قبل الاتفاق مع لبنان، مما جعل الاتفاق تفوح منها رائحة تبدد الردع والخوف من المواجهة العسكرية، وهذه الرائحة “الكريهة” قد لا تتبخر بسهولة، بل ترسخ صورة “إسرائيل” على أنها دولة خضعت للضغوط العسكرية، وأظهرت مرونة مفرطة وغير متوقعة، من أجل تجنب الصراع العسكري.

يورد “الإسرائيليون” تحفظًا رابعًا يتعلق بالسياق الدولي للاتفاق “الإسرائيلي” مع لبنان، باعتباره ليس اتفاقًا عاديًا بأي حال، كونه مع دولة “معادية”، تسيطر عليه قوة مسلحة تعادي “إسرائيل”، ويحظى بتمثيل في البرلمان، وله نظام اقتصادي منفصل، ويتلقى مساعدات عسكرية واقتصادية من إيران، مما يجعله يحصل على موطئ قدم وقدرة على التأثير بشكل كبير في التحركات داخل الدولة، مما سيجعل من الاتفاق فرصة لزيادة نفوذ الحزب، والتصريح بأن تهديده للاحتلال دفعه لإبرامه.

أمّا التحفظ الخامس الذي لم يخفه “الإسرائيليون”؛ فيتعلق بأن الرغبة الأمريكية بإنجاز الاتفاق لم تخطئها العين، لاسيما بالتزامن مع أزمة الطاقة، خاصة في أوروبا، على خلفية حرب روسيا وأوكرانيا، والتهديد بوقف توريد الغاز لأوروبا، مما زاد من التوجه الأمريكي لإيجاد بدائل للغاز الروسي، مما يجعل من السرعة التي غيرت بها “إسرائيل” توجهها في المفاوضات، بعد المكالمة الهاتفية بين “لابيد وبايدن”، يثير أكثر من شك في أن هذا خضوع “إسرائيلي” لإملاءات أمريكية على خلفية سياستها العامة للغاز، ويؤكد مزاعم المعارضة “الإسرائيلية” بأن “لابيد” عمل على تحويل “إسرائيل” إلى “محمية” أمريكية ليس أكثر.

  • الخاتمة:

من الواضح أننا أمام اتفاق تاريخي بين دولة الاحتلال من جهة، ولبنان كونها دولة عربية ما زالت في حالة عداء من جهة ثانية، ورغم الموافقة عليه من قبل حكومة الجانبين، لكن ما زال أمامهما جملة من التحديات والسيناريوهات المحتملة، من أهمها:

  • المضي قدمًا في الاتفاق من جهة التطبيق والترسيم على الأرض، والانتقال إلى المرحلة الثانية منه باستخراج الغاز من حقل كاريش، في حال بقي الوضع الحكومي على حاله لدى دولة الاحتلال، من خلال فوز “لابيد” في الانتخابات المقبلة.
  • حصول تراجع “إسرائيلي” في الاتفاق في حال صعود المعارضة برئاسة “بنيامين نتنياهو”، الذي لم يتردد في التهديد بالتراجع عنه إن وصل إلى رئاسة الحكومة، مما ينذر بتوتر مع لبنان.
  • تعرض الاتفاق إلى هزّات قوية من الداخل اللبناني في حال تصاعد الأوضاع الأمنية مع دولة الاحتلال، وإمكانية حدوث مواجهة عسكرية مع حزب الله، مما سيجعل الاتفاق في مهب الريح.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى