“كتيبة جنين” و “عرين الأسود”: أذرع مقاومة عابرة للأطر التنظيمية
د. إياد أبو زنيط
- استطاعت “كتيبة جنين” و”عرين الأسود” خلق حالة التفاف شعبي فلسطيني كبير، في الشارع الفلسطيني مرده سلوكهما؛ لكونهما حالة جمعية موحدة.
- “كتيبة جنين” و”عرين الأسود”، تغييرٌ واضح لمفهوم الفلسطيني الجديد، وإثبات واضح على فشل صناعته ضمن مقاييس الاحتلال أو تدجينيه.
- فراغ الساحة الفلسطينية من العمل المنظم، واقتصاره لفترةٍ طويلة على عمل فردي شكلت أحد أسباب ظهور “كتيبة جنين” و”عرين الأسود”.
- منهج التفكير المختلف الذي اتبعته المجموعات الجديد، والانتقال بالحالة من القول إلى الفعل، وتجاوز النقد وصولاً إلى العمل مباشرة، كانت أحد أسباب الشعبية المكتسبة فلسطينياً.
- بإمكان المنظمات الجديدة تجاوز الأطر التنظيمية التقليدية فلسطينياً، إذا ما اكتفت الأخيرة بالمشاهدة، خاصة وأن الأولى وضعتها في حالة اختبار حقيقي، يُمكن للشارع تقييمه والحكم عليه.
حظيت “كتيبة جنين” و”عرين الأسود” بحالة استقطاب من الدعم والتأييد الشعبي، تلك الأسماء التي ترتبط بالذاكرة النضالية للفلسطينيين، ليست الأسماء فقط من خلقت هذا الالتفاف، وإنما صناعة الحدث كانت السبب الأبرز، تصدر عناوين الأخبار والبحث، حول مجموعاتٍ موقنة مدركة لما يجري، تُوجه جهودها، وأساليب مقاومتها نحو الاحتلال، تصوغ بيانتها بلغة قوية بعيدة عن الركاكة، والديباجات المستهلكة والمصطلحات الممجوجة، وتُعيد إلى الشارع الفلسطيني أدبيات الخطاب الثوري، رايات مختلفة، ومقاطع من خطابات متنوعة لقادة من شتى الفصائل والتنظيمات تتبناها تلك المجموعات توحي بجدية العمل، وتنبذ أي خلافات فصائلية، تربط فوهات بنادقها برايات حمراء تقول أنّها إشارة إلى أن تلك البنادق تعرف طريقها في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ولا تُستنزف طلقاتها في الهواء.
ولادةٌ حديثة لمجموعات مشكلة، تصوغ مفاهيمها خارج الأطر التنظيمية المعروفة، ولا تنضوي تحت عباءتها رغم إيمانها بها، مشكلةٌ من مشارب مختلفة، وتوجهات متباينة، لكنها التقت واجتمعت على فكرة رئيسة، تكمن أهميتها في أن المقاومة وسيلة التحرر ونيل الحقوق، جماعة لاقت اهتماماً كبيراً فاق ما لاقته فصائل الشعب الفلسطيني الخمسة عشر التي اجتمعت في الجزائر مؤخراً لبحث المصالحة الفلسطينية، اهتماماً يطرحُ تساؤلاتٍ عدة حول تنامي منظمات فلسطينية جديدة عابرة للأطر التنظيمية، وأسباب هذا التنامي والعبور؟ وهو ما يبحث فيه هذا المقال.
تزايدت في الآونة الأخيرة اعتداءات الاحتلال وتكررت تباعاً، وذلك تزامن مع غياب أفق سياسي لأي حلول ممكنة، على العكس حوصرت المدن الفلسطينية، وضُيقت وسائل العيش، وأصبحت الاقتحامات “الإسرائيلية” شبه يومية، فيها اغتيالات واعتقالات ومحاصرات، وترافق ذلك مع اعتداءات مختلفة على قطاع غزة، ومطالباتٍ مجتمعية بالتضامن معها بالضفة، مطالباتٌ ضجت بها وسائل التواصل الاجتماعي، لتتحول من مطالباتٍ نظرية، إلى ولادات عملية لأفعال مقاومة، كانت في بدايتها أفعالاً فردية، لينتج عنها فيما بعد ولادات لجماعاتٍ منظمة، وجدت مساحة غير مفعلة من العمل، خلّفها التراجع الحزبي الحاصل في الحالة الفلسطينية، وتبعات الانقسام الذي ألقى بظلاله الثقيلة على الفصائل الأكبر فيه، وانشغالها بالتبعات السياسة ذات الصلة.
لم يقتصر الأمر على ترك الساحة خاليةً من العمل الجاد ضد الاحتلال على الصعيد الحزبي في الضفة الغربية، بل الحاجة الحقيقية إلى وجود نموذجٍ جامعٍ مُوحد، كانت أحد الأسباب التي أدت إلى الظهور، نماذج التضحية التي أُفرزت وأظهرت أقصى درجات الحرص على وحدة الصف، كانت لها انعكاساتها الإيجابية والدافعة نحو التفاف الشارع الفلسطيني، حول برنامج الجماعات الناشئة الجديدة، ومن ذلك توصيات الشهيد “إبراهيم النابلسي”، التي مزجت بين الحب للأم والوطن، والتوصية بالوحدة، وعدم ترك المقاومة، مثلما قدم “فتحي خازم “أبو رعد”، مثالاً للفلسطيني الصادق، المقاوم، الذي يُقدم نفسه وأبناءه فداءً للوطن، وهو يُردد كلماته تلك عن الوحدة وأهميتها، وضرورات رصف الصفوف في أحلك الأوقات التي يمر بها الإنسان، في توديع أبناءه شهداء، وعدم نسيان الوحدة، والتذكير بخطر الاحتلال والمصير الجمعي المشترك، والنأي بالنفس عن أي استقطاب حزبي، جعلت من النماذج السابقة أيقونات وحدة والتقاء، وجد فيها الشارع الفلسطيني ضالته، التي تركتها الحالة الحزبية فارغة.
على صعيد السلطة الفلسطينية، شكلت حالة الضعف التي تُعاني منها التي تمثلت بوصول المشروع السياسي إلى أفق مسدود، وعدم الإقدام على تبني مشروعٍ بديل، وتراجع حالة التمثيل الشرعي المرتبطة بإجراء الانتخابات، تآكلاً في شعبيتها، وقدرتها على فرض سيطرتها، الأمر الذي دفع باتجاه ظهور المنظمات الجديدة.
جاء ظهور أجيال شابة تقود المنظمات الفلسطينية الجديدة، مخالفاً للتوقعات، فقد أقر وزير جيش الاحتلال، أن نابلس وجنين، باتتا تُشكلان تحدياً كبيراً للجيش، وترافق ذلك مع تقرير نشرته صحيفة معاريف من إعداد الجيش، كانت خلاصته تدور حول عدم القدرة على فهم تركيبة هذه المجموعات المسلحة وخطواتها في الإعداد، وكيفية تفكيرها، وامتداد رقعة اتساعها، فهي تشكل مفهوماً جديداً للعمل ضد الاحتلال، وتعمل على قيادة خطٍ وطني جديد، وهذا ما شكل من اتساع نطاقهاً أمراً عابراً للمفهوم الحزبي الموجود في الشارع الفلسطيني والأطر التنظيمية فيه، الأمر الذي لاقى قبولاً بين فئات شابة مختلفة، وجدت في هذه المنظمات الناشئة، حاضنتها الفكرية التي تعتمد على التضحية إلى أكبر حد.
إن الملاحظ من سياق تنفيذ هذه المجموعات لعملياتها؛ تبني مفهوم التضحية، وقيام قادتها بالعمل بأنفسهم دون الاكتفاء بالتوجيه والإرشاد، وهذا ما جعل منهم محل الاستهداف الأول لدى جيش الاحتلال، تلك القيادات الشابة غيرت مفهوم الفلسطيني الجديد الذي جاء مُخالفاً للتوقعات، فبعد مراهنة الاحتلال على صناعة فلسطيني جديد ترتبط مصالحه بالاحتلال، وتكون مانعاً له من العمل ضده، فإذا بجيل جديد يرى فيه السبب المباشر لتردي الوضع الفلسطيني، ويتخذ منهجاً جديداً في التفكير، لا يكتفي بإلقاء اللوم على الحركات والأحزاب الفلسطينية أو السلطة السياسية، بل يتخذ من العمل المباشر وسيلته المتبناة، وفي ذات السياق يبعث برسائله لتلك الأحزاب والسلطة السياسية، بضرورة اتباع نهجه، ولا يرى فيها منافساً أو عدواً له.
منهج التفكير هذا، كان سبباً من أسباب اتساع رقعة التأثير، والقفز عن مظلة الفصائلية والحزبية، وتعديها باتجاه رسم مسارات جديدة في العمل، جعلت الحركات الفلسطينية أمام اختبار حقيقي، فإما اتباع نفس النهج أو دعمه، أو الإقرار بعدم القدرة، والدخول في حالة من الذوبان.
شكل الخطاب النظري الذي اتبعته تلك المجموعات الناشئة، بصيغه التوحيدية الكثيرة، وتوجيه بوصلته نحو الاحتلال بشكل مباشر، خطاباً نظرياً جاذباً لشرائح واسعة في المجتمع الفلسطيني، اعتاد لسنوات طوال سماع خطاباتٍ نظرية، لا تخلو من تحميل طرف للآخر المسؤولية عن مآلات الحالة الفلسطينية، هذه الخطابات التي حملت صفةً دفاعية، لم تلبث وأن تحولت إلى أفعالٍ عملية على الأرض تترجمت في شكل ردودٍ سريعة على عمليات الاحتلال، وأصبحت تتخذ من المقاومة السبيل الأول للمواجهة، وهذا ما زاد ثقة الشارع الفلسطيني في المنظمات الناشئة، بعد اعتياده على تصريحاتٍ نظرية، قلما تتُرجم إلى أفعال، فتبني النخب الموجهة لخطابات نظرية دون قدرة على الفعل، والتلويح بالتهديد، والاكتفاء بالكلام كانت أحد الأسباب التي أدت إلى تراجع الثقة بالحركات والأحزاب الفلسطينية، وتجاوز هذه النقطة من قبل “كتيبة جنين” و”عرين الأسود”، شكلت أحد الأسباب العملية لامتلاكها وسيلة عبورٍ وتجاوزٍ للأطرِ التنظيمية التقليدية.
هنالك عدة أسباب كانت عوامل دافعة باتجاه تشكل حراكات أو منظمات فلسطينية جديدة، يُمكنها تجاوز الأطر التنظيمية التقليدية أو عبورها، ومنها ما هو موضوعي، يتعلق بمدى ممارسة الاحتلال لأقسى سياسياته العنفية تجاه الفلسطينيين، وانسداد الأفق السياسي، وحالة تغول المستوطنين في الضفة الغربية، ومنها ما هو ذاتي، يتعلق بفراغ الساحة الفلسطينية في الضفة من العمل الحزبي المنظم، وتبني المجموعات الناشئة لخطابات توحيدية موجهة، مقرونة بأفعال عملية على الأرض، واختلاف مناهج التفكير تجاه الاحتلال، من نهج يقوم على تحميل الآخر المسؤولية أو جزء منها عن النتائج الحاصلة، إلى منهجٍ يتبنى التضحية وسيلة أولى، ولا يُوجه نقده للآخرين، بل يستغل الفراغ المتروك بالعمل الجاد، فضلاً عن افتقاد الحالة الفلسطينية إلى نماذج قيادية مُلهمة.