غياب الرؤية السياسية في إقليم مضطرب
تعيش المنطقة العربية منذ سنوات أزمة مركبة، فبينما تناضل قوى وشعوب بعض الدول سلمياً للخلاص من مرحلة الدولة الشمولية والتقدم نحو بناء دولة مدنية وديمقراطية، غرقت دول أخرى في أتون حروب داخلية ذات أوجه متعددة، فحرب تخاض ضد الدكتاتورية والتسلط وينشد أصحابها الحرية والعدل، وحرب ضد التطرف و"الإرهاب"، وحروب أخرى ذات طبيعة مذهبية يريد كل طرف فيها أن يلغي وجود الآخر، وحروب بإسم المجتمع الدولي لا يعرف لها هدف محدد وتوقع ضحايا من كل الأطراف والمذاهب والاعراق.
في هذه الحروب يبدو كل شيء حاضر، الأيدولوجيا والمال والسلاح والمذاهب والمصالح…الخ، وينشغل غالبية القادة وصناع القرار وحتى المحللون في نقاش الظروف الموضوعية والذاتية والعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة على مسار الحروب الطائفية التي تضرب المنطقة، وفرص مختلف الاطراف في حسم معركة هنا أو اخرى هناك ودور القوى الدولية سواء في اشعال فتيل هذه الحروب او تحديد مسارها ومستقبلها، بينما لا يأخذ الموضوع الأهم حقه من النقاش، رغم كونه الاكثر إلحاحا واهمية،وهو طبيعة الرؤى السياسية التي تتحكم في هذه الحروب، ومدى وجود رؤية سياسية جامعة ذات تعبيرات انسانية يمكن أن تخدم المسلمين كأمة وتخدم مشاريعهم الحضارية وتخرجهم من حالة التيه التي يعيشون.
إن غياب رؤية فكرية وسياسية تلائم مكونات الأمة الفكرية والتاريخية والحضارية هو المسبب الرئيس لحالة التشرذم والفوضى والضياع التي نحياها هذه الأيام. لقد كشفت العقود التي تلت مرحلة الاستقلال في العالم العربي والاسلامي عجز مختلف الأفكار السياسية التي طرحت في العالم العربي والاسلامي، فقد فشلت المدارس الاشتراكية والقومية والعلمانية فشلا ذريعاً في تقديم نموذج سياسي يستجيب لطبيعة الشعوب العربية والاسلامية ويعبر عن هويتهم الثقافية والحضارية والانسانية، وتحولت الانظمة التي تبنت هذه الأفكار إلى دكتاتوريات فاسدة وفاشلة لم تقدم لشعوبها سوى الفقر والبطالة والذل والحرمان والتخلف.
في ذات الوقت، كشفت سنوات ما بعد "الربيع العربي" عن قصور كبير في رؤية الحركات الاسلامية، او ما يعرف بالاسلام السياسي، وأظهرت عدم قدرته على الاستجابة لمتطلبات التغيير الحضاري والسياسي في المنطقة. فرغم ان غالبية جماهير الأمة كانت تعوّل على هذه الحركات كبديل حضاري قادر على إخراجها من هامش التاريخ والحضارة، حيث إختارت غالبية الشعوب التي توفرت لها فرصة التعبير الحر عن رأيها تلك الحركات لتمثلها وتقودها في مرحلة ما بعد الأنظمة الشمولية، كما حدث في مصر وتونس وغيرهما من دول الربيع العربي؛ إلا ان هذه الجماهير كانت خيبتها كبيرة، فلم تتمكن هذه الحركات، لعوامل ذاتية وأخرى موضوعية، من حماية إرادة الشعوب وصون حقوقها وقيادتها نحو مستقبل أفضل.
ورغم إرتباط محاولات إحباط مسار التغيير، في الإقليم، بقيادة حركات الاسلام السياسي، والذي شاركت فيه قوى دولية ومحلية وعوامل داخلية معقدة، ببنية المجتمعات في المنطقة، وبعبثية وضيق أفق غالبية الأحزاب العلمانية واليسارية، إلا أن طبيعة الرؤية التي حملتها هذه الحركات تجاه الدولة والحكم والتغيير، وكذلك أدائها السياسي كان عاملا حاسماً في تسهيل مهمة قوى "الثورة المضادة" في الانقضاض على منجزات ثورات الربيع العربي.
إن محاولة اعادة بناء النظام الشمولي الفاسد وبطريقة أكثر قسوة ووحشية مما كان عليه سابقا، من قبل الدولة العميقة في المنطقة، تقاطع وتزامن مع انحراف في بوصلة الأمة وفي تقديرها لأولوياتها حيث انخرطت بشكل غير مسبوق في صراع طائفي، تطور في أكثر من موقع إلى حروب دموية، كشفت عن مستوى مخيف من الدموية والوحشية الكامن في ثقافة ووعي هذه الأمة. لقد وقع عدد من الشعوب العربية ضحية لتطرف وتوحش دول وقوى كان يعتقد انها تحمل مشاريع لإنقاذ ليس فقط الشعوب العربية بل والامة جمعاء من مأزقها التاريخي، غير أنه أتضح ان هذه الدول والقوى لا تمتلك سوى رغبة جامحة في السيطرة والحكم ولو على أشلاء مئات الالوف من المواطنين.
إن مثلث التطرف الذي يطحن المنطقة العربية اليوم، والمتمثل في الدكتاتوريات الفاسدة والجماعات المتطرفة سواء اكانت سنية أم شيعية والدول التي تقدس شيئا سوى المصالح، لا يقيم وزنا لأي من القيم أو الانسانية أو الإسلامية، فلا النفس الانسانية ولا الطفولة البريئة ولا العدل والرحمة لها مكان في قاموس القوى المتناحرة على الأرض العربية اليوم. وقد أصبح الواقع أكثر قسوة وتعقيدا بدخول عدد كبير من القوى الدولية على خط المعركة باحثة عن مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، وهي قوى سجلها التاريخي حافل بالتدمير والقتل في من اجل الهيمنة وتحقيق المصالح. وخلافا لما تدعيه هذه الدول من تدخل لصالح البحث عن حل للازمة القائمة، فقد اتضح مع الزمن انها لا تحمل أية تصورات محددة للحل، ولم تقدم هذه الدول او أي من الأطراف المتصارعة رؤى محددة قادرة على إخراج المنطقة من المأزق الذي تحياه.
رغم اهمية الدور وعظم تأثير القوى الدولية على مجريات الأمور في المنطقة العربية إلا ان العامل الأقوى والأكثر فاعلية هو ما يرتبط بارادة وقدرة سكان المنطقة أنفسهم، وهم من يتحملون المسؤولية الرئيسية عما آلت إليه الأمور في بلدانهم، وعليه فإن مسؤولية الخروج من الازمة هي مسؤولية الامة بمكوناتها المختلفة بشكل أساس.
ونحن هنا لا نقصد تبرئة الأطراف الدولية من مسؤوليتها عما آلت اليه الأوضاع، بل نهدف إلى وضع مكونات الأمة الفكرية والسياسية أمام مسؤولياتها التاريخية؛ إذ لا ينبغي ان نغفل عن أن المكون الرئيسي للأمة، وهو المكون السنّي، لا زال عاجزا بمكوناته السياسية والفكرية المختلفة عن صياغة رؤية أو مقاربة فكرية وسياسية محددة قادرة على أستيعاب مكونات الأمة بأطيافها المختلفة، وحتى الجماعات المعتدلة في هذا المكون، والتي كان يعوّل عليها، وقفت عاجزة أمام تعاظم وتوسع دور التيارات المتطرفة، التي لا تقيم وزنا لقيم التعدد والتعايش والتسامح أو اي من القيم الضرورية لتعايش مكونات الأمة المختلفة؛ وفي المقابل لا زال المكون الآخر للأمة، استنادا الى المعيار المذهبي، والمتمثل بالمكون الشيعي، بغالبيته وبالقوى المتنفذة فيه، يعيش حالة من العبثية الفكرية والسياسية حين يصر على الإحتكام في علاقته ونظرته للآخر "المسلم" استنادا الى حدث تاريخي حدث قبل 1400 عام، حين وقع الاختلاف على الأحقية في الخلافة بين علي ومعاوية، وهو حدث سياسي بإمتياز مهما حاول البعض تحميله أبعادا عقائدية او فكرية، واستغلاله ليشكل مرجعية فكرية لتشكيل موقف تجاه غيره من المسلمين.
إن غياب رؤية سياسية تعبر عن ذات الأمة وهويتها وتلائم أطيافها المختلفةهو جذر الأزمة القائمة، ووجودها هو شرط لاخراج الأمة من محنتها؛ لذا فإن على عناصر الأمة القادرة والفاعلة العمل بكل جد وبذل كل جهد لإنجاز هذه المهمة، فالعلماء والجماعات والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والدول التي نجت من آفة المذهبية مطالبون بالعمل على تقديم تصورات ورؤى محددة تخرج أبناء الامة من حالة الضياع والانقسام غير المسبوق التي يعيشونها؛ فصياغة مشروع يستند الى قيم التعددية والتسامح والحرية والحق في تقرير المصير، ويتجاوز الإدعاءات بإمتلاك الحقيقة والصوابية المطلقة للرأي والتوجه، ويفكر في المستقبل وبنائه بعيدا عن الغرق في الجدليات التاريخية أمر لا مفر منه.