المشهد الفلسطيني

فلسطين وقرار المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق بشأن جرائم الاحتلال الإسرائيلي

لتحميل الملف  هنا

الكاتبة : وصال الطناني

مقدمة: كيف نشأت فكرة الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية؟

بدأت فكرة التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 27 كانون أول/ ديسمبر 2008، بسبب بشاعة الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في تلك الحرب، والتي قد تندرج ضمن جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة جماعية ضد المدنيين والأطفال في قطاع غزة، وذلك بما يخالف المادة الرابعة من اتفاقية جنيف، التي تنص على حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. وهذه الجرائم تدخل جميعها في الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية، حسب المادة (5) من النظام الأساسي للمحكمة/ ميثاق روما، خاصة بعد استخدام الاحتلال الإسرائيلي أسلحة محرمة دوليا، مثل اليورانيوم المنضب، والفسفور الأبيض. وقد اتهمت منظمة هيومن راتيس ووتش[1] “إسرائيل” باستخدام أسلحة فسفورية، وقصف مراكز الأونروا ومدارسها، التي لجأ إليها الآلاف من المدنيين والأطفال والنساء، لاعتبارها مراكز آمنة وذات حماية، مما أسفر عن استشهاد عشرات من الأطفال والمدنيين داخل مراكز الإيواء. يُضاف إلى ذلك جرائم الإبادة، التي راح ضحيتها عائلات كاملة، شُطبت من السجل المدني، وكذلك الانتهاكات الجسيمة، التي ترتكبها “إسرائيل” في الضفة الغربية والقدس الشرقية، من إعدامات متكررة للمدنيين الفلسطينيين، والتوسع الاستيطاني غير المشروع، والمتزايد يوما بعد يوم، والتي تُعتبر جميعها انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

وبعد عملية الرصاص المصبوب، كما أسمتها “إسرائيل”، عام 2008/2009، أودعت السلطة الفلسطينية نحو 400 شكوى، لدى مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، بعضها بشكل جماعي، وبعضها بشكل فردي، لكنها لم تلقَ أي اهتمام، ولم يتم الرد عليها. وفي كانون ثاني/ يناير 2009، قام وزير العدل آنذاك علي خشان، بإيداع إعلان رسمي بموجب المادة” 12 -3″ لدى مكتب المدعي العام لويس أوكامبو، عن الجرائم التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، ولكن المدعي العام أوكامبو، أثار جدلًا حول وضع فلسطين كدولة في القانون الدولي، وقال إن الادعاء الرسمي الذي أودعه وزير العدل، لا يدخل ضمن الاختصاص المكاني للمحكمة الجنائية الدولية، باعتبار أن دولة  فلسطين لم تنضم إلى ميثاق روما، الذي يعتبر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وبعد ثلاث سنوات من المداولات، وفي 4 نيسان/ إبريل 2012، طالب أوكامبو بتسوية مسألة عضوية فلسطين أمام الأمم المتحدة[2]. وبعد جهود عديدة من قبل السلطة الفلسطينية، وفي 29 تشرين ثاني/ نوفمبر 2012، وبموجب قرار الجمعية العامة رقم” 19-67″، وبأغلبية 138 صوتا، تم منح فلسطين مركز الدولة المراقبة غير العضو في الأمم المتحدة. وبهذا الاعتراف، اختلف المركز القانوني لفلسطين، وأصبح لها شخصية الدولة، التي تمكنها من التوقيع على الاتفاقيات الدولية، أسوة بغيرها من الدول. وهنا كانت نقطة التحول الرئيسة لصالح دولة فلسطين وشعبها، وحجر الأساس الذي يمكّنها كدولة لها شخصية قانونية، من التوقيع على ميثاق روما، وبهذا تصبح عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، مما يخولها الوقوف أمام المحكمة، والمطالبة بمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي عن جرائمه ضد الشعب الفلسطيني.

في 2 كانون ثاني/ يناير 2015، وقعت فلسطين على ميثاق روما، لتصبح  رسميًا في الأول من نيسان/ إبريل 2015، دولة عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية. ومنذ هذا التاريخ، تضافرت الجهود الفلسطينية، متمثلة باللجنة الوطنية العليا، والمؤسسات الحقوقية، لتجهيز الملفات اللازمة لمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي، ومساءلته دوليا أمام المحكمة الجنائية الدولية، عن جرائمه بحق الشعب الفلسطيني. وبالفعل، أثمرت هذه الجهود عن إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية فاتو بنسودا، في 20 كانون أول/ ديسمبر 2019، بدْء فتْح التحقيق بالانتهاكات الجسيمة، التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.

دور اللجنة الوطنية العليا في الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية

تم إنشاء اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية، بناء على المرسوم الرئاسي رقم (3) لسنة 2015، وتم تعيين عضو اللجنة المركزية لحركة فتح  صائب عريقات رئيسا للجنة، التي تتألف من 40 عضوًا[3]. من مهام اللجنة القيام بإعداد وتحضير الوثائق والملفات، التي ستقوم دولة فلسطين بإحالتها إلى المحكمة الجنائية الدولية. وتقوم اللجنة الوطنية بالمشاورات اللازمة مع المحكمة الجنائية الدولية، وغيرها من المؤسسات الدولية والمحلية ذات الصلة، والمحامين، والشركات القانونية، للترافع عن الشعب الفلسطيني أمام المحكمة الجنائية. كما تتابع اللجنة الوطنية الاتصالات مع مؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية، ووضع خطة إعلامية شاملة، بخصوص مختلف المهام الملقاة على عاتقها.[4]

وبالفعل، قامت اللجنة الوطنية بالتعاقد مع مكتب محاماة، مكون من فريق من الخبراء الدوليين، لمتابعة الإجراءات القانونية أمام الادعاء العام، والترافع عن دولة فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية[5]. وقامت اللجنة الوطنية أيضا، بتشكيل لجنة تحقيق وطنية، للبحث في كل الادعاءات بارتكاب المقاومة الفلسطينية  انتهاكاتٍ لقواعد القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وذلك بغرض تجنب أن يكون الضحايا موضع إدانة، كون الدراسة الأولية التي تجريها المدعية العامة، تشمل البحث فيما إذا كانت السلطات الوطنية قد نفذت تحقيقات، أو بدأت ملاحقاتٍ قضائية في قضايا تحت نظر المحكمة، وهذا، وفقا للمادة (17) من ميثاق روما الأساسي، من أجل ضمان تطبيق مبدأ التكامل بين القضاء الوطني والمحكمة الجنائية[6]. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن البيان الصادر عن لجنة تقصي الحقائق، التابعة للأمم المتحدة، بشأن حرب 2014، أشار إلى أن المساءلة من الجانب الفلسطيني، كانت غير كافية إطلاقا[7].

و في هذا السياق قال عصام يونس[8] وهو أحد أعضاء اللجنة الوطنية للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية “إن هذه الخطوة الهامة للغاية في تاريخ الشعب الفلسطيني هي خطوة مهمة على طريق العدالة الطويل. منذ أن أصبحت فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة أصبحت لها الشخصية القانونية التي تمكنها من الانضمام لميثاق روما المنشئ للمحكمة للتحقيق في ما ارتكب من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية وهو ما قامت به دولة فلسطين في ٣١ ديسمبر٢٠١٤، وقد كان للجهود التي قامت بها السلطة الفلسطينية ومؤسسات حقوق الإنسان دور كبير في تقدم الأمور، وصولا لقرار المدعي العام للمحكمة بإعلان الانتهاء من مرحلة الفحص التمهيدي والانتقال للبدء في التحقيق، بعد أن يتم النظر في الولاية المكانية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية.

ويضيف يونس أن  اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة ضمت في عضويتها مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني والمؤسسات الرسمية ومؤسسات حقوق الإنسان وشخصيات اعتبارية وقد وفرت اللجنة غطاء سياسيا وطنيا توافقيا للذهاب للمحكمة وقد عملت اللجنة على محاولة تنسيق الجهود في الفترة الأولى من إحالة الملف إلى المحكمة، حيث قدمت دولة فلسطين عدداً من المذكرات وكذلك الحال أيضا منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية خلال العامين 2015 و2016 عدداً آخر من المذكرات إلى المحكمة

فيما يخص بعض المعيقات التي واجهت اللجنة الوطنية العليا، هو أن خلفية الأعضاء متعددة وليست قانونية لعدد منهم بل خلفيات في العمل السياسي، وعدم توفر الخبرة العميقة في النظام الأساسي للمحكمة و آليات التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية، وعدم اجتماع   أعضاء اللجنة كافة بشكل دوري، ويرى عصام يونس أن دور اللجنة الوطنية لم ينتهِ بعد؛ إذ يقع على عاتقها والمؤسسات الأخرى الرسمية لدولة فلسطين كوزارة الخارجية والنيابة العامة ومؤسسات حقوق الإنسان تنسيق كل الجهود لتعاون مثمر مع مكتب المدعية العامة وتزويده بالمعلومات والأدلة المطلوبة وتجهيز الشهود والضحايا للإدلاء بشهاداتهم أمام المحكمة”.[9]

دور وزارة الخارجية الفلسطينية

في 3 أغسطس 2015، سلم وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي المدعية العامة، وأعضاء مكتبها في مقر المحكمة، مذكرة قانونية تتضمن الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتشمل ثلاثة ملفات، هي: الانتهاكات الجسيمة التي اقترفتها سلطات الاحتلال خلال العدوان على قطاع غزة عام 2014، وجريمة الاستيطان المستمر في الضفة الغربية، وملف الانتهاكات بحق الأسرى في سجون الاحتلال. وفي 30 أكتوبر 2015، سلم المالكي مذكرة تكميلية للمذكرة القانونية السابقة. كما سلمت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية خلال عامي 2015 و 2016، ثلاث مذكرات إلى المحكمة، وبناء على هذه الخطوات، باشرت المدعية العامة فاتو بنسودا، عملية الدراسة الأولية.[10]

وإلى جانب المذكرات، أطلع وزير الخارجية الفلسطيني المدعية العامة، على اعتداءات الاحتلال، وخطورة الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية، الأمر الذي يستدعي الانتهاء من الدراسة الأولية، والانتقال إلى مرحلة فتح التحقيق بشأن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تمهيدا لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم، ووضع حد للإفلات من العقاب، وغياب العدالة. وأكد وزير الخارجية استعداد دولة فلسطين، لمواصلة التعاون مع مكتب المدعية العامة، وتزويدها بالمستندات والمعلومات المطلوبة كافة.[11]

رحبت الخارجية الفلسطينية بقرار المدعية العامة فاتو بنسودا، البدء بفتح التحقيق، وأعلنت أنها على علم بطلب المدعية العامة من الدائرة التمهيدية للمحكمة، إصدار قرار للبت في اختصاص دولة فلسطين الإقليمي. وقال المالكي إن قرار البدء بفتح التحقيق، يعد الأول من نوعه، الذي تتخذه المدعية العامة منذ إعلانها بدء الدراسة الأولية في يناير 2015، وهذا يعكس نيتها الحقيقية والجادة في فتح التحقيق الجنائي في الحالة الفلسطينية. وأكدت الخارجية على أن فلسطين ستشارك في الإجراءات القضائية، التي ستبدأ في المحكمة الجنائية الدولية، لتأكيد أن مسألة الولاية الإقليمية محسومة، وبشكل واضح، بموجب القانون الدولي.  طالبت خارجية دولة فلسطين، ضرورة  إصدار حكم عاجل من الدائرة التمهيدية الأولى، بما يتماشى مع الإطار الزمني المحدد في دليل ممارسات المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي ترى أنه سيتيح للمدعية العامة، المضي قدمًا في فتح التحقيق الجنائي، دون أي تأخير إضافي.[12]

ماهية قرار المدعية العامة وانعكاساته على الحالة الفلسطينية

منذ 16 يناير 2015، ما زالت الحالة الفلسطينية تخضع للدراسة الأولية، وذلك للتأكد من استيفاء معايير الشروع بالتحقيق من عدمه، لذا فإن قرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، الصادر بتاريخ 20 ديسمبر 2019، بفتح تحقيق شامل بشأن جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، هو اعتراف صريح بأن بنسودا لديها قناعة شخصية، بأن هناك انتهاكاتٍ جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان، تستوجب فتح التحقيق فيها، وأن هذه الجرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.[13]

لا يمكن أن تصدر المدعية العامة بنسودا قرارها، دون أن تكون قد استندت إلى حيثيات قوية من الوقائع والقوانين، تمكنها من المدافعة عن قرارها بقوة، بعدما استغرقت ما يزيد عن أربع سنوات في مرحلة الدراسة الأولية، خاصة في ظل ما تتوقعه من معارضة عنيفة من “إسرائيل”، وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما حدث بالفعل منذ اللحظة الأولى لإعلان المدعية العامة قرار فتح التحقيق[14].

الرد الإسرائيلي على قرار المحكمة الجنائية وإعاقة التحقيق الدولي

على إثر إعلان مكتب الادعاء العام للمحكمة، نيته فتح تحقيق جدي في الجرائم المرتكبة في الحالة الفلسطينية، اتهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مدعية المحكمة فاتو بنسودا، بـ “اللاسامية”، واعتبر بأن القرار يمثل “يومًا مظلمًا للحقيقة والعدالة”، وأنه “يحول المحكمة الجنائية الدولية، إلى أداة سياسية لنزع الشرعية عن دولة الاحتلال[15]“. ومن جانبه، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، أن الولايات المتحدة “تعارض بحزم”، أي تحرك للمحكمة الجنائية الدولية ضد “إسرائيل”.[16]

وكمحاولة لتشويه عمل المحكمة الجنائية وتعطيله، بدأت الصحف الإسرائيلية بمحاولة تشويه صورة المدعية العامة بنسودا وشخصيتها، عبر التذكير بسيرتها المهنية في موطنها الأصلي غامبيا، كمدعية عملت تحت حكم الطاغية السابق في غامبيا، يحيى جامبيا، و”سكوتها خلال تلك الفترة على جرائم جامبيا، وتحولها إلى ناشطة في مجال حقوق الإنسان، فقط بعد فصلها من منصبها، وبعد أن عملت تحت حكم الطاغية لسنوات[17]“.

وبموازاة مساعي تقويض شرعية المحكمة الجنائية الدولية، ومن خلال خطاب “إسرائيلي” يتهمها بالنفاق والرياء، ذكرت صحيفة “إسرائيل هيوم”، أن المستوى السياسي والقضائي في “إسرائيل”، بدأ البحث في سبل مواجهة إعلان بنسودا، وأشارت إلى أنه تم عقد أول جلسة رسمية بهذا الخصوص، لطاقم متعدد الوزارات، يشارك فيه ممثلون عن وزارات القضاء والخارجية ومجلس الأمن القومي، وذلك من أجل البحث في الخيارات المقترحة لمواجهة إعلان المحكمة، بعد الاعتراف بأن “إسرائيل” تواجه وضعًا جديدًا، في كل ما يتعلق بتعاملها مع المحكمة الجنائية الدولية[18]، التي تتابع الممارسات الإسرائيلية، منذ عقد من الزمن. ومن بين الخيارات التي طُرحت خلال الجلسة، تبني سياسة متشددة ضد المحكمة الجنائية، بما يشمل مقاطعة تامة للمحكمة، وعدم الاعتراف بها، ومنع العاملين والمفوضين من طرفها من دخول “إسرائيل”، وإلغاء تأشيراتهم، إضافة إلى الضغط على حلفاء “إسرائيل”، للامتناع عن تمويل المحكمة.[19]

التحقيق أمام المحكمة الجنائية والخطوة القادمة

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن القضايا التي رُفعت إلى المحكمة الجنائية الدولية، تشمل ثلاثة ملفات، هي ملف الاستيطان،  والحرب على غزة، وملف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي[20]. وفي حال قيام مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية، بفتح تحقيق في الانتهاكات الواقعة في الأراضي الفلسطينية، الواردة ضمن هذه الملفات الثلاث، فإن فلسطين، كدولة طرف بعد الأول من إبريل 2015، لا تملك أن توجه قرار المدعية العامة للنظر في التحقيق في حالات دون سواها. فعلى سبيل المثال، من المستبعد أن يقبل المدعي العام بقيود تحول دون ملاحقة الفلسطينيين قضائيًا، أو تفرض عليه النظر في قائمة تحقيقات حسب الطلب، بل للمحكمة أن تحاسب على كل المخالفات الداخلة ضمن اختصاصها، والمرتكبة في السياق الفلسطيني الإسرائيلي منذ 13 يونيو 2014.

ويدرس مكتب المدعي العام للمحكمة، مسائل الاختصاص والمقبولية، وبناءً عليه، واستنادا إلى الأدلة المتوفرة، يحدد الحوادث والحالات التي سوف يحقق فيها، والتي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية على الأراضي الفلسطينية. وعند اختيار حالات معينة، فإن المكتب يراعي اعتبارات أخرى، مثل خطورة الحالات المحددة، وارتباطها بسياسات وممارسات خارجة عن القواعد الدولية، إضافة إلى قدرته على متابعة كل حالة حتى النهاية، بدْءًا بجمع الأدلة، ومرورًا بالادعاء العام، وانتهاءً بجلب المجرمين المزعومين، للمثول أمام المحكمة. ويصف الخبير والبروفسور بجامعة هارفاد أليكس وايتنج، الذي كان قد عمل في مكتب المدعي العام، بأن الأمر ينطوي على إجراء موازنات دقيقة وصعبة، بين الواقعية والمبدأ.[21]

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الدائرة التمهيدية، تدرس الآن وضع فلسطين كدولة، واختصاص المحكمة الإقليمي لها. فإذا جاء القرار ببدء التحقيق إيجابيًا، فإن مجلس الأمن يستطيع أن يؤجل التحقيق، أو الملاحقة القضائية، لمدة 12 شهرًا قابلةً للتجديد، وذلك وفقًا للمادة (16) من نظام روما الأساسي، إذا ما اعتُمد قرارٌ صادرٌ بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بموافقة تسعة أعضاء دون استخدام حق النقض. وقد استُخدم هذا البند، الذي يشترط وجودَ تهديدٍ صارم للسلم والأمن الدوليين، في مناسبتين سابقتين فقط، هما القراران 1422 و1487، اللذان يمنحان حصانةً لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، من بلدان ليست طرفًا في النظام الأساسي. أما إذا قررت الدائرة التمهيدية رفض البدء بالتحقيق، فمن حق المدعية العامة، تجديد الطلب بناء على وقائع جديدة، حسب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية.

 لذا، يقع على عاتق اللجنة الوطنية العليا، والمؤسسات الحقوقية المعنية، والقيادة الفلسطينية، والأطراف ذات العلاقة، اتخاذ الخطوات التالية:

 – حث قضاة الدائرة التمهيدية لدى المحكمة الجنائية الدولية، على الانتصار للضحايا الفلسطينيين، وذلك بمنح المدعية العامة ترخيصًا قضائيًا بأغلبية أعضائها، من أجل تمكينها من مباشرة أعمال التحقيق الابتدائي، بشأن الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

– حث الدول الموقعة على نظام روما، ومؤسسات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، على ضرورة العمل على تدعيم قرار المدعية العامة.

– ضرورة استثمار الخارجية الفلسطينية، عضويتها في المكتب التنفيذي لجمعية الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، من أجل حث الفاعلين كافة لدى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، على ضمان منح المدعية العامة، الترخيص القضائي اللازم، لتمكينها من مباشرة فتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

– يجب على جميع الأطراف ذات العلاقة، والضحايا وذويهم، الاستعداد لتقديم شهاداتهم وإفاداتهم، والدلائل المتوفرة لديهم، لمساعدة مكتب المدعية العامة وفريقها، في عمليات التحقيق المتوقعة.

خاتمة: إيجابيات القرار ومعيقاته

 إيجابيات القرار

– يشكل قرار المدعية العامة فاتو بنسودا، ببدء تحقيق شامل بجرائم الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، انتصارًا للجهود الفلسطينية المبذولة منذ عام 2009، واعترافًا دوليًا بأن فلسطين، كغيرها من الدول، هي دولة لها شخصية قانونية، تمكنها من التقاضي أمام أهم محكمة دولية.

– يؤكد القرار على أن فلسطين دولة خاضعة للاحتلال، وتتعرض لانتهاكات جسيمة، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وأن جميع هذه الجرائم تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

– يؤكد القرار على أن دولة فلسطين، تتخذ من الوسائل القانونية والدبلوماسية، أداة من أجل الدفاع عن شعبها، وتقديم قادة الاحتلال للمساءلة القانونية، أمام قضاء دولي جديد، يُعتبر رمزا للعدالة الكونية.

– يمثل قرار المدعية العامة فاتو بنسودا، ردعًا قانونيًا للاحتلال الإسرائيلي، ويؤكد أن أي انتهاك لحقوق الشعب الفلسطيني، يعتبر سببا للملاحقة الجنائية لقادة الاحتلال، أمام المحكمة الجناية الدولية.

معيقات القرار

– يستغرق التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية وقتا طويلا ومضطربا، قد يزيد عن عشر سنوات، وبالتالي تبقى إمكانية إفلات المجرمين من العقاب واردة، ولأسباب متعددة.

– يشكل قرار “إسرائيل” عدم التعاون مع المحكمة، عقبة حقيقية أمام قدرة المدعي العام على التحقيق في الحالات الأكثر تعقيدًا، والمتعلقة بالأعمال العدائية التي نفذتها “إسرائيل” في قطاع غزة، والانتهاكات التي تفذتها في الضفة الغربية.

– تتلقى المحكمة الجنائية الدولية دعمًا وتمويلًا من دول كبرى، مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وهي دول غير حليفة لدولة فلسطين، خاصة الولايات المتحدة الحليف الأكبر لـ “إسرائيل”، التي دعت هذه الدول إلى قطع التمويل عن المحكمة الجنائية.

– إذا تم الانتقال إلى مرحلة التحقيق التي تستغرق وقتا طويلا، فمن المحتمل أن يتم إيقاف التحقيق في منتصفه، أو آخره، وذلك لاعتبارات متناقضة تتمثل في اعتبار مصالح العدالة، ومنع الجريمة، وواجب حماية الضحايا والشهود، وذلك حسب المادة (53)/ (1) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية.[22]

– يشمل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية جميع الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت على الأراضي الفلسطينية، سواء من الجانب الإسرائيلي أو الجانب الفلسطيني. ومن المؤكد أن “إسرائيل” سوف تدعي في دفاعها، بأنها تتعرض لانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، تتمثل بقيام حركة حماس وغيرها، بإطلاق صواريخ على أراضيها، وستطالب بمحاكمة المسؤولين عن إطلاق هذه الصواريخ، على الرغم من توافر حق  الدفاع المشروع للفلسطينيين، وعلى الرغم أيضا من أن تأثير هذه الصواريخ، لا يصل إلى حد الجسامة التي تتطلبها المحكمة الجنائية الدولية، للنظر في قضية ما.[23]

– “إسرائيل” ليست عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، وترفض الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة، مما قد يشكل عقبة أمام المحكمة الجنائية، على الرغم من قيام فلسطين في 22 كانون ثاني/ يناير 2009، بتقديم تصريح إلى المحكمة، تعترف به باختصاص المحكمة في تحديد هوية مرتكبي الجرائم على أرض فلسطين، ومحاكمتهم.

وبناء على كل ذلك، فإن مجريات الأمور بشأن التحقيق، ليست محسومة، وإنما تعتمد على القرارات الداخلية والأولية من قبل الدائرة التمهيدية، والجهود الفلسطينية، والجهود الإسرائيلية المضادة، وبالتالي يبقى الأمر ضمن الانتظار والمتابعة.

 1 موقع هيومن رايتس ووتش عبر الرابط التالي:

https://www.hrw.org/ar/report/2009/03/25/255895

2 فالنتينا أزاروف، التداعيات غير المتوقعة للتقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية، شبكة السياسات الفلسطينية، 1/4/ 2015.

https://al-shabaka.org/briefs/%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9%D8%9F/

3 انظر: المادة الخامسة من المرسوم الرئاسي رقم 3 لسنة 2015: اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية.

4 انظر: المادة الثانية من المرسوم الرئاسي رقم 3 لسنة 2015: اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية.

5 موقع مدنية الإخباري، مقابلة مع د. عصام عابدين، مؤسسة الحق، رام الله.

[6] المادة (17) من ميثاق روما تقضي بأن المحكمة الجنائية الدولية تستطيع مباشرة اختصاصها عندما تكون الجريمة مرفوعة أمام المحاكم الوطنية للدولة، لكن تلك الدولة ليس لديها القدرة أو الإرادة لمباشرة التحقيق، وإجراء المحاكمة. هذا هو جوهر مبدأ التكامل وفقا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فدورها هو دور تكميلي للقضاء الوطني، وليس بديلا عنه.

[7] صلاح عبد العاطي، التحرك أمام المحكمة الجنائية الدولية بين الجدية والتسويف، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية/ مسارات، عبر الرابط التالي  https://www.masarat.ps/article/4729/

[8]  في مقابلة أجراها لصالح مركز رؤية للتنمية السياسية.

[9] مقابلة مع الدكتور عصام يونس،  عضو اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية و مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان ،2019.12.29 ،  غزة.

  1. صلاح عبد العاطي، التحرك أمام المحكمة الجنائية الدولية بين الجدية و التسويف، مصدر سابق.

[11] مركز الزيتونة،  نشرة إخبارية يومية تعني بالشأن الفلسطيني، عبر الرابط التالي: https://books.google.ps/

[12] . للاطلاع على النسخة الكاملة من التقرير انظر الرابط التالي: https://alkhaleejonline.net/

[13] . ناجي أحمد الصديق، إضاءة على قرار المدعية العامة بفتح تحقيق في جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، صحيفة دنيا الوطن،26\12\2019، عبر الرابط : https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2019/12/26/509735.html

[14] ناجي أحمد الصديق، مصدر سابق.

  1. وكالة معا الإخبارية، عبر الرابط الاتي : http://www.maannews.net/Content.aspx?id=1003738

[16] . للاطلاع على التصريح كاملا انظر: https://www.amad.ps/ar/post/329234

  1. 17. موقع عربي21، عبر الرابط: https://arabi21.com/story/1232014/
  2. 18. وكالة سما الإخبارية، عبر الرابط :

https://samanews.ps/ar/post/400276/

[19] صلاح عبد العاطي، قرار المحكمة الجنائية الدولية، دراسة قيد النشر، 2020.

[20]  وكالة قدس نت للأنباء،  عبر الرابط : https://qudsnet.com/post/310783/

[21] فالنتينا أزاروف، مصدر سابق.

[22] فالنتينا أزاروف، مصدر سابق.

[23] محمود الفطافطة، فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية، موقع الحدث: https://www.alhadath.ps/article/2376/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى