قرارات المجلس المركزي الفلسطيني: خيارات وانعكاسات
عقد المجلس المركزي الفلسطيني دورته الثلاثين في رام الله يومي 28 و 29 تشرين أول/ أكتوبر 2018، تحت شعار "دورة الخان الأحمر والدفاع عن الثوابت". وقد أقر المجلس في دورته هذه، مجموعة من القرارات التي اعتُبرت هامة وخطيرة على الصعيدين الخارجي والداخلي، إذا تم تطبيقها بالفعل. من هذه القرارات: ربط عودة العلاقات مع الإدارة الأمريكية الحالية بتراجعها عن قراراتها المجحفة تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، لا سيّما المتعلقة بالقدس ووكالة الغوث "الأنروا". وكذلك تعليق الاعتراف بـ "إسرائيل" حتى تعترف بالدولة الفلسطينية، ووقف العمل بالاتفاقيات الموقعة معها، في حال استمرت بسياساتها التهويدية والاستيطانية. إضافة إلى رفض المخطط الإسرائيلي الهادف إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، ورفض مفاوضات التهدئة بشأن قطاع غزة، التي تجري بصورة غير مباشرة بين "إسرائيل" وحركة حماس.
ومن أجل الوقوف على واقعية هذه القرارات، وإمكانية تطبيقها، وما يتعلق بها من خيارات وعقبات وانعكاسات، استطلع مركز رؤية للتنمية السياسية آراء بعض الخبراء المختصين بالشأن السياسي والقانوني الفلسطيني، الذين أجابوا على هذه التساؤلات بوضوح وشفافية. وكانت أسئلة المركز على النحو التالي: ما واقعية القرارات التي خرج بها المجلس المركزي الفلسطيني في جلسته الأخيرة؟ وهل يمتلك الفلسطينيون الخيارات أمام تطبيق هذه القرارات؟ ما العقبات التي قد تواجههم أمام تطبيقها على الصعيدين السياسي والقانوني؟ وما مدى انعكاس عدم تطبيقها على ثقة الشارع بالقرارات المستقبلية للقيادة الفلسطينية؟
تتلخص آراء الخبراء فيما يلي:
- القرارات المتعلقة بتحديد العلاقة مع الاحتلال، هي قرارات واقعية، ويمكن تطبيقها إذا توفرت الإرادة السياسية، وإذا تم إصلاح البيت الفلسطيني وإنهاء الانقسام.
- أمام الفلسطينيين خيارات عديدة، منها خيارات قانونية كالتوجه إلى محكمة الجنايات الدولية، وأخرى سياسية كالعمل على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، إلى جانب خيارات الوحدة الداخلية ومتطلباتها.
- ستواجه الفلسطينيين عقبات عديدة، أهمها الانقسام الفلسطيني، والوهن العربي، وعجز المجتمع الدولي، وقد يتعرض الفلسطينيون لتبعات عديدة أيضا، كتقليص الدعم المالي، وحظر الأنشطة والحركة.
- عدم تطبيق هذه القرارات يعني اهتزاز ثقة المواطن الفلسطيني بقيادته، وتعميق الفجوة بينهما.
الدكتور هاني موسى، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت
يرتبط تنفيذ قرارات المجلس المركزي بمحددين رئيسين: الأول ذاتي والثاني موضوعي. يتعلق المحدد الذاتي بالعمل على ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي. وهذا يتطلب توفر إرادة سياسية لدى طرفي الإنقسام بضرورة التوجه نحو الوحدة، وتجاوز خلافاتهما السياسية، والبدْء بإجراءات إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وتفعيل مؤسساتها، وحل أزمة التمثيل الفلسطيني. أما المحدد الموضوعي، فيرتبط بمدى المساندة العربية والدولية لمنظمة التحرير في تطبيق تلك القرارات. لكن من الواضح أن هذه المساندة ستكون محدودة في الوقت الراهن؛ في ظل انشغال الدول العربية بأزماتها الداخلية، وفي ظل محدودية الدور الأوروبي والروسي في التأثير على "إسرائيل"، التي تحظى حاليًا بدعم أمريكي شبه مطلق. يُضاف إلى ذلك، أن تنفيذ هذه القرارات يتطلب توفر جاهزية فلسطينية للتعاطي مع ردة الفعل الإسرائيلية، بما في ذلك احتمال قطع أموال المقاصة الضريبية، وتقييد عمل السلطة الفلسطينية، وتحركاتها الداخلية والخارجية، وسحب الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومضاعفة الاستيطان، وضم الأراضي المصنفة C، وتسريع عملية تهويد القدس الشرقية.
وفي ظل الوضع الفلسطيني والعربي الراهن، فإن خيارات الفلسطينيين المتاحة أمام تطبيق هذه القرارات، هي خيارات ضعيفة، وستبقى كذلك ما دام المشهد السياسي الداخلي، فلسطينيًا وعربيًا، على ما هو عليه. لذلك، هناك خطوات أخرى يجب أن تسبق تنفيذ تلك القرارات، أهمها حشد جميع الطاقات والإمكانيات الشعبية والحزبية والرسمية، ومؤسسات المجتمع المدني، وتكوين جبهة فلسطينية واحدة موحدة، تنطلق من رؤية مشتركة، وبرنامج عمل يحظى بإجماع الكل الفلسطيني. إن عدم الذهاب باتجاه هذا المسار التصحيحي الاستباقي، سيؤدي إلى نتائج ربما تكون عكسية، وفي أحسن الأحوال محدودة الأثر والتأثير. وفي حال عُرضت هذه القرارات على استفتاء شعبي قبل تنفيذها، يصبح الموقف الفلسطيني أكثر قوة وصلابة من ذي قبل، وهو ما يمنح الفلسطينيين قدرة تأثيرية أعلى في البيئتين الإقليمية والدولية، وفي مواجهة "إسرائيل". وفي هذا الإطار، يصبح من المهم للقيادة الفلسطينية أن ترفع سقف مطالبها، وتعيد المطالبة بتطبيق قرار التقسيم رقم 181، الذي كان شرطًا مسبقًا لقبول "إسرائيل" في الأمم المتحدة. هذا إلى جانب التوجه الفلسطيني الجاد إلى محكمة الجنايات الدولية، وطرح قضايا الاستيطان والقدس، والانتهاكات الإسرائيلية اليومية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
هناك تبعات سياسية محتملة قد تترتب على تنفيذ قرارات المجلس المركزي في ظل الوضع الراهن، أهمها عدم قدرة السلطة الفلسطينية على القيام بوظائفها في حال أقدمت "إسرائيل" على قطع أموال المقاصة الفلسطينية، وحجب الدعم المالي الذي تحصل عليه السلطة من الخارج، وحرمانها من الامتيازات مثل التنقل والسفر. وفي حال توقف التنسيق الأمني، قد يتم وقف الدعم المالي الأمريكي عن الأجهزة الأمنية الفلسطينية. هذا إلى جانب حظر أنشطة منظمة التحرير في الضفة الغربية، وتقييد حركة كوادرها. كل ما سبق يفرض على الفلسطينيين إعادة النظر في النظام القانوني والسياسي، الذي تأسس في جانب مهم منه على أطر ومرجعيات قانونية لا تلتزم بها "إسرائيل"، والمقصود هنا اتفاقيات أوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي.
ولكن في المقابل، فإن عدم تنفيذ قرارات المجلس المركزي، وإبقاء المشهد السياسي الفلسطيني المأزوم على ما هو عليه، من شأنه أن يعمق الفجوة ما بين المجتمع الفلسطيني وأطره السياسية والنخبوية، ويفقد الشعب الفلسطيني الثقة في مؤسساته الوطنية، ويُكرس حالة التشظي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ويزيد من ضعف الموقف الفلسطيني أمام "إسرائيل"، والبيئتين الإقليمية والدولية.
الدكتور جمال حنايشة، رئيس قسم العلوم السياسية في الجامعة العربية الأمريكية في جنين
ليست هذه المرة الأولى التي تخرج فيها المؤسسات الفلسطينية بقرارات، ولكن من خلال قراءة هذه القرارات، يُمكن اعتبارها قرارات سليمة وذات قيمة، تعمل على تحديد العلاقة مع الاحتلال، وهو ما نحتاجه فعلًا، ولكن يعوزها التطبيق الفعلي.
وفي الحقيقة، يمتلك الفلسطينيون العديد من الخيارات، إذا توفرت لديهم جدية وجرأة سياسية، كتلك التي ظهرت عندما أصرت القيادة الفلسطينية، منفردة تقريبًا، على مواجهة الإدارة الأمريكية، وأعلنت أنها لن توافق على الطروحات الأمريكية بشأن القضية الفلسطينية. ولكن، وكأحد الخيارات المرنة، كان من المفترض أن يقوم الفلسطينيون مباشرة بتعليق الاتفاقيات مع "إسرائيل"، وليس إنهائها، وهذا يعني أن الفلسطينيين يمتلكون خيارات متعددة، مثلما يمتلك الإسرائيليون ذلك.
كما يجب أن نكون واقعيين؛ لأنّ الواقع يفرض علينا مجموعة صعوبات، فنحن لسنا منسلخين عن الواقع الدولي والعربي والإقليمي، فهناك مجموعة من العقبات التي تحول دون تطبيق بعض هذه القرارات من الناحية السياسية، مثل الوضع الفلسطيني والعربي. ومن الناحية القانونية، حققنا مجموعة من الإنجازات والمكتسبات على الساحة الدولية، ولكننا لسنا اللاعبين الوحيدين في العالم، ولا نمتلك قوة التأثير الكبيرة، وبالتالي فإن الخيار أمامنا هو تعظيم المكاسب، وتقليل الخسائر.
ولكن يجب أن ندرك أن اتخاذ القرارات وعدم تطبيقها، كما حصل أكثر من مرة، يؤدي إلى فقدان الشارع الفلسطيني ثقته بالمؤسسة السياسية الفلسطينية، ويعمق الفجوة بينه وبينها، وهذا ما يفترض أن لا يحصل.
الدكتور سامر نجم الدين، أستاذ القانون في جامعة الخليل
حاول المجلس المركزي بقراراته التقرب من الشعب الفلسطيني، وحيازة ثقته من خلال قرارات يُمكن وصفها بأنّها مطلب للفلسطينيين. بمعنى أن القرارات كانت شعبوية تتفق مع عنوان دورته الثلاثين، خاصة بشأن العلاقة مع الاحتلال، بالرغم من أن المجلس أشار إلى المقاومة الشعبية وأيدها، وأغفل المقاومة المسلحة، مع تأكيده على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة بأشكالها كافة وفق القانون الدولي. أما باقي القرارت فلا تعدو كونها توصيات، ولا ترتقي لمستوى قرارات ملزمة، بغض النظر عن مدى إلزامية هذه القرارات، أو مدى قدرة المجلس على تحقيقها، لا سيما وأنَّ تصرفات بعض أعضائه في الواقع، تخالف قرارات المجلس.
وبشأن الخيارات، يجب أن نفرق بين الخيارات القانونية، وبين ما هو متاح سياسيًا. فالخيارات القانونية، وبالرغم من قلتها، أكثر قابلية للاستخدام من الخيارات السياسية، خاصة أن اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، هو أمر متاح، ولا قيود عليه، وهو ما أكد عليه المجلس المركزي. أمّا الخيارات السياسية، فهي واسعة وضيقة في آنٍ واحد، وليست منظمة ومعروفة كالخيارات القانونية، لكنها كثيرة، وتحتمل سيناريوهات عدة، وقد تكون غير متوقعة، وربما لا تعتمد على الفلسطينيين وحدهم؛ بسبب تعدد الدول الفاعلة على صعيد القضية الفلسطينية، والتي تُحاول إقحام نفسها بها، لتحظى بدور فاعل في عملية السلام، لذلك يجب فصل التحركات القانونية عن التحركات السياسية، وألا يكون استخدام الخيارات القانونية رهين الخيارات السياسية.
وبشأن العقبات التي تواجه الفلسطينيين، فهي على المستوى القانوني، تتمثل ابتداءً في عدم انضمام "إسرائيل" لميثاق روما (ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الدائمة). ومن الناحية الإجرائية، تتمثل هذه العقبات في ضعف بناء الملفات الخاصة بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، خاصة ما يشكل منها جرائم وفق نظام روما، أو ما يستوجب التعويض وفق نظام محكمة العدل الدولية، فكلا الحالتين تتطلبان بناء ملفات قانونية حقيقية وجدية ومكتملة. لقد كان على المجلس المركزي الإشارة إلى ضرورة تشكيل لجان متخصصة في ذلك، وعدم الاكتفاء بلجان وزارة الخارجية فقط. كذلك لا يُمكن إغفال ضرورة وجود إرادة حازمة لدى القيادة الفلسطينية، وتشجيع من مكونات النظام السياسي كافة؛ لاستكمال الإجراءات القانونية حتى نهايتها، مهما طال الأمر.
أما العقبات السياسية، فتتمثل في عدم تمتع القيادة الفلسطينية بإرادة منفردة بمعزلٍ عن القوى الإقليمية لتنفيذ قرارات المجلس المركزي. والأمر ازداد صعوبة في ظل التقارب العربي الإسرائيلي، فغدت الإحالة إلى الاتفاقيات العربية بخصوص عملية السلام، غير مجدية، أو بالأحرى قد تُجبر الفلسطينيين على قبول اتفاقيات ليس لهم دور فيها، خاصة في ظل تساوقٍ غير معلن مع ما يُطرح من موافقاتٍ عربية على صفقة القرن. كما لا يُمكن استبعاد الانقسام كعقبة أساسية أمام تطبيق قرارات المجلس، خاصة أن تكوين منظمة التحرير منقوص من حركتين تُمثلان ثقلًا شعبيًا كبيرًا، لا يُمكن تخطي إرادتهما بخصوص قرارات المجلس المركزي وتطبيقها.
يبدو أن الشارع الفلسطيني فقد الثقة بقيادته، وليس مستَغرَبًا أن معظم الفلسطينيين لم يُتابعوا أعمال المجلس المركزي، ولا قراراته. وبالتالي، فإن عدم تطبيق قرارات المركزي، يعزز فقدان الثقة بين القيادة والمواطنين، خاصة أن المواطنين يركزون على القرارات الأكثر قربًا من حياتهم اليومية، مثل التنسيق مع الاحتلال، وهو أمر لن يتمكن المركزي من وقفه. ولذا، فإن تطبيق هذا القرار هو مقياس لثقة المواطن، وكلما فشلت القيادة السياسية في التطبيق، توسعت الهوة.