قراءات ”إسرائيلية” لمآلات اتفاقيات التطبيع بعد عامين على بدء توقيعها
د. عدنان أبو عامر
- المقدمة:
بدأت بعض الدول العربية قبل عامين وفي مثل هذه الأيام التوقيع على اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال “الإسرائيلي”، لاسيما الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، ضمن ما أسمته الإدارة الأمريكية زمن الرئيس دونالد ترامب “الاتفاقيات الإبراهيمية”، حيث شهد العامان الماضيان العديد من التطورات التي شملت تصاعد العلاقات الثنائية بين دولة الاحتلال وهذه الدول المطبّعة.
شكّلت اتفاقات التطبيع اختراقًا “إسرائيليًا” في المنطقة العربية، مما أضاف أبعادًا خطيرة للأمن القومي “الإسرائيلي” بمعناه الواسع، مما قد يدفع دولة الاحتلال للقيام بمزيد من الإجراءات لتعميق الاتفاقات القائمة، وتوسيع نطاق التطبيع ليشمل دولًا أخرى، ولعل الأخطر في اتفاقيات التطبيع بعد عامين على توقيعها أنها تمت بمعزل عن الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، ودون إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، كما نادت بذلك المبادرة العربية للسلام، مما أعفى الاحتلال من هذا “العبء”، وبالتالي انعكس تحسناً في موقعه الاستراتيجي في المنطقة، لأنه رغم ما شهدته من تكرار للعدوان “الإسرائيلي” على الفلسطينيين منذ توقيع الاتفاقيات، فإنها ما زالت قائمة، بل وتقوى مع مرور الوقت.
يرصد هذا التقرير كيفية تنفيذ اتفاقيات التطبيع مع هذه الدول، ويبرز أهم مجالات التعاون الثنائية بين أطراف هذه الاتفاقيات، ومدى إمكانية انضمام دول عربية وإسلامية أخرى لقطار التطبيع، فضلًا عن موقع القضية الفلسطينية من كل هذه التطورات.
- خلفية الاتفاقيات:
لقد فاجأ الإعلان عن تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والإمارات العربية المتحدة والبحرين، في 13 أغسطس 2020، كثير من الأوساط الفلسطينية والعربية و”الإسرائيلية”، تلاه بعد شهرين الإعلان عن تطبيع العلاقات مع السودان في أكتوبر 2020، وبعدهما بشهرين تبعتهما المغرب في 22 ديسمبر 2020، واتُّفق بين هذه الأطراف على إقامة علاقات دبلوماسية وسلسلة من مذكرات التفاهم.
إن تتويج النشاط الدبلوماسي بهذه الاتفاقيات العلنية ناجم عن مجموعة دوافع طويلة المدى قربت بين الأطراف المختلفة على مر السنين، جنبًا إلى جنب مع الإدارة الأمريكية، التي حددت هدفها بتعزيز العلاقات بين أطراف الاتفاقيات، بزعم أن هذه الاتفاقيات تمثل إضافة للأمن القومي الأمريكي و”الإسرائيلي”، وإيهام الدول المطبّعة أن يحفظ مصالحها الأمنية في مواجهة ما تزعمه عن تهديد إيراني مشترك في الخلفية.
تنامت العلاقات “الإسرائيلية” مع عدد من دول الخليج في السنوات الأخيرة عبر عدد من القنوات: الأمنية والاستخباراتية والاقتصادية والتجارية، بجانب ما سمي “حوار الأديان”، وعزف النشيد الوطني “الإسرائيلي” في المسابقات الرياضية لديها، وزيارة عدد من الوزراء “الإسرائيليين”، ودعوة “إسرائيل” إلى المشاركة في كثير من الفعاليات الدولية التي شهدتها بعض عواصم الخليج، مثل معرض إكسبو 2020، فضلًا عما نشره عدد من المسؤولين الخليجيين من مقالات ومقابلات مع الصحف “الإسرائيلية”.
تستعرض السطور التالية أهم ما حصل خلال العامين الماضيين من اتفاقات التطبيع “الإسرائيلي” مع الدول العربية الأربعة، واستشرافًا لما قد تسفر عنه هذه الاتفاقيات في المرحلة القادمة.
- التطبيع مع الإمارات:
تتركز أهمية العلاقات بينهما في المجال الاقتصادي، وقد سبق توقيع الاتفاقات توجهات مشتركة بين تل أبيب وأبو ظبي، حيث أنهما تنظران إلى البيئة الاستراتيجية بطريقة مماثلة، فكلاهما تخشيان طموحات زيادة وتوسيع نفوذ إيران وتركيا في المنطقة العربية، لاسيما قبل أن تطبع أبو ظبي وأنقرة علاقاتها مع الأخيرة في الأشهر الأخيرة.
يمكن القول بكثير من الثقة بعد مرور عامين أن التطبيع مع الإمارات العربية المتحدة يتقدم بوتيرة أسرع من سواها من الدول المطبّعة، ولعل ذلك، وفق التقدير “الإسرائيلي”، يرتبط بقلة عدد السكان، وغياب معارضة داخلية نشطة، مع وفرة موارد اقتصادية كبيرة، ونخبة قيادية ملتزمة بخطة استراتيجية طويلة الأجل، بعكس دول التطبيع الثلاثة الأخرى، التي تضع حساسيتها الأمنية والسياسية والديموغرافية مزيدًا من الصعوبات عليها في تقدم علاقاتها التطبيعية مع “إسرائيل”.
لم يعد سرًّا بعد مرور قرابة 24 شهرًا على توقيع اتفاق التطبيع مع الإمارات، أن تجارة الماس مع “إسرائيل” بقيمة نصف مليار دولار، تمثل أساس علاقاتهما التجارية، بجانب الزيادة الكبيرة في تجارتهما الخارجية، ففي 2019 بلغت الصادرات “الإسرائيلية” إلى الإمارات 11 مليون دولار، والواردات صفر، بينما في 2020 بلغت الصادرات 18 مليون دولار، والواردات 75 مليون دولار، وفي الأشهر الثمانية الأولى من 2021، بلغ حجم الصادرات 68 مليون دولار، والواردات 241 مليون دولار، وتشير هذه الأرقام فقط إلى تجارة السلع المبلغ عنها، باستثناء الماس، كما لا يعكس قطاع الخدمات الذي يشمل السياحة وصناعة التكنولوجيا العالية.
يعتبر “الإسرائيليون” أن ظروف التطبيع مع الإمارات يمتاز بكونه “أكثر دفئًا” مقارنة بنظيره مع مصر والأردن، بدليل التوقيع على مذكرات تفاهم واتفاقيات تعاون بينهما في مجالات الثقافة والعلوم والأمن الغذائي والماء والطب، كما لوحظ أن الإمارات أعربت عن اهتمامها بالاستثمار في المجالات الرئيسة التي تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي “الإسرائيلي”، لاسيما في المجالات الاستخبارية والعسكرية وصفقات السلاح.
- التطبيع مع البحرين:
سبق توقيع اتفاق التطبيع بين “إسرائيل” والبحرين الإشادة “الإسرائيلية” بعلاقات البحرين بالجالية اليهودية لديها، رغم أن تعدادها بالعشرات فقط، وتدير كنيسًا ومقبرة، بل إن اليهودي البحريني إبراهيم داود نونو خدم فترتين في برلمانها، وعينت قريبته هدى عزرا نونو سفيرة لها في الولايات المتحدة الأمريكية، وكما في حالة الإمارات والمغرب، فقد نشأت روابط مهمة بين تل أبيب والمنامة قبل توقيع اتفاقيات التطبيع، لاسيما في المجال الأمني، وكان هناك تمثيل “إسرائيلي” لديها تحت ستار رجال الأعمال.
في نوفمبر 2020، زار وزير خارجيتها عبد اللطيف الزياني “إسرائيل” لأول مرة، على رأس وفد رسمي يضم كبار مساعديه، ومسئولي الوزارات الحكومية الأخرى، وفي أغسطس 2021 زارها وكيل وزارة الخارجية المسؤول عن العلاقات مع “إسرائيل” عبد الله بن أحمد شيخ خليفة، وعقد خلالها لقاءات مع شخصيات وهيئات مختلفة، منها الرئيس “يتسحاق هرتسوغ” ووزير الخارجية “يائير لابيد”، قبل أن يترأس الحكومة الحالية.
أعلن في مارس 2021 بموجب اتفاق الجانبين عن قرار المملكة بفتح سفارة في تل أبيب، وفي سبتمبر وصل أول سفير بحريني إلى “إسرائيل” وهو خالد الجلاهمة وقبل وصوله غرد بالعبرية أنها “فرصة تحقيق رؤية للتعايش السلمي”، وفي ذات الشهر زار “لابيد” البحرين، باعتبارها أول زيارة رسمية لوزير “إسرائيلي” إلى المملكة، وخلالها التقى بنظيره، وافتتح السفارة “الإسرائيلية” هناك، وفي نفس اليوم بدأت شركة الطيران البحرينية تسيير رحلات مباشرة من وإلى “إسرائيل”.
بعد مرور عامين على التطبيع بين المنامة وتل أبيب، وقعت قرابة أربعين اتفاقية في مختلف المجالات، لكن المسئولين البحرينيين أبلغوا نظراءهم “الإسرائيليين” عن مشاكل يواجهونها في تنفيذ بعض الاتفاقيات، وينبع جزء كبير منها من البيروقراطية “الإسرائيلية”، ومن ذلك مثلا تأجيل اتفاقية الضرائب بين الجانبين لعدة أشهر، بسبب تحفظات مسؤولي وزارة المالية “الإسرائيلية” الذين يزعمون أن البحرين ستصبح ملاذًا ضريبيًا لرجال الأعمال “الإسرائيليين”، ونتيجة التأخير توقف التجارة والاستثمار بينهما. وهناك مثال آخر يتعلق بالسياحة، فعلى عكس الإمارات العربية المتحدة، لا يصل السياح “الإسرائيليون” بأعداد كبيرة إلى البحرين، حيث إن طيران البحرين تقلع من “إسرائيل” رحلتين أسبوعيًا، لكن الخطوط الجوية “الإسرائيلية” لم تقلع لها طائرات بعد.
- التطبيع مع المغرب:
بدأ الاتفاق بين المغرب و”إسرائيل” بالحديث عن خطط إعادة فتح مكاتب الاتصال في الرباط وتل أبيب، وإطلاق رحلات جوية مباشرة، وتشجيع التعاون في مجالات التجارة والاستثمارات والزراعة والتكنولوجيا، وتجنب الاتفاق في بداياته الإشارة إلى السفارات والسفراء، قبل أن يعلناها رسميًا قبل أشهر.
في فبراير 2021، وصل الدبلوماسي المغربي عبد الرحيم بيود إلى “إسرائيل” بصفته رئيس مكتب الاتصال المغربي، التي كانت تعمل في التسعينيات، لكنها أغلقت في أوائل العقد الأول من القرن الحالي بسبب اندلاع انتفاضة الأقصى، ومن المتوقع أن يصبح المكتب الواقع في تل أبيب سفارة إذا تقرر في الرباط رفع مستوى العلاقات رسميًا، فيما يعمل “ديفيد غوفرين” مبعوثًا ل”إسرائيل” في المغرب.
على صعيد الزيارات، فقد زار وزير الخارجية “الإسرائيلي” “ألون أوشفيز” المغرب في صيف 2021، وأرسى الأساس لاتفاقية تعاون في مجال الأمن السيبراني، وتبادل البيانات وحمايتها، وأسفرت زيارة “لابيد” إلى المغرب في 11 من أغسطس 2021 عن إعلانهما بالتخطيط لرفع مستوى العلاقات إلى الدبلوماسية الكاملة، وفتح السفارات في غضون أشهر معدودة، وهو ما تم بالفعل.
في فترة لاحقة، وصلت رحلات تجارية مباشرة من “إسرائيل” إلى مراكش، فيما تخطط “إسرائيل” لتنظيم عدة رحلات أسبوعياً إلى مراكش والدار البيضاء، وفي منتصف أكتوبر أعلنت الرباط عزمها الموافقة على الاتفاقيات في مجالات الثقافة والرياضة والطيران وقعت، كما زادت التجارة بينهما، وتكاد تكون حصرية باتجاه الصادرات “الإسرائيلية” إلى المغرب التي ارتفعت من 8.1 مليون دولار في النصف الأول من 2020 إلى 13.2 مليون دولار في النصف الأول من 2021.
تعاونت “إسرائيل” والمغرب سرّاً في القضايا العسكرية والأمنية على مدى عقود، ويعد هذا الأمر الأكثر خطورة فيما تقدم، فقد شهدت هذه العلاقات خلال العامين الماضيين انخراطهما علانية، ولأول مرة، في مناورات عسكرية دولية أقيمت في “إسرائيل”، فيما وصل عدد من كبار الوزراء “الإسرائيليين” إلى الرباط أبرزهم وزير الحرب “بيني غانتس” و”أورنا باربيباي” وأيليت شاكيد” و”أوريت فاركاش هاكوهين” و”عيساوي فريج” و”غدعون ساعر”، وزارها رئيس أركان الجيش “أفيف كوخافي” ومفوض الشرطة “يعقوب شبتاي” المغرب، واجتمعوا مع نظرائهم في الرباط، استكمالًا لتعاون ثنائي في المجالات الأمنية والعسكرية.
يمنح تنامي العلاقات مع المغرب “الإسرائيليين” إطلالة أوسع على التطورات التي تشهدها بلدان شمال إفريقيا على ساحل البحر المتوسط وفي منطقة الساحل وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مما يساعد “إسرائيل” في الحصول على المستوى الاستخباراتي والاتصالات السياسية، رغم أن هذه العلاقات أثارت غضب الجزائر أكثر من مرة، ودفعتها للعمل في اتجاهات غير ملائمة لدولة الاحتلال، وآخرها محاولة القيام بدور فاعل لتعزيز المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ولا تخفي دولة الاحتلال أنها بحاجة من خلال علاقاتها مع المغرب إلى زيادة المراقبة الاستخباراتية للجزائر؛ لإيصال تحذير لها من مغبة الانزلاق في سياستها تجاه الفلسطينيين من الدعم “المعنوي” إلى المساعدة الفعالة، بما قد يكون له عواقب على مكانتها الدولية.
كما يحاول “الإسرائيليون” الاستفادة من علاقاتهم بالمغرب لزيادة نفوذهم في ليبيا بأدوات النفوذ المباشرة، الجالية اليهودية والعلاقات الإقليمية والدولية، من أجل إرساء الأسس لتحقيق اختراق فيها، رغم أنه لا يزال الواقع السياسي معقدًا ومتضاربًا بالفعل، وقبل كل شيء لا تخفي دولة الاحتلال أنها تسعى جاهدة لإلغاء مذكرة التفاهم التركية الليبية، بزعم أنها تهدد بحبس المياه الاقتصادية في “إسرائيل” وقبرص ومصر، ومنع وصول مواردها من الطاقة للأسواق الأوروبية.
- التطبيع مع السودان:
لم تسفر الاتفاقية بين “إسرائيل” والسودان حتى الآن عن نتائج ملموسة ذات مغزى، ففي يناير 2021، سافر وفد “إسرائيلي” برئاسة وزير المخابرات “إيلي كوهين” إلى الخرطوم للقاء اللواء عبد الفتاح البرهان رئيس لجنة السيادة السودانية، بجانب مسؤولين أمنيين كبار آخرين، وكانت النتيجة مذكرة تفاهم بشأن الأمن، دون الكشف عن تفاصيل باقي الاتفاقيات.
صوت مجلس الوزراء السوداني في أبريل 2021 على إلغاء قانون من عام 1958، الذي يحظر العلاقات مع “إسرائيل”، وبالتالي يسمح للجانبين بممارسة الأعمال التجارية، ورغم كل ذلك، فلم يتبادل حتى الآن السفراء بينهما، مع أن الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي “مائير بن شبات” أكدّ على أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به أمام السودان، لأن الاتفاق الثنائي لم يتقدم كما يرغب به الجانبان.
في فترة لاحقة، زار وفد أمني سوداني “إسرائيل”، والتقى نائب وزير الخارجية “عيدان رول” ووزير التعاون الإقليمي عيساوي فريج بوزير العدل السوداني في مؤتمر عقد في أبو ظبي على خلفية تقارير تفيد بأن الإدارة الأمريكية زادت الضغوط على السودان بشأن التطبيع، بعد خيبة أمله من بطء وتيرة المساعدات الاقتصادية التي توقع تلقيها من الولايات المتحدة عقب توقيع الاتفاقية مع “إسرائيل”.
لا يخفي “الإسرائيليون” إحباطهم من تباطؤ العلاقات مع الخرطوم، رغم وصول وفود رسمية عديدة من الجانبين، لكن لم يُعمَل الكثير، حيث لا توجد سفارات بينهما، ولا اتفاقيات متبادلة من أي نوع، ولا خطوط طيران، وعلاقاتهما ما زالت عالقة، وما أنجز محدود فقط، وحكومة الخرطوم تعمل الآن بكونها إدارة مؤقتة، ولعلها أحد الأسباب الرئيسة للتأخير، لأن بعض القرارات تتطلب استفتاء، ونقاشًا في البرلمان الدائم.
- تأثير الصراع على التطبيع:
شكل العدوان “الإسرائيلي” على غزة في مايو/أيار 2021 ساعة اختبار حقيقية لمدى قوة أو ضعف اتفاقيات التطبيع، صحيح أنَّ الدول المطبّعة الأربعة انتقدت “إسرائيل” لانتهاكها حقوق الفلسطينيين في المسجد الأقصى، وتدنيس حرمته، لكن اندلاع العدوان على غزة جعل مواقف تلك الدول أكثر توازناً مع مرور الوقت، من وجهة النظر “الإسرائيلية”، بحيث ألقت بعضها مسؤولية التصعيد على الجانبين: “إسرائيل” وحماس، رغم استمرار التعاطف مع الفلسطينيين.
ساهم العدوان في إبطاء زخم عدد من المبادرات الثنائية بين “إسرائيل” والدول المطبّعة، التي اضطرت لإصدار مواقف تدين هذا العدوان، لكن الانتقادات الموجهة إلى “إسرائيل” لم تُترجم إلى إجراءات عملية مثل عودة السفراء، أو إلغاء الاتفاقات، رغم أنه كلما طال أمد العدوان على غزة، زادت صعوبة الالتزام بهذا الخط السياسي، لذلك يحتمل أن تكون النهاية السريعة نسبياً للعدوان قد حال دون تآكل محتمل للاتفاقيات، وهذا يعني أنه طالما لم يحلَّ الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، فإن حاجة الزعماء العرب المستمرة لتعزيز ولائهم للقضية الفلسطينية ستثير إمكانية حدوث مواقف دبلوماسية غير مريحة، سيتعين على “إسرائيل” التعامل معها، كما أن تكرار اندلاع عدوان “إسرائيلي” على غزة مثلا، قد يدفع عددًا من الدول العربية والإسلامية الراغبة بالتطبيع بالبقاء واقفة على السياج، وعدم الانضمام إلى اتفاقيات التطبيع.
في الوقت ذاته، يزعم “الإسرائيليون” أن الاتفاقيات التطبيعية تتمتع بإمكانيات كبيرة، خاصة في المجال الاقتصادي، بزعم أنها تتيح مع دول الخليج تطوير الأنشطة الاقتصادية التي نفذت مع “إسرائيل” حتى الآن بشكل متواضع أو غير مباشر، وقبل كل شيء تعزيز العلاقات الاقتصادية في مجالات البحث والتطوير والتكنولوجيا والصحة والمناخ وحماية البيئة والمياه والصرف الصحي والزراعة المتقدمة، ومع ذلك، فإن هناك استدراكًا “إسرائيليًا” واضحًا بأن هناك فجوة كبيرة بين عدد مذكرات التفاهم والمعاملات التي وقِعَت بالفعل، بما فيها المجال الأمني، وبعض المعاملات الأخرى، رغم أن “إسرائيل” سعت من تطبيعها مع الإمارات والبحرين بالذات أن يكون لها موطئ قدم في الخليج، لتكون مقدمة لصفقات مع دول عربية أخرى، ليس لها علاقات سياسية رسمية معها على الإطلاق، فضلاً عن تطلعها لتكون بوابة لتوسيع علاقاتها الاقتصادية في آسيا.
تمثلت إحدى نتائج اتفاقيات التطبيع في تقصير مسار الرحلة إلى شرق آسيا للرحلات السياحية والتجارية والشحن، كما أن الاتفاقية مع المغرب فتحت أمام “إسرائيل” فرصة المشاركة الاقتصادية مع دول غرب إفريقيا جنوب الصحراء، وهما منطقتان عزز فيهما المغرب وجوده بشكل كبير على مدار العشرين عامًا الماضية، فضلًا عن حاجة السودان الماسة للاستثمارات الاقتصادية، مما قد يمنح “إسرائيل” فرصًا استثمارية كبيرة.
- الاستنتاجات:
أسفرت الاتفاقات الأخرى عن نتائج سياسية ملموسة، وإن كانت بدرجات متفاوتة، وقد انعكست في خمسة جوانب: تبادل السفراء، وتوقيع مزيد من الاتفاقيات، وتنظيم الرحلات المباشرة من تل أبيب وإليها، والتجارة الثنائية، والمشاركة في التدريبات العسكرية، باستثناء الاتفاقية السودانية “الإسرائيلية” التي لم تغير العلاقات الثنائية فعلاً من الناحية العملية.
بعد هذا الاستعراض لحصاد عامين كاملين من التطبيع “الإسرائيلي” العربي، يمكن الإشارة إلى أن لكل دولة مجموعة اعتبارات مختلفة تحدد تقاربها أو تباعدها عن “إسرائيل”، مما قد يدفعها لأن تتخذ عدة خطوات ستترك أثرها في مستقبل هذا التطبيع، تسخينًا أو برودًا، على النحو التالي:
- في السياق الاقتصادي الأوسع، من المتوقع أن تتجه “إسرائيل” لإعطاء الأولوية للمبادرات التي تركز على تحسين الظروف الاقتصادية للدول المطبّعة، مع إمكانية دمج مشاركة مصر والأردن في شراكاتها مع دول الخليج والمغرب، وحتى السودان، ومثل هذا التكامل، وفق التعبير “الإسرائيلي”، خاصة في المجال الاقتصادي، سيحقق مكاسب دبلوماسية تتعلق بتقليل مخاوف القاهرة وعمان من أن تل أبيب أهملتهما لصالح “المطبّعين الجدد”.
- مع دول الخليج، هناك مصلحة “إسرائيلية” في بدء التعاون والاستجابة بشكل إيجابي للمقترحات التي ستأتي منها، بعيدًا عن تجنب الحماسة المفرطة، وعدم التدخل في اقتصاديات الخليج، مع العلم أن السوق الخليجية مفتوحة للأطراف المعادية أو المتنافسة ل”إسرائيل”، لاسيما إيران، مما يتطلب الحذر في تسويق التقنيات الحساسة.
- تعتبر “إسرائيل” في الساحة الفلسطينية أن التطبيع قد يشكل حافزًا لضمان بقاء أي تصعيد عسكري مع حركة حماس في غزة قصير المدى، ومركّزًا على تجنب تعريض علاقات الاحتلال المتطورة مع العالم العربي الأوسع للخطر.
- هناك توجه “إسرائيلي” قد يتزايد في الفترة القادمة بتشجيع الأطراف العربية، على إظهار استعدادها للمشاركة في إعادة إعمار قطاع غزة، مع أن قطر والسعودية والكويت والإمارات لديها مساهمات سابقة في مثل هذه المشاريع.
- تبذل “إسرائيل” مع الولايات المتحدة جهودًا واضحة لا تخطئها العين للاستفادة من اتفاقيات التطبيع من أجل تحسين صورتها على الساحة الدولية، بما في ذلك تحسين علاقاتها مع باقي الدول الإسلامية في إفريقيا وآسيا.