غلاء الأسعار في الأسواق الفلسطينية.. تشخيص للمشكلة وتداعياتها
أ. سليمان بشارات
تمهيد
بشكل لافت ومفاجئ، ضجت الأسواق الفلسطينية بارتفاعات مباشرة للأسعار، خصوصا المواد الغذائية الأساسية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انتكاسة اقتصادية كبيرة، ضحيتها أصحاب الدخل المحدود الذين يشكلون غالبية المواطنين. فيما ظهر معها، وبشكل مواز، جملة من التساؤلات حول هذا الارتفاع المفاجئ، إن كان فعلا هو نتاج حالة عالمية فعلية، أم حالة خاصة للحالة الفلسطينية، أو خليط بينهما. وخاصة في ظل تراجع كبير أيضا لسعر الدولار مقابل الشيكل “الإسرائيلي” الذي وصل إلى قرابة 3.10 شيقل، وهو أقل سعر صرف منذ ما يزيد عن 20 عامًا.
في المقابل، وفي محاولة لامتصاص ردة الفعل الشعبية، التي قد تنتج عن هذا الارتفاع المفاجئ والسريع، هاتف الرئيس محمود عباس وزير الاقتصاد الوطني خالد العسيلي، طالبًا منه إيضاح أسباب هذا الارتفاع، وأهمية ضبطها وسبل معالجتها، ومناقشة مجلس الوزراء للموضوع في جلسته القادمة.
أما المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية إبراهيم ملحم، فقد أعلن عن إحالة 300 تاجر إلى النيابة العامة لعدم تقيدهم بالأسعار، في وقت أعلن فيه وزير الاقتصاد خالد العسيلي، أن فلسطين تنتظر موجة من الغلاء في ظل ارتفاع أسعار السلع حول العالم.
يسعى هذا التقرير، الذي يعده مركز رؤية للتنمية السياسية، لقراءة تحليلية لقضية رفع الأسعار مؤخرا في مناطق السلطة الفلسطينية وتداعياتها المحتملة.
مؤشرات رقمية لغلاء الأسعار
تشير الفوارق المرصودة بالأسعار في الأسواق إلى أنها طالت المواد التموينية الأساسية، وفي مقدمتها الطحين، والسكر، والزيوت النباتية، إضافة إلى المواد البلاستيكية، بنسب تراوحت ما بين 15-20%. إضافة إلى أسعار الدجاج وارتفاعات متتالية بأسعار مشتقات البترول منذ قرابة 5 شهور.
وبحسب تقرير المعيشة الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن الأسعار للمستهلك سجلت رقما قياسيا في الارتفاع بنسبة 0.29% خلال شهر آب/أغسطس 2021 مقارنة مع شهر تموز/يوليو 2021، بواقع 0.59% في قطاع غزة، وبنسبة 0.23% في الضفة الغربية، وبنسبة 0.15% في القدس المحتلة.
ويعزو جهاز الإحصاء، ارتفاع الأسعار بشكل أساسي لارتفاع أسعار الخضروات الطازجة بنسبة 16.83%، وأسعار البطاطا بنسبة 9.20%، وأسعار المحروقات السائلة المستخدمة كوقود للسيارات “الديزل” بنسبة 3.85%، وأسعار البيض بنسبة 3.65%، وأسعار الخضروات المجففة بنسبة 2.47%، وأسعار الزيوت النباتية بنسبة 2.25%، وأسعار المحروقات السائلة المستخدمة كوقود للسيارات “البنزين” بنسبة 1.49%.
كما تشير معطيات الإحصاء إلى أن أسعار الجملة للسلع المحلية شهد ارتفاعاً حاداً أيضاً نسبته 5.77%، حيث بلغ الرقم القياسي[1] لأسعار الجملة للسلع المحلية 132.65 خلال الربع الثالث 2021 مقارنة بـ 125.42 خلال الربع الثاني 2021، كما أن أسعار الجملة للسلع المستوردة ارتفع أيضاً بنسبة 2.04%، حيث بلغ الرقم القياسي لأسعار الجملة للسلع المستوردة 125.17 خلال الربع الثالث 2021 مقارنة بـ 122.67 خلال الربع الثاني 2021.
أسباب الارتفاع الحالي
ينطلق تبرير ارتفاع الأسعار في الوقت الحالي إلى مجموعة من العوامل، والتي يعتبرها الاقتصاديون مساهما مباشرا في الوصول إلى هذا الارتفاع السريع، وتتمثل في:
- ارتفاع أسعار الشحن والنقل: يشير التجار إلى أن هناك ارتفاعا كبيرا في أسعار الشحن والنقل بلغت نسبته 5 أضعاف السعر السابق، خاصة عمليات الشحن القادمة من دول جنوب شرق أسيا.
- استغلال التجار: وفقا لمدير عام دائرة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الوطني، فإن 3 سلع فقط ارتفع سعرها نتيجة أزمة عالمية وهي دقيق القمح والزيوت النباتية والسكر، إلا أن بعض التجار استغل الحالة ورفع من أسعار سلع إضافية.
- نقص الإنتاج العالمي نتيجة جائحة كورونا: إذ تشير بعض المعطيات إلى أن جائحة كورونا أثرت على نسبة إنتاج الشركات الكبرى التي عملت بطاقة إنتاجية 30-50% من طاقتها الإنتاجية خلال ذروة الجائحة، وهذا أدى إلى انخفاض بكميات السلع مقابل ارتفاع بالمصاريف. كما أن معطيات البنك الدولي، تشير إلى أن الجائحة أدت إلى ارتفاع أسعار الغذاء العالمية بنسبة 14% في العام الماضي، وهو ما يعني أن حالة إرباك تؤثر بشكل مباشر على الواردات لفلسطين نتاج الحالة العالمية.
- التضخم العالمي: يرجع الصحفي الاقتصادي جعفر صدقة الارتفاع لأسباب ليست محلية، وإنما مرتبطة بحالة عالمية، فكل اقتصاديات العالم تقريبًا تمر الآن بحالة تضخم مرتفعة. ويعتبر أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح نائل موسى الفلسطينيين متلقين للسعر، وأن قيمة الاستيراد تعادل تقريباً 67% من قيمة الناتج المحلي.
- غياب حالة الرقابة وتعزز احتكارية السوق فلسطينيا: كما يشير موسى أيضا إلى أنه في ظل وجود محتكرين لقطاعات معينة، وتلاعب التجار والموردين في السوق الفلسطيني، فإن ارتفاع الأسعار في فلسطين ليس انعكاسًا متساويًا لارتفاع الأسعار العالمية، خصوصاً أن السلطة الفلسطينية منذ نشأتها منحت القطاع الخاص قيادة عملية التنمية الاقتصادية والأسواق، وبالتالي تركتها للعرض والطلب.
هيكلية اقتصادية مساهمة في ارتفاع الأسعار
التعريج على الأسباب الحالية لارتفاع الأسعار ليس كافيا لفهم طبيعة الحالة الاقتصادية العامة فلسطينيا، وهو ما يعني ضرورة البحث في منطلقات تشخيصية أكثر عمقا لفهم طبيعة العوامل التي تساهم في حالة عدم استقرار السوق الفلسطيني، المتمثلة في:
أولا: الاحتكام لغلاف جمركي مع إسرائيل واتفاقية باريس: عند تحليل عوامل التأثير على الأسعار الحالية للبضائع في السوق الفلسطيني، لا يمكن تجاوز عامل مهم يتمثل في ارتهان الاقتصاد الفلسطيني لغلاف جمركي مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال السيطرة الإسرائيلية على المعابر والحركة التجارية، كما هو متضمن في بروتكول بـاريس الاقتصادي الموقع عـام 1994. هذه الحالة من شأنها أن تؤثر في طبيعة الأزمة الحالية من خلال أن إسرائيل تتعامل مع نسب الضرائب بما يتناغم ومستوى دخل الفرد داخل الكيان، والحد الأدنى للأجور فيه الذي رفع لـ(6000 آلاف شيقل) قرابة ألفي دولار، وهو لا ينطبق على الحالة الفلسطينية التي يعاني فيها غالبية المواطنين من ضعف في الدخل فيما يبلغ الحد الأدنى للأجور وفق القرار الجديد إلى 1850 شيقلا، أي قرابة 600 دولار فقط.
ثانيا: التحكم الإسرائيلي بالموارد الطبيعية: وفقا لتقرير “مؤتمـر الأمـم المتحـدة للتجـارة والتنميـة“، فإن هناك مجموعة من التشوهات التي تمس الاقتصاد الفلسطيني بسبب وجود الاحتلال، تجعل منه اقتصادا غير مستقر، وبذات الوقت يمكن أن يتأثر بمتغيرات سريعة ومفاجئة، من بينها حرمان الاحتلال الفلسطينيين من استخدام مواردهم الطبيعية، سواء نتيجة مصادرة الأراضي، أو منع الاستفادة من المياه الجوفية، أو غيرها من موارد طبيعية، وتآكل القاعدة الإنتاجية، سواء بالتحاق الأيدي العاملة بالسوق الإسرائيلي؛ لوفرة الفرص وارتفاع الأجور، أو من خلال الاستهداف المباشر للمشاريع الإنتاجية الفلسطينية. هذا الأمر يفسر كيف أن الاعتماد الفلسطيني العالي على السلع المستوردة، وبالتالي التأثر الحالي بالسوق الفلسطينية، يرتبط بأي تغيرات على حركة السلع العالمية.
ثالثا: غياب السياسات الاقتصادية والمالية الفلسطينية: منذ نشأتها في العام 1994، لم تضع السلطة الفلسطينية سياسات مالية واقتصادية، يمكن أن يبنى عليها مفهوم التنمية والاستقلالية الاقتصادية، وبقيت معتمدة بشكل أساسي على مفهوم الدعم الدولي تحت بند الإغاثة الإنسانية ودعم الميزانية، ما جعل السلطة تشبه، لحد كبير، المنظمات غير الحكومية، التي تنفذ مشاريع مموَّلة ومرهونة سياسيا، وتشكل “إسرائيل” طرفا مهما في تحديد حجم ميزانياتها، وطريقة صرفها، من خلال الضغط على الدول المانحة والممولين. أدى هذا الأمر أيضا، إلى الاعتماد على رفع الأسعار بشكل متتابع منذ نشأة السلطة الفلسطينية، وذلك نظرا لحاجتها لموارد مالية عن طريق الضرائب والرسوم، ما ينعكس بشكل واضح على الارتفاع المستمر لأسعار السلع. جعلها تعزز من حجم مواردها من خلال الضرائب التي بلغت نسبتها في العام 2020 نحو 80.2% من إيرادات الحكومة.
رابعا: النهج الاستهلاكي الجديد للمواطن الفلسطيني: شهد النهج الاستهلاكي والسلوك الاقتصادي الجديد للمواطنين الفلسطينيين في السنوات العشر الأخيرة، قفزات جعلته ذات ملامح نيوليبرالية، فأصبح مفهوم الصرف لا يقوم على معادلة حجم الدخل أو الادخار، مما شجع إلى الاقتراض من البنوك، أو التخلي عن الكثير من القطاعات الإنتاجية التقليدية، مثل الصناعة والزراعة، والتوجه المباشر نحو التجارة أو الاستثمار، مما عمق نسبة العجز في الميزان التجاري العام، وأحدث حالة من الكساد في قطاعات مختلفة. في المقابل، تم التعامل بنظام استهلاكي يصعب فيه الادخار لدى الشريحة الأكبر من المواطنين.
خامسا: هيمنة رأس المال والفساد المبني على التنفيع: تُظهر الكثير من المعطيات والتقارير الصادرة عن مؤسسات متعددة، بما فيها الائتلافُ الفلسطيني من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)، أن هناك نظاما متجددا من الفساد القائم على التنفيع، يستمد وجوده من الروابط الاجتماعية والسياسية والنخبةَ الحاكمةَ، بهدف إعادة توزيع الموارد العامة، والهيمنة على الأصول السياسية والاقتصادية، والتي بدورها تنعكس على الحالة الاقتصادية من خلال التحكم بشكل النشاط الاقتصادي. في هذا الإطار يقول وزير التخطيط السابق في السلطة الفلسطينية سمير عبدالله، إن هناك مصالح مشتركة بين الحكومة ورأس المال، وبالتالي فإن التغاضي عن ارتفاع الأسعار، هو نتاج تواطؤ من الجهات المسؤولة عن متابعة الأسعار.
التداعيات المحتملة
مما لا شك فيه أن أزمة ارتفاع أسعار المواد الأساسية في السوق الفلسطيني، حتى وإن تمت محاولة السيطرة عليها نسبيا، من خلال بعض الإجراءات أو التدخلات المباشرة، ستترك تأثيرات على المديين القريب والمتوسط، وستكون على النحو التالي:
أولاً: خلل في معيار الأمن الغذائي: يحذّر مختصون من أن استمرار ارتفاع الأسعار، سينعكس بشكل واضح على قدرة الطبقة الوسطى، ومحدودي الدخل، والأسر الفقيرة في المجتمع الفلسطيني، من اقتناء احتياجاتهم، ما يؤدي إلى خلل في معيار الأمن الغذائي بشكل مباشر، أو غير مباشر.
ثانياً: ازدياد فجوة الثقة بالسياسات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية: تحاول القيادة السياسية الفلسطينية تكثيف الحديث عن تعزيز الوعود الاقتصادية للمواطن الفلسطيني، إلا أن هذا الخطاب اصطدم بشكل سريع بحالة الغلاء التي باتت تطفو على السطح، ما وضع ثقة المواطن بالنظام السياسي على المحك، وزاد من الفجوة بينهما، وهذا ما يفسر مسارعة اتصال الرئيس محمود عباس بوزير الاقتصاد، وتصريحات الأخير بملاحقة التجار المخالفين، وإصدار مخالفات بحقهم، سعيا لامتصاص حالة الغضب الشعبي، وتخفيفا من حجم الفجوة التي قد تنشأ عن هذه الحالة.
ثالثاً: تعزيز مفهوم سيطرة رأس المال القائمة على التنفيع: برزت حالة رفض من شريحة رأس المال ورجال الأعمال لسياسات الحكومة وقراراتها في ظل جائحة كورونا، إضافة إلى الدور الذي بات واضحا لهذه الشريحة في السياسات الفلسطينية، إذ باتت طرفا مؤثرا في رسم السياسات العامة، هذا الأمر من الممكن أن يتجسد بشكل أكبر في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، وقدرة رأس المال الاحتكاري للسوق في بناء شبكة تقوم على المنفعة، وبالتالي التحكم بمفاصل الحكم.
الخلاصة
قد تكون هناك العديد من المدخلات التي يمكن أن تؤثر في تداعيات أزمة غلاء الأسعار في الحالة الفلسطينية، وكذلك النتائج المترتبة عليها، إلا أنه بات واضحا أن كل هذه المدخلات، سيكون مخرجها النهائي انعكاسا سلبيا على المواطن الفلسطيني، الذي بات لا يستطيع الموازنة في ظل حالة من الاضطراب الاقتصادي وغموض المستقبل السياسي، الأمر الذي من شأنه أن يدفع نحو احتمالات وتداعيات مستقبلية عدة، أقلها حدة رفض شعبي لهذا الواقع، أو ربما الانفجار على شكل مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي هو مسبب رئيس في استمرارية الظرف الحالي. وهو ما يستدعي بعضا من الحلول[2]:
- حصر السلع لدى الموردين وكبار التجار لمعرفة الكميات المتوافرة من آخر شحنة بهدف عدم شمولها بأي ارتفاعات في تكاليف الشحن أو الأسواق العالمية.
- خفض قيمة ضريبة القيمة المضافة وأن تعود إلى ما كانت عليه ما بين 14-15% حيث إنها في الوقت الحالي تبلغ 17%.
- الاستفادة من القوائم السلعية التي منحها بروتوكول باريس للسلطة الفلسطينية، وهي بعض الاستثناءات في قواعد الاستيراد خارج الإطار الجمركي الموحد مع الاحتلال الإسرائيلي. ما قد يساعد على وضع سياسات تجارية خاصة بفلسطين وفرص الاستيراد المباشر من خلال ما يعرف “بكوتا الاستيراد” المنصوص عليها بالبروتوكول.
- تعزيز الرقابة على السوق المحلي الفلسطيني، وإنفاذ القانون بحزم ومتابعة الشكاوى لمنع كبار التجار من الاحتكار، أو التحكم بالسوق وفقا لمبدأ العرض والطلب.
[1] – المقصود بالرقم القياسي هنا: أداة إحصائية تستخدم لقياس التغيير في الأسعار بين فترتين زمنيتين، وهنا تم القياس ما بين الربع الثاني والربع الثالث للعام 2021 والفارق بينهما يظهر نسبة الارتفاع.
[2] – هذا ملخص مجموعة من الأفكار والحلول التي قدمها خبراء اقتصاديون عبر التقارير الإعلامية والتي نشرت بالإعلام الفلسطيني بشكل مواز لحالة غلاء الأسعار التي برزت بشكل واضح في الأيام الأخيرة.