المشهد الفلسطيني

قراءة في المعالجات الحكومية لإضرابات المعلمين المتكررة

صامد صنوبر[1]

يعتبر قطاع المعلمين في المدارس الحكومية من أكبر القطاعات الحكومية عددا 2، إذ يزيد عدد موظفيه على 57 ألف معلماً ومعلمة، لكنهم رغم ذلك الأقل في الرواتب والامتيازات الوظيفية بين القطاعات الأخرى، حتى سادت منذ قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 عن المعلمين مقولة بأنهم أكبر جيش بأقل موازنة، ما انعكس سلبا على أوضاعهم المادية، فاضطر كثيرون إلى العمل في أعمال أخرى إلى جانب التدريس، ما أثر في مكانة المعلم اجتماعيًا، فضلًا عن انسداد الأفق الوظيفي أمام المعلم؛ فهم محرومون من الترقيات كما أقرانهم في الوزارات الحكومية الأخرى، مثل درجة مديرC ومديرB وما بعدها، يضاف إلى ذلك عوامل أخرى مثل الفساد، 3 والتعيينات والترقيات التي تمنح لأبناء وأقرباء المسؤولين في وظائف عليا، وانعدام العدالة في توزيع الرواتب عند الأزمات، الأمر الذي ولدَّ شعورًا بالظلم لدى المعلمين. عزز هذا الواقع مجموعة من الحراكات المطلبية للمعلمين، كان أحدثها الإضراب الأخير الذي انطلق بشكل جزئي في مارس/آذار2022 وتطور فيما بعد إلى إضراب كامل، حتى أُعلِن عن وقفه بشكل نهائي في 20مايو/أيار2022.

يحاول هذا التقرير تسليط الضوء على محطات في مسيرة حراكات المعلمين الفلسطينيين ومطالبهم، وآليات التعامل معها، وإن كان الإشكال في المطالب أم في أزمة التمثيل لهم؟

إضرابات المعلمين السابقة:

نُفذت عبر السنوات الماضية العديد من الإضرابات الاحتجاجية، هدف المعلمون منها إلى تحسين وضعهم المادي والحصول على حقوقهم، سواء بالإحجام عن العمل كليًا أو جزئيًا، مع التوجه إلى مكان العمل والمغادرة قبل انتهاء الدوام الاعتيادي غالبًا، وذلك للضغط على الحكومة للحصول على بعض المطالب، في ضوء ما يكفله القانون الأساسي الفلسطيني.

خاض المعلمون عدة إضرابات كان أبرزها إضراب عام 1998، وإضراب عام 2000، وإضراب عام 2006 الذي حدث في عهد الحكومة العاشرة التي قادتها حركة حماس، والذي حظي بدعم السلطة وأجهزتها الأمنية، بالإضافة إلى إضراب عام 2013، وأمّا أشهرها وأكبرها؛ فكان إضراب عام 2016 الذي تخلّلته عدة اعتصامات حاشدة أمام مبنى رئاسة مجلس الوزراء في مدينة رام الله، كذلك إضراب عام 2020 الذي كان تحت شعار العدالة في توزيع الرواتب في الأزمات المالية، وأخيرًا وليس آخرًا إضراب عام 2022.

المعالجة الحكومية للإضرابات:

يلاحظ التكرار المستمر للجوء المعلمين إلى الإضراب في فترات زمنية متقاربة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول المعالجة من جانب الحكومات الفلسطينية للموضوع، حيث يغلب عليها الحلول الموضعية بدلا عن الجذرية، ويغلب على التعامل الحكومي مع الإضراب الآتي:

– غالبا ما تمنحهم الحكومات قليلًا من مطالبهم، ما يُبقي النار تحت الرماد ويؤسس بعد نهاية كل إضراب إلى إضراب جديد.

– المعالجة الأمنية لموضوع الإضرابات عن طريق تدخلات الأمن الفلسطيني، لا سيما جهازي الأمن الوقائي والمخابرات العامة، حيث قام الجهازان بالعديد من الاستدعاءات والاعتقالات لنشطاء الإضرابات، فضلًا عن الضغط بطرق مختلفة على الآخرين.

– تقوم وزارة التربية والتعليم ومديرياتها بالتلويح بالعقوبات أو تنفيذها، في محاولاتها الدائمة والمتكررة لكسر الإضرابات المختلفة، ومن أشكال العقوبات التي تنفذها وزارة التربية والتعليم الفلسطينية الحسم من رواتب المضربين وتشكيل لجان تحقيق لهم، والنقل التعسفي من مدارسهم إلى مدارس أخرى بعيدة عن أماكن سكنهم، والإنذارات النهائية بالفصل الوظيفي، والفصل من الوظيفة والإحالة إلى التقاعد القسري.

–  تقوم الوزارة بفرض رقابة على ما ينشره المعلمون على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ وصل الأمر إلى إرسال تعاميم إلى المدارس تطلب من المعلمين وتحذرهم من عواقب النشر على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يتنافى مع الحق في حرية التعبير، والتي نصت عليها المادة 19 من القانون الأساسي الفلسطيني4.

– تلجأ الحكومات الفلسطينية المختلفة والأجهزة الأمنية والإعلامية إلى التحريض على المعلمين المضربين، ووصفهم بأنهم يتبعون أجندات خارجية أو حزبية معارضة للسلطة الفلسطينية، محاولة تأجيج الرأي العام ضد المعلمين المضربين، من أجل الضغط عليهم لكسر إضرابهم والتراجع عنه.

– رفض الحوار مع ممثلي المعلمين، مبررة الأمر بافتقادهم إلى الشرعية، وأن لا شرعية سوى للاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين، الذي يعتبر ذراعًا من أذرع منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا يعد أحد أبرز مشاكل المعلمين الذي يبرز مع كل إضراب جديد، بسبب عدم ثقة غالبية كبيرة من المعلمين باتحاد المعلمين، والنظر إليه بأنه ذراع للحكومة.

أزمة التمثيل النقابي:

تُعدُّ أزمة التمثيل النقابي من أهم أسباب تكرار الإضرابات، إذ لا يوجد للمعلمين نقابة مستقلة مثل بقية القطاعات، حيث تتعامل الحكومة وتعترف فقط بالاتحاد العام للمعلمين كممثل نقابي للمعلمين، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أنشأت الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين عام 1969، حيث كانت المنظمة تعمل خارج فلسطين في ذلك الوقت، وتعاني من عدم اعتراف كثير من دول العالم بها كممثل للشعب الفلسطيني، فكانت أسباب إنشاء الاتحاد سياسيةً أكثر منها نقابية.

تعامل الاتحاد مع المعلمين على أنه جسم نقابي يمثلهم مع عودة منظمة التحرير إلى أرض فلسطين عام 1994 بعد اتفاقية أوسلو، لكن وعلى ما يبدو فهناك ملاحظات على أدائه وعدم رضا من جمهور المعلمين الذين يعتبرون الاتحاد خذلهم ووقف في وجه حقوقهم في أكثر من محطة مفصلية، بل وتخلى عن حقوقهم المطلبية في محطات أخرى خاضوا فيها  إضرابات تحت مظلته؛ ومما يدل على انعدام الثقة  أنه أسست العديد من اللجان التي قادت إضرابات المعلمين للمطالبة بحقوقهم بعيدا عن الاتحاد، وبعض هذه اللجان كانت منتخبة، الأمر الذي تفتقده الأمانة العامة لاتحاد المعلمين والتي لا تنتخب من  المعلمين، بل تخضع للمحاصصة الحزبية لفصائل منظمة التحرير غالبا.

بعد إضراب عام 2016  والذي انتهى بموجب خطاب للرئيس محمود عباس منح فيه المعلمين علاوةً على طبيعة العمل بمقدار عشرة بالمئة، موزعة على عامين، ووعد بإصلاح أوضاع الاتحاد بشكل ديمقراطي، لكن ذلك لم يحدث، وبقي المعلم عاجزًا عن انتخاب ممثليه النقابيين بشكل حر ونزيه بعيدًا عن المحاصصة الحزبية، وهنا تحرك العديد من نشطاء حراك المعلمين الموحد عام 2016 من أجل تأسيس نقابة مستقلة، تُنتخب بشكل نزيه وشفاف من قواعد المعلمين والعاملين في وزارة التربية والتعليم، وتهدف إلى تمثيل المعلمين والمطالبة بحقوقهم والنهوض بواقع التعليم في القطاع الحكومي، وبالفعل تشكلت لجان صياغة للنظام الداخلي، وجُمعت تفويضات من ما يقارب الأربعة عشر ألف معلم وعامل في وزارة التربية والتعليم، وجرى عقد المؤتمر التأسيسي لهذه النقابة، وقد كان نشطاؤها محاصرين من قبل الأمن الفلسطيني 6 في الثاني والعشرين من آب عام 2016 ، وجرى كذلك إيداع أوراق النقابة لدى وزارة العمل الفلسطينية، لكن لم تتمكن من التقدم خطوة واحدة؛ بسبب الملاحقات الأمنية لنشطائها والتضييق على أماكن اجتماعهم وإحالة عدد منهم للتقاعد القسري5بعد ذلك، وهنا نجحت السلطة في إجهاض حلم النقابة ولو مؤقتًا، لكن ظلت تبرز الحاجة الملحة في كل إضراب لوجود جسم نقابي منتخب يلم شتات المعلمين ويجمع كلمتهم.

إضراب 2022:

أعلن الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين في الرابع من نيسان/أبريل 2022 عبر بيانٍ له عزمه تنفيذ إضراب للمعلمين؛ احتجاجًا على عدم صرف الرواتب كاملةَ ومطالبةَ ببعض المطالب المادية للمعلمين لتحسين أوضاعهم المعيشية، وكانت الحكومة توقفت عن صرف الراتب كاملًا مع بداية كانون الأول عام 2021؛ بسبب احتجاز دولة الاحتلال لأموال المقاصة الفلسطينية.

يعزي بعض المراقبين سبب إعلان الاتحاد للإضراب على أنه مناكفات بين شخصيات سياسية فلسطينية داخل حركة فتح وتحديدًا بين مفوض المنظمات الشعبية في الحركة اللواء توفيق الطيراوي ورئيس الوزراء محمد اشتية الذي يشغل عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، حيث كان  الطيراوي قد هاجم اشتية في وقت سابق لإعلان الاتحاد واصفًا إياه بأنه لا يمثله في فتح ولا في الحكومة7.

انخرطت غالبية كبيرة من المعلمين في إضراب الاتحاد رغم الإخفاقات السابقة للاتحاد، وربما يأتي هذا الانخراط من انعدام الثقة لأسباب مختلفة أهمها؛ الفراغ النقابي الموجود في ظل عدم وجود نقابة للمعلمين أسوة ببقية القطاعات الأخرى، والحاجة الملحة إلى وجود حماية يعتقد المضربون بأن الاتحاد العام قادر على توفيرها للمعلمين المضربين، خصوصا في ظل حالة القمع النقابي والعقوبات التي شهدتها حراكات وإضرابات سابقة خصوصا في 2016 و2020، بالإضافة إلى قمع الحريات وملاحقة نشطاء التواصل الاجتماعي.

علق الاتحاد عبر بيانه في 21نيسان/أبريل الإضراب، مبررًا بالتوصل إلى اتفاق لم يكن مرضيًا لجماهير المعلمين على ما يبدو، مما دفعهم إلى مواصلة الإضراب خارج مظلة الاتحاد ونشر مطالبهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الملفت في هذا الإضراب هو أن المعلمين قد استخدموا مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك وتليجرام؛ للتنسيق بينهم فيما يخص فعالياتهم الاحتجاجية دون انتخاب قيادة لهم تمثلهم أمام الحكومة وهذا الإحجام للمعلمين عن انتخاب قيادة ظاهرة يعزى لعدة أسباب:

أولًا: الرغبة في التهرب من العقوبات والقمع التي مارستها الحكومة الفلسطينية بالفصل أو التقاعد القسري أو العقوبات التي مارستها الأجهزة الأمنية بالاستدعاءات والاعتقال للنشطاء السابقين في الإضرابات السابقة.

ثانيًا: الجو العام الذي شهدته الضفة الغربية من قمع للحريات بعد تأجيل الانتخابات البرلمانية نهاية نيسان عام 2021، واغتيال الناشط نزار بنات، وما تلا ذلك من حالة قمع للحريات والمظاهرات؛ أدى إلى نشر حالة من الخوف والذعر لدى جمهور الموظفين والمعلمين الذين لا يمكن فصلهم عن الجو العام للوطن الفلسطيني ككل.

ثالثا: وجود حالة من فقدان الثقة بين المعلمين أنفسهم؛ وهذا يرجع غالبا من خيبات الأمل الكثيرة التي تلقاها المعلمون في إضرابات سابقة.

الخلاصة:

إن تكرار الإضرابات يستدعي من الحكومة القيام بدراسة شاملة لواقع المعلمين ومشاكلهم، وتقود إلى القيام بخطوات عملية لتحصيل حقوقهم، بالإضافة إلى منحهم الحق بتشكيل جسم نقابي ينتخبونه بشكل مباشر ونزيه بعيدًا عن كل أشكال التدخلات الحزبية أو الحكومية بهم، فضلًا عن دراسة شاملة لتحقيق العدالة مع بقية موظفي وزارات السلطة الأخرى، وعدم الاستمرار في الحلول الموضعية التي تقود إلى المزيد من الإضرابات المستقبلية؛ ما يعني فشلا في الحفاظ على انتظام العملية التعليمية والتربوية في فلسطين.

 

المراجع:

  1. صامد صنوبر/ناشط نقابي وسياسي متقاعد قسرا من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.
  2. التقرير المنشور على وكالة الأنباء الرسمية وفا بتاريخ 23/11/2016 والذي يتحدث عن 66136 معلمًا ومعلمة في فلسطين.
  3. تأسيس الرئيس محمود عباس هيئة لمكافحة الفساد عام 2010 وتقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية لعام 2020.
  4. لا مساس بحرية الرأي ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن مع مراعاة أحكام القانون.
  5. بتاريخ 5/3/2018م أحالت الحكومة الفلسطينيّة كل من أ. صامد صنوبر و أ. أمين الصوص و أ. رجاء لحلوح إلى التقاعد القسري المبكر، وجميعهم من نشطاء حراك المعلمين الموحد عام 2016م.
  6. . بتاريخ 22/8/2016 حاصر الأمن الفلسطيني مبنى التعليم المستمر التابع لجامعة بير زيت أثناء انعقاد المؤتمر التأسيسي لنقابة المعلمين، وغطي هذا الحصار من عدة صحفيين ووسائل إعلام مثل فلسطين اليوم وقناة القدس.
  7. تصريحات اللواء توفيق الطيراوي المنشورة على شبكة قدس الإخبارية بتاريخ 20/3/2022م.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى