لماذا “إسرائيل” نظام فوق القانون؟
محمد يوسف
تصف عديدٌ من مراكز حقوق الإنسان والمنظمات الدولية ذات المصداقية، مثل منظمة العفو الدولية، إسرائيلَ بأنها دولة فصل عنصري، ونظام استعماري استيطاني. ففي تقريرها “الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظام سيطرة قاس وجريمة ضد الإنسانية”، دعت منظمة العفو الدولية المجتمع الدولي إلى محاسبة إسرائيل على ارتكاب جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، وطلبت من المحكمة الجنائية الدولية النظر في جريمة الفصل العنصري، في تحقيقها المرتقب بشأن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. دعا مايكل لينك، مقرر الأمم المتحدة الخاص، المعنيّ بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، المجتمعَ الدولي إلى تبنّي تقريره بشأن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقال: إن “إسرائيل تمارس الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
ارتبط ظهور نظام الفصل العنصري الإسرائيلي بعمليات التطهير العرقي لشعب فلسطين، وطرده من أرضه في عام 1948. اتهمت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إسرائيل، مرارًا وتكرارًا، بانتهاك القانون الدولي وحقوق الإنسان، وقد شرحت هذه الحقيقة بالتفصيل في تقريرها “تجاوزا الحد“، رغم ذلك، لم يوجّه أيّ اتهام لإسرائيل على الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين. فيما يلي بعض الحقائق الأساسية لفهم سبب كون إسرائيل نظامًا فوق القانون:
العضوية المشروطة في الأمم المتحدة
إسرائيل هي العضو الوحيد في الأمم المتحدة الذي تعتبر عضويته مشروطة، فقد أصبحت عضوًا في الأمم المتحدة في 11 أيار/مايو 1949، وكانت عضويتها مشروطة بالالتزام بتنفيذ قراري الجمعية العامة 194 و181. وعلى الرغم من عدم استيفائها للشروط وعدم التزامها بقرارات الأمم المتحدة، إلا أنها تتمتع اليوم بالعضوية الكاملة فيها. بينما فلسطين، الدولة القابعة تحت هذا الاحتلال، تتمتع فقط بصفة عضو مراقب. وقد تعرض الفلسطينيون للتهديد المتكرر من قبل الولايات المتحدة باستخدام حق النقض ضد أي محاولة من جانبهم للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. يجب إثارة هذه القضية بجدية في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويجب إعادة النظر في عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، ومحاسبتها على انتهاكها للقرارات الدولية، وإلزامها بتنفيذ قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة. والسماح، وفقًا لقرار الجمعية العامة رقم 194، بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويضهم عن خسائرهم، والانسحاب غير المشروط من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها بعد عام 1967، وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242.
التجاهل الإسرائيلي لقرارات الأمم المتحدة وعدم احترام القانون الدولي
وفقًا لقاعدة بيانات الرقابة في الأمم المتحدة، في الفترة من 2006 إلى 2022، اعتمد مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، 99 قرارًا ضد إسرائيل. ومن 2015 إلى 2022، اعتمدت الجمعية العامة 140 قرارًا بشأن إسرائيل. ومع ذلك، لم تلتزم إسرائيل بأي منها. استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) 53 مرة منذ عام 1972 ضد قرارات مجلس الأمن الدولي التي تنتقد إسرائيل. ورغم السياسة الأمريكية المتسقة باستخدام الفيتو ضد أي قرار قد يمس إسرائيل، إلا أنه في بعض المرات القليلة امتنعت الإدارة الأمريكية عن ذلك لتمرير قرارات تدين إسرائيل، كما حصل في عام 2016، حيث صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334/2016 بعد امتناع إدارة أوباما عن التصويت عليه. وأكد مجلس الأمن من خلال هذا القرار أن “إقامة إسرائيل للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، ليس لها أي شرعية قانونية، مما يشكّل انتهاكًا صارخًا بموجب القانون الدولي، وعقبة كبيرة أمام رؤية دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب في سلام وأمن، وضمن الحدود المعترف بها دوليًا. دأبت إسرائيل على الرد على قرارات الأمم المتحدة بسلسلة من الإجراءات المضادة، من خلال منح التراخيص لبناء وحدات استيطانية غير قانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في تحدٍّ واضح للمجتمع الدولي، وانتهاك صارخ للقانون الدولي.
في يوم الجمعة 27 تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدعو إلى “هدنة إنسانية” فورية ومستدامة في غزة، وذلك بأغلبية 120 صوتًا مقابل 14 صوتًا وامتناع 45 عن التصويت. ورد السفير الإسرائيلي جلعاد إردان بغضب على التصويت قائلا: “اليوم هو اليوم الذي سيُعتبر عارًا. لقد شهدنا جميعًا أن الأمم المتحدة لم تعد تتمتع، ولو بذرة واحدة، من الشرعية أو الأهمية”، وقال للجمعية العامة: “عار عليكم”. ويتضح من الكلمات التي استخدمها بيان السفير الإسرائيلي، مدى غطرسة الاحتلال تجاه قرارات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، حيث اعتبر الأمم المتحدة منظمة فاقدة للشرعية والمصداقية، لمجرد التصويت على قرار يدعو لهدنة إنسانية. علاوة على ذلك، قررت إسرائيل حرمان مسؤولي الأمم المتحدة من الحصول على تأشيرة الدخول، بعد خطاب لأمينها العام حول الحرب على غزة، فقد انتقد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الدعوة الإسرائيلية لإجلاء الفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها، وقال أيضًا: “إن هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر لم يحدث من فراغ، لأن الفلسطينيين يتعرضون للاحتلال الخانق منذ 56 عاماً“.
تحريض المسؤولين الإسرائيليين على العنف، وخطاب الكراهية ضد الفلسطينيين
رغم أنّه لا يوجد تعريف محدّد لخطاب الكراهية في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، إلا أنّ العديد من اتفاقيات الأمم المتحدة تشير إلى التحريض على العنف، أو الأعمال العدائية. وفقًا للأمم المتحدة: “التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية”، و”الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف”، محظوران تمامًا بموجب القانون الدولي، ويعتبران “أشد أشكال خطاب الكراهية”. ووفقًا للمادة 25-هـ، من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في عام 1998، فإنّه يُحمّل مسؤولية جنائية، ويعرّض مرتكبه للعقاب، “أي شخص “يحرض الآخرين بشكل مباشر وعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية”. في 9 تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يواف جالنت في إشارة إلى الفلسطينيين في قطاع غزة: “نحن نقاتل حيوانات بشرية”. كما قال بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي: “سنحول غزة إلى جزيرة من الخراب”. تمثل هذه التصريحات دعوة مباشرة لارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، وبما أن المحكمة الجنائية الدولية تتمتع بصلاحية النظر في الجرائم المزعومة المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنه يجب عليها، وفقًا لنظام روما الأساسي، الفقرة ه من المادة 25، التحقيق في هذه التصريحات، للتحقق من إمكانية محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع، المسؤوليْن عن تحريض الآخرين على ارتكاب الإبادة الجماعية. وقد أدانت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالعنصرية هذا البيان، باعتباره “زيادة حادة في خطاب الكراهية العنصرية والتجريد من الإنسانية”، الذي يوجهّه المسؤولون الإسرائيليّون ضدّ الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر. كما استخدم الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ نوعًا من خطاب الكراهية والتحريض على العنف ضد الفلسطينيين، وقال في بيان له: “إنها أمة بأكملها هي المسؤولة، وسنقاتل حتى نكسر ظهورهم”. وبحسب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فإن جريمة الإبادة الجماعية يمكن أن تحدث في أوقات الحرب أو السلم، وتلزم الدول باتخاذ التدابير اللازمة لمنعها، ومعاقبة مرتكبيها. يتسحاق هرتسوغ كمسؤول إسرائيلي، بدلًا من الانصياع للالتزامات الدولية من خلال اتخاذ إجراءات لمنع جريمة الإبادة الجماعية، شجع مستوطنيه على ارتكاب جرائم، وإبادة جماعية ضد الفلسطينيين، ولذلك، يجب أن يحاسب أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
هذه العوامل الثلاثة: عضوية إسرائيل المشروطة في الأمم المتحدة، وتجاهل قرارات الأمم المتحدة والتعامل بغطرسة مع القانون الدولي، واستخدام التحريض على الإبادة الجماعية ولغة الكراهية، تشكّل الإطار العام للسياسة التي تنتهجها دولة الاحتلال الإسرائيلي في طريقة تعاملها مع الفلسطينيين، وذلك في تحدٍ واضح للمجتمع الدولي، وانتهاك صارخ للقوانين والأعراف الدولية، مرسخة بذلك ماهيتها بأنها نظام فوق القانون.
من المسؤول عن السلوك الإسرائيلي؟
لا مجال للشك في أن السبب الرئيس وراء الغطرسة الإسرائيلية، وعدم مراعاتها حقوق الإنسان والقانون الدولي، هو الدعم اللامحدود من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عمومًا، الذين كانوا لعقود من الزمن، المظلة التي تضمن إفلات إسرائيل من العقاب. وقد شجع الدعم العسكري والمالي والسياسي غير المحدود، من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول غربية أخرى، إسرائيلَ على مواصلة سياساتها العدوانية التي تنتهك القانون الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان. يجب على الولايات المتحدة والدول الغربية (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا)، التي أصدرت بيانا مشتركاً لدعم إسرائيل، أن تتحمل مسؤولية دعم الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان، والتورط بشكل مباشر أو غير مباشر في العقاب الجماعي للفلسطينيين.
منذ السابع من أكتوبر، قامت إسرائيل بقصف المستشفيات والمساجد والكنائس، والمخابز، وموظفي الأمم المتحدة، والصحفيين، والأطفال، والنازحين، مرتكبة جرائم حرب، وانتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدول، والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن عددًا من الحكومات الغربية لا تزال تعلن عن استعدادها لدعم إسرائيل بكل ما تحتاجه حتى تنهي مهمتها في غزة. وفي هذا السياق، صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يوم الجمعة 27 تشرين الأول/ أكتوبر، بأن “التاريخ سيحاكمنا جميعا“.
أصبحت سمعة المجتمع الدولي على حافة الانهيار، بعد فشله في وقف الاحتلال المستمر لفلسطين منذ 75 عامًا، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الفلسطينيين. تجري الإبادة الجماعية في غزة على الهواء مباشرة أمام مرأى ومسمع من العالم أجمع في هذه اللحظة، حيث قطع الاحتلال الإسرائيلي الإنترنت والاتصالات، والمساعدات الطبية، والوقود والإمدادات الغذائية؛ لتمهيد الطريق لنكبة جديدة. ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجازر عديدة منذ السابع من أكتوبر، وبلغ عدد الشهداء حتى الآن أكثر من 21500 شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء. أسقطت الطائرات الحربية الإسرائيلية قنابل على رؤوس المدنيين الأبرياء في قطاع غزة، تفوق بمرات، القنابل الذرية التي ألقتها أمريكا على اليابانيين في هيروشيما وناكازاكي. إن هذه المذبحة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في القرن الحادي والعشرين، والتي ارتكبتها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون، ستبقى وصمة عار على جبين الإنسانية، وسيطرز صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته بخيوط من ذهب، وسيخلد في ذاكرة التاريخ عبر الأجيال.
محمد يوسف: دكتوراة في القانون الدولي/ أنقرة