لقاء العقبة وشرم الشيخ.. الدوافع والتحديات

عصمت منصور([1])

جمعت قمتا العقبة وشرم الشيخ لأول مرة منذ ما يزيد عن عشر سنوات، برعاية مصرية أردنية أمريكية، الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” حول طاولة مفاوضات واحدة، بهدف تجنب انفجار الوضع الأمني الميداني جراء تصاعد حالة التوتر والتصعيد الأمني على الأرض، خاصة مع اقتراب شهر رمضان، حيث إنّ تداعيات الانفجار المحتمل الذي حذرت منه جهات أمنية أمريكية و”إسرائيلية” ستكون كارثية وبعيدة المدى داخليًا واقليميًا واستراتيجيًا؛ بسبب وجود حكومة متطرفة لا تعترف بحل الدولتين، وتسعى إلى تقويضه في “إسرائيل”، بالتزامن مع حالة من الضعف والتراجع غير المسبوقة لدى السلطة الفلسطينية، وهو ما ينذر بإمكانية نهيار السلطة بشكل كلي، أو اندلاع مواجهات تقود إلى انتفاضة ثالثة.

إنّ عقد لقاء العقبة في السادس والعشرين من شباط فبراير، و لقاء شرم الشيخ في التاسع عشر من آذار مارس، يعكس المخاوف التي تتنامى لدى الدول الراعية من تداعيات حالة الضعف التي تمر بها السلطة، ووجود حكومة يمين متطرف في “إسرائيل”، ويعبر عن حالة اليأس من إمكانية عقد اتفاقيات سلام أو حتى فتح أفق سياسي في المدى المنظور، وبالتالي الاكتفاء بأهداف متواضعة (قابلة للتنفيذ) تضمن تمرير الأشهر القادمة بأقل قدر من الاحتكاك، وبما يعيد تأهيل السلطة ويضمن قدرتها على الاستمرار في أداء وظيفتها الأمنية.

دوافع اللقاء:

مارست الولايات المتحدة ومصر والأردن ضغوطًا كبيرة على “بنيامين نتنياهو” وحكومته من أجل دفعه إلى المشاركة في سلسلة اللقاءات التي رعتها هذه الدول، بهدف ضمان حالة حد أدنى من الاستقرار الأمني، وإدخال حكومة “نتنياهو” في مسار يقيد من اندفاعتها الاستيطانية، وشهية أعضائها للضم والاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأرض، وهو ما يجعل  حل الدولتين غير ممكن حتى على المدى البعيد.

وجدت “إسرائيل” في هذا اللقاء فرصة لدفع السلطة نحو اتخاذ خطوات أوسع في مواجهة أعمال المقاومة المتصاعدة، والتي عجزت منظومة الأمن عن مواجهتها، وباتت تنذر بتفجر الأوضاع، خاصة مع اقتراب شهر رمضان وحساسية الأقصى فيه، وفي ذات الوقت عدم الدخول في صدام مع الولايات المتحدة، وتهدئة مخاوف دول مؤثرة إقليميًا تربطها معها علاقات دبلوماسية، والأهم من ذلك أن هذه اللقاءات لا تفرض عليها أيّة التزامات سياسية أو تحد من حرية حركتها العدوانية.

رغم الضغوط الشعبية والمعارضة الفصائلية، وعدم وجود أيّة ضمانات بفتح أفق سياسي حقيقي، اختارت السلطة الفلسطينية المشاركة في هذه اللقاءات ذات الطبيعة الأمنية؛ وذلك بسبب أزمتها المالية الخانقة، والخشية من أنّ رفض الدعوة الأمريكية والإقليمية سيفاقم من عزلتها ويساهم في إضعافها بشكل أكبر، كما أنه قد يشجع العناصر المتطرفة في حكومة “نتنياهو” على الانقضاض على مناطق “C”، والهجوم على الأسرى، وأن يقود ذلك إلى تفجر الأوضاع ميدانيًا، وبالتالي إمكانية انهيارها بشكل فعلي.

بالرغم من الأسقف المنخفضه والصيغ الفضفاضة، فقد وجدت جميع الأطراف المشاركة في هذه اللقاءات فرصة جيدة لخلق إطار عمل وديناميكية كفيلة بأن تُكبّل الطرف “الإسرائيلي” من جهة، وتضمن وتضغط على الجانب الفلسطيني للعب دور أمني أكبر على الأرض في مواجهة المجموعات المسلحة في شمال الضفة، مقابل الإفراج عن جزء من أموال المقاصة التي تحتجزها “إسرائيل”، وتخفيف ضائقتها المالية وضمان قدرتها على الصمود.

تكمن المعضلة الأساسية التي واجهتها هذه اللقاءات في عدة أمور على مستويات عدة، فضلًا عن تنكر “نتنياهو” لها ولنتائجها، ودعوات وزراء في حكومته إلى عدم الالتزام بها وإفراغها من مضمونها، ويمكن سرد هذه المستويات على النحو التالي:

على المستوى “الإسرائيلي”: هناك تماهي أيديولوجي وتوافق سياسي بين مكونات الائتلاف الحاكم في “إسرائيل” على رفض حل الدولتين، وعدم الرغبة في التعاطي مع السلطة الفلسطينية، وتفضيل الخيار الأمني على الخيارات السياسية التي تكون مقرونة بثمن وقيود قد تفرض عليها، إضافة إلى عدم وجود ضغط خارجي حقيقي من قبل الولايات المتحدة، وانشغال الساحة الداخلية والمعارضة “الإسرائيلية” في الأزمة العميقة الغير مسبوقة التي تشهدها “إسرائيل”، كما أنّ  ضعف “نتنياهو” أمام شركائه لقناعته أنه لا يمتلك ائتلاف بديل، وأنّ هذه هي الفرصة الأخيرة أمامه للتخلص من سيف السجن المسلط عليه، وهو ما يجعله رهين مزاجية ومواقف العناصر الأكثر تطرفا في حكومته، أمثال “بتسليل سموتريتش” رئيس حزب الصهيونية الدينية، الذي دعا إلى إحراق بلدة حوارة عشية لقاء العقبة و”إيتمار بن غفير” رئيس حزب “عوتسما يهوديت”(عظمة يهودية)، الذي اعتبر أن ما أُنجز في العقبة سيبقى في العقبة، فضلًا عن عدم وجود مقاومة منظمة توقع خسائر تستنزف الاحتلال وتجبره على السعي إلى تهدئة مع السلطة وفصائل مقاومة.

على المستوى الفلسطيني: فالجانب الفلسطيني ذهب إلى لقاء العقبة ومن بعدها لقاء شرم الشيخ وهو في اضعف حالاته:

  • في ظل أزمة اقتصادية خانقة؛ بسبب اقتطاعات الاحتلال لأموال المقاصة التي تتم جبايتها نيابة عنها، وكذلك تراجع الدعم الخارجي من المانحين الغربيين والدول العربية، وسوء الإدارة واتهامات بالفساد وغياب الرقابة…الخ، وهو ما جعلها تعجز عن دفع رواتب موظفيها كاملة منذ أكثر من عام.
  • تأتي في ظل مقاطعة فصائلية ورفض شعبي، وأنّ الهدف منها هو إدخال الشعب الفلسطيني في مواجهة داخلية بسبب الضغط على السلطة ومطالبتها بمواجهة التشكيلات المسلحة في شمال الضفة.
  • عدم تعهد “إسرائيل” بوقف عدوانيتها واقتحاماتها للمدن الفلسطينية وتصفية المقاومين، أو وقف حملتها ضد الأسرى أو تجميد الاستيطان.
  • عدم فتح أفق سياسي حقيقي، وحصر وظيفة اللقاءات بالدور الإجرائي الأمني من طرف السلطة، وهو ما يلقي عليها أعباء ضمان أمن الاحتلال من جانب واحد، وهذه التزامات لا يمكنها الوفاء بها بسبب العدوانية “الإسرائيلية” من جهة، وحالة الضعف التي تعيشها السلطة من جهة أُخرى، بالإضافة إلى طبيعة المقاومة التي تتسم بكونها فردية غير منظمة، أو تستند على تشكيلات محلية صغيرة، والأهم من ذلك وجود حاضنة شعبية قوية وواسعة، والتفاف شعبي كبير حولها.

على مستوى الرعاة والوسطاء: لا يملك أي طرف من الأطراف الراعية للقاءات في العقبة وشرم الشيخ القدرة (الأردن ومصر) أو الرغبة والإرادة (الولايات المتحدة) في الضغط على حكومة “نتنياهو”، لأسباب تتعلق باهتمامات وانشغالات وأوضاع هذه الدول، أو تتعلق بمعرفة طبيعة الائتلاف “الإسرائيلي” وحدود وهامش المناورة الممكنة معه،حيث دفع هذا الوضع هذه الجهات إلى التركيز على الضغط على السلطة، ودفعها إلى الدخول في مواجهة مع المقاومين والحاضنة الشعبية التي تلتف حولهم، وهو ما ينذر باندلاع حرب أهلية.

انطلق الوسطاء والرعاة من افتراض معكوس، يفترض بأنّ الأسباب الحقيقية لحالة التصعيد ونذر تفجر الأوضاع والدخول في مواجهة شاملة، تكمن في حالة الضعف التي تعيشها السلطة الفلسطينية، وعدم قدرتها على السيطرة على المناطق التي تتواجد فيها، وبالتالي فإن تقويتها ودعمها وتأهيل عناصرها أمنيا كفيل بحل الأزمة، والانطلاق من هذا الافتراض وبناء خطط عملية مستمدة منه، لا يعفي الاحتلال وممارساته واقتحامات جيشه، وعمليات الإعدام التي يمارسها، وبناءه الاستيطاني ….الخ، من مسؤولياته فقط، بل إنه يلقي على السلطة الفلسطينية عبئ ينطوي على مخاطر كبيرة داخليًا، ولا يمكنها الايفاء به دون أن تملك أي حافز سياسي (على شكل وعد بإحياء عملية السلام) لمحاولة تجريبه، وهو ما جعل نتائج هذه اللقاءات تسقط عند أول اختبار، سواء بعمليات التصفية التي قامت بها قوات خاصة تابعة لجيش الاحتلال في مدينة جنين، أو الإعلان عن بناء مئات الوحدات الاستيطانية وأحياء جديدة في محيط القدس.

إن الخطورة لا تكمن في أنّ الالتزامات المترتبة على السلطة لا تفوق قدراتها فقط، بل وتعيد صياغة وظيفتها التي ستقتصر على حماية أمن الاحتلال، وعلى نحو يجعلها رهينة أكثر وأكثر للجانب “الإسرائيلي” في ظل عزلة داخلية، ليتحول مجرد وجودها وقدرتها على البقاء قضية مرهونة بقدرتها على الدخول في مواجهة مع أبناء شعبها.

أخيرًا، على الرغم من المكاسب “الإسرائيلية” السياسية والأمنية التي تم تحققها جراء مشاركتها في قمتي العقبة وشرم الشيخ، إلّا أنّه لا يتوقع لنتائجها أن تنجح في تغير الواقع على الأرض، بسبب عدم تضمنها صيغ واضحة وملزمة تلجم عدوانية الجيش على الأرض، وتضمن وقف بناء أو شرعنة المستوطنات، كما أنّ تركيبة الائتلاف الحكومي تجعل “نتنياهو”  في موقف ضعف أمام شركائه في اليمين المتطرف وأحزاب الصهيونية الدينية، وقد تجلى هذا الضعف في ذروة الأزمة الداخلية التي اندلعت في مواجهة الإصلاحات القضائية التي يقودها “نتنياهو”، وبلغت ذروتها بعد قرار إقالة وزير الأمن “يؤاف جالنت”، وخضوع “نتنياهو” لابتزاز وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير”، والموافقة على تشكيل “حرس وطني” يتبع للوزير مباشرة، مقابل موافقته على تجميد وتعليق تشريع الإصلاحات.

أمّا فلسطينيًا: فإنّ موافقة السلطة الفلسطينية على المشاركة في قمتي العقبة وشرم الشيخ دون ضمانات سياسية وأفق سياسي واضح، ساهمت في تكريس الطابع الأمني والوظيفي الإجرائي لهذه اللقاءات، وهو لا يعد هبوطًا في السقف السياسي الفلسطيني، فقط، ولا قبولًا بلعب دور أمني (مجاني) لصالح الاحتلال، بل يمكن اعتباره شرعنةً لجرائم وعدوانية الاحتلال واقتحاماته للمدن الفلسطينية وحملات التصفية الجماعية التي يقوم بها جنوده ووحداته الخاصة ضد المقاومين، من خلال القبول بمصطلحات مثل “مطاردة ساخنة” أو “قنبلة موقوتة”، وترك تحديد ظروف العمل أمنيًا داخل مناطق السلطة خاضعًا لتقديرات الاحتلال، ورهنه بسقف زمني (فترة اختبار) يصبح بعدها (اذا ما فشلت التجربة) مقبولًا من السلطة والأطراف التي رعت اللقاء، وهو ما ينسجم وينسحب تمامًا على قضية الاستيطان والبناء الاستيطاني، التي لم يكتفى بالتغاضي عن آلاف الوحدات التي أُقرت، والبؤر التي  شُرعِنت قبل اللقاء، ولا بأن هذه اللقاءات  لم تنجح في خلق آليات رقابة وصيغ واضحة تلزم حكومة الاحتلال الوفاء بتعهداتها، بل حولت العودة إلى البناء في المستوطنات  وشرعنة البؤر الاستيطانية أمرًا مسلمًا به.

أعطت هذه اللقاءات حكومة “نتنياهو” ما يشبه الهدنة ومتنفس في ظل الأزمة الداخلية المتصاعدة، والانتقادات الحادة التي تواجهها دوليًا وأمريكيًا بسبب سياساتها الداخلية، وتجاه القضية الفلسطينية، وتصريحات وزراءها العنصرية، وفلتان المستوطنين وميليشياتهم في مدن وبلدات الضفة، وتركت يدها طليقة استيطانيًا وأمنيًا، في الوقت الذي خفضت فيه سقف الطرف الفلسطيني سياسيًا، وكبّلته ماليًا وحمّلته أعباء أمنية لن يقوى على القيام بها، وهي عوامل لا تزيل أي من أسباب التصعيد والتوتر على الأرض، بل تفاقمها وتفتح شهية حكومة اليمين ورموزها المتطرفة وميليشيات المستوطنين إلى التمادي في عدوانيتهم، في الوقت الذي تزيد فيه من تعقيدات الحالة الفلسطينية القيادية والداخلية وعوامل ضعف السلطة بكل ما يؤدي إليه ذلك من تنامي المظاهر المقاومة والتفاف الجمهور حولها بفعل الاحتكاك اليومي مع الاحتلال ومستوطنيه والتصدي لجرائمه.


)1) كاتب صحفي متخصص في الشأن الاسرائيلي


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى