عرض كتاب: نظرة علوية على القوات البرية
- مقدمة:
تعدّ الحرب البرية موضوعًا منتظمًا لمعظم قصص إرث المعارك العسكرية، لاسيما مع جيش الاحتلال “الإسرائيلي”، الذي يستعدّ للكشف عن المزيد من هذه المعارك بشكل أساسي في الأشهر المقبلة، ضمن أحداث اليوبيل الذهبي لحرب يوم الغفران 1973، ممّا يستدعي الحاجة إلى الكتابة بأثر رجعي لبناء القوة البرية، والثقافة التنظيمية، وممارسة القوة في الأوامر والعلاقات المعقدة بين هذا الذراع البرّي وهيئة الأركان العامة.
يُقدم هذا الكتاب خصائص الحرب، وتغير دور القوات البرية، وتراجع أهميتها في حياة جيش الاحتلال، وقد خصّص في معظم فصوله وأجزائه مساحة لجوانب الثقافة التنظيمية المختلفة للمعركة البرية، خاصة فيما يتعلق بثقافة التحقيق والتخطيط التشغيلي، من خلال جهد متواصل من التدريب.
أَولى الكتاب اهتمامًا خاصًا بالبناء التنظيمي للقوات البرية، وطريقة تشغيلها من قبل القيادة العسكرية العليا، بحيث تكون خاضعة باستمرار لتغييرات تنظيمية من قبل القادة الميدانيين، منتقدًا الأداء المتراجع لقواتها الميدانية، التي تعتبر في نظره “غطاءً للهواة”، وما يتحدثون بشأنه عن ميزانية فرعية للعمليات الحربية، مما يحمل فجوات لاذعة بنسبة ثلاثين بالمائة في العلاقة بين الخطط وتنفيذها الفعلي.
- إشكاليات بنيوية:
وضع المؤلف يده على أبرز الإشكاليات التي وقعت فيها القوات البرية منذ بدء العدوانات “الإسرائيلية” على قطاع غزة منذ عام 2008، حيث ظهر نشر القوات البرية مختلفًا بشكل أساسي عمّا كان مخططًا له قبل اندلاع هذه المعارك، وقد تعرضت القوات البرية على الأرض لضغوط مستمرة، وظهور تباينات بين الخطط العملياتية من مستوى القيادة وترجمتها على الأرض، مما كشف عن شكوك داخلية وخارجية حول النجاح بتنفيذ المناورة في الحرب الفعلية، مقارنة بالقوات الجوية.
لم يتردد المؤلف في الاعتراف بوجود صراع على الهيمنة داخل سلاح المشاة، وتحديدًا بين القوات والألوية وبين الذراع والقيادة، وهي ظاهرة تكررت في العديد من المواجهات العسكرية داخل فلسطين وخارجها، سواء تعلقت بفترات العمل التشغيلي على الأقدام، أو في عربات مصفحة، وانخراط سلاح الدروع والمدفعية ومقاتلو الهندسة، ممن يقضون نصف وقتهم في مهام لا تستعد للحرب، وهي نقاط استوجبت من قبل المؤلف توجيه النقد والاتهام.
يتوسع الكتاب في حديثه عن اتساع الفجوة بين ما يخطط له جيش الاحتلال على الصعيد البرّي وقدرته على تنفيذه، في ضوء مواصلة تشكيك المستوى السياسي في قدرة نظيره العسكري على خوض عملية برية واسعة، قادرة على “تسليم البضاعة”، وفي هذه الحالة، فإنّ أيّ فشل مرتقب إبان الدخول في السيناريو البري في أيّ من الجبهات المرشحة، قد يفجر الوضع الأمني داخل “الإسرائيليين” جميعاً.
- شكوك وذرائع:
الشكوك التي يبثها الساسة “الإسرائيليون ضد العسكر بشأن ترددهم إزاء الذهاب نحو عملية برية تعيد إلى الأذهان ما حصل خلال معظم العدوانات “الإسرائيلية” على قطاع غزة بين عامي 2008-2021، فقد شكّل إخفاق الجيش في معظم هذه الحروب تنفيذ عملية برية تم التحضير لها سنوات عديدة، صفعة على وجوه جميع المشاركين فيها.
يستعين الكاتب بالعبارة الدارجة في المحافل العسكرية “الإسرائيلية” وهي “ما لم تستعد له، فلن ينجح”، في إشارة إلى الإخفاق في تنفيذ عمليات برية في عمق أراضي “العدو”، سواء داخل الأراضي الفلسطينية او اللبنانية، والاكتفاء بسلاح الجو صاحب الذراع الطويلة، الذي يحقق أكبر الأهداف بأقل الأثمان، ربما لأن القوات البرية في كل مرة لم تحضّر إعدادات مسبقة لـ”بنك الأهداف” المقرر مهاجمتها في غزة ولبنان، بما يشمله من مواقع هجومية، أمام ما تنفذه القوات الجوية والبحرية عالية القدرة، لكن تشغيل العملية البرية يطرح نفسه مرة أخرى عن مدى فاعليته، وجدوى إنفاق الجيش لميزانياته في قدرات عملياتية لن تتحقق فعلياً على الأرض.
يستحضر المؤلف ما يقوم به جيش الاحتلال منذ سنوات عديدة، من شروعه ببناء قوة كبيرة يفترض أن تهبط في عمق أراضي الخصم، تقاتله ثم تنسحب، وتنجو، من خلال خطط عملياتية لم تقدم إجابة مباشرة عن مدى تأثيرها على إخضاعه، وهو ما اتضح عمليا في كل العدوانات “الإسرائيلية” من لبنان إلى غزة، رغم خشيته الدائمة من سقوط أعداد كبيرة من الخسائر البشرية في صفوف الجنود، وتأثير هذا العدد في الجمهور “الإسرائيلي” في الجبهة الداخلية، وإمكانية أن يترافق ذلك مع اندلاع انتفاضة شعبية داخل المدن الفلسطينية المحتلة، كما حصل فيها خلال هبة رمضان 2021.
يكشف الكتاب من خلال النظر إلى السيناريوهات المعقّدة كما في التدريبات والمناورات، أنّ جيش الاحتلال قد لا يكون قادرًا على الاكتفاء بمناورة دون أخرى، مما سيؤثر في كيفية إطلاق النار، والحديث عن إمكانية التفوق على القوى المعادية ودول المواجهة في أكثر من جبهة، أو على الأقل إيقاف أو تقليل إطلاق الصواريخ على الجبهة الداخلية “الإسرائيلية”، دون منح العملية البرية الحيز المطلوب لها في المناورات الجارية، بانتظار جسر هذه الفجوة القائمة بين المستويين السياسي والعسكري.
- تناقض الخيار البري:
مع تصاعد التهديدات العسكرية المحيطة بدولة الاحتلال، لا يستثني الكتاب الحديث عن مخاطر اندلاع حرب قتالية مفتوحة مع واحدة من الجبهات الحربية، شمالا مع لبنان، وجنوبا مع غزة، وتزايد الدعوات “الإسرائيلية” بضرورة الاستعداد للذهاب إلى الخيار البري في أيّ عملية عسكرية متوقعة، مما أفسح المجال أمام المؤلف لبحث نهجين متناقضين فيما يتعلق بالعملية البرية، وعلاقتها بالتعامل مع التهديدات الحالية والمستقبلية التي تواجه دولة الاحتلال، ورغم أنّ هذا الخيار البري قد يخدم أهدافًا استراتيجية وتشغيلية محددة، فإن الكتاب يحمل إشارات ضمنية بأنه لا يضمن للاحتلال “الإسرائيلي” التفوق في مواجهة التحديات والصراعات التي تواجهه، مع أنّ الدعوات “الإسرائيلية” السريعة والحاسمة للاستعداد للعملية البرية بين حين وآخر، قد تكون شرطًا ضروريًا لتقصير مدة أيّ حملة عسكرية، وليس تمديدها، خاصة عند استخدام القوة الكاملة منذ بداية أيّ حرب، وليس مجرد خيار محتمل للاستمرار فيها، لأنه في العديد من المواجهات العسكرية التي تورطت فيها “إسرائيل” خلال العقود الثلاثة الماضية، خرجت كلها عن نطاق السيطرة، أو من سوء تقدير.
يستدرك الكتاب في التأكيد بأنّ الاستراتيجية “الإسرائيلية” الجديدة لتفعيل القوات البرية لا تهدف إلى احتلال أراض من أعدائها لفترة طويلة، لأنها تحمل كلفة باهظة من دماء جنودها، ولذلك ينبغي أن تكون الخطة التشغيلية لعملية محدودة فقط، مما قد يتطلب تعبئة قوات الاحتياط التابعة للجيش “الإسرائيلي”، رغم ما قد يصيبها من أضرار، وتعطيل أنشطتها العملياتية، والتأثير السلبي على عمليات صنع القرار السياسي، خاصة بالتزامن مع تحسين القوى المعادية لقدراتها على التسلل نحو الحدود “الإسرائيلية”، وهذا يشكل تهديدا يستدعي من دولة الاحتلال التصرف وفقًا لجدول زمني قصير لإزالة التهديد باستخدام جميع الأدوات المتاحة لها.
في ذات الوقت الذي يركز فيه الكتاب على القوات البرية، فإن الاستراتيجية “الإسرائيلية” الجديدة لخوض أي مواجهات عسكرية قادمة تستند أساساً على منح سلاح الجو مزيدًا من المرونة، بحيث يهاجم آلاف الأهداف في اليوم الواحد، من خلال تفعيل أنظمة النيران، دون القدرة على تقويض القدرات العملياتية للعدو، وتعطيلها، وقد يسلب الأصول الاستراتيجية ل”إسرائيل”، ويخلق دمارًا في جبهتها الداخلية، يردعها عن الشروع في حملة أخرى لسنوات قادمة، ويجعلها تركز كل مواردها في إصلاح الأضرار الناجمة عن هذه العملية العسكرية.
- تبدّد الإنجازات:
يضع المؤلف يده على نقطة حساسة تتعلق بخشية الأوساط العسكرية “الإسرائيلية” من تكيف الجهات المعادية لها مع التحديات المتوقعة، مما سيقود بعد عدة أيام من القتال البري مع أية جبهة كانت إلى أن ينخفض عدد الأهداف المتاحة لإطلاق النار، وهذا يعني أنّ ما تعرف بـ”النيران الدقيقة والذكية” لن تؤدي للإنجازات المرجوة من قبل جيش الاحتلال، الأمر الذي يحمل دلالة واضحة بشأن ظهور المزيد من الصعوبات لتحقيق تلك الإنجازات، في الوقت ذاته، لا يخفي المؤلف جهود القوات البرية في تأكيد السعي “الإسرائيلي” لتقصير مدة الحملة العسكرية البرية قدر الإمكان، سواء كجهد كبير مستقل، أو جهد مصاحب لإطلاق النار، رغم أنها تحافظ على وجودها في الميدان القتالي، والجهات المعادية اعتادت على مواصلة القتال ضد جيش الاحتلال، وداخل الجبهة الداخلية، مع أن احتلال أراضي العدو، ولو مؤقتًا، قد يشكل فرصة مواتية لأعداء الاحتلال لاستهداف القوات البرية على الأرض.
يحدد المؤلف أنّ الجيش “الإسرائيلي” دخل خلال العقدين الماضيين في “حلقة مفرغة” من العمليات العسكرية في أكثر من جبهة قتالية، في ظل عدم رغبته باستخدام القوات البرية، لأنها تمنح أعداءها ميزة لاستهداف الجنود على أرض الواقع، مما يتطلب إجراء إصلاح كبير للذراع البرية، لأن الجهات المعادية ل”إسرائيل” قد تستغل بقاء القوات البرية في ساحة المعركة باستخدام المتفجرات والصواريخ المضادة للدبابات، والمدفعية وغيرها من القدرات، مع أنّ التخوف “الإسرائيلي” من الدفع بقواتها البرية في المعركة لا يعني عدم تعزيز قدرة القوات النظامية والاحتياطية في وقت قصير، حيث يمكن تجنيدها، ونشرها كفرق قتالية مشتركة داخل أراضي العدو، بهدف تقويض القوة العسكرية لحزب الله وحماس، لأنه لا يمكن التغلب عليهما دون انغماس وثيق بينهما، بعيدا عن النظرية السابقة التي قضت من الجيش بتجنب المواجهة المباشرة مع القوى المعادية، قدر الإمكان.
بدا لافتًا أنّه مع تزايد المخاوف “الإسرائيلية” من اندلاع مواجهة عسكرية مع واحدة من الجبهات المرشحة للاشتعال في الحدود المجاورة للكيان “الإسرائيلي”، وسط قلق من آلاف الصواريخ التي يمتلكها حزب الله أو حماس، فإنّ الكتاب توقف عند انطباع “إسرائيلي” سائد مفاده عدم الثقة في استخدام القوات البرية، سواء في لبنان أو قطاع غزة، في ضوء تقديرات جيش الاحتلال أنّ قوى المقاومة والكيانات المعادية للاحتلال أعدّت عقبات وعوائق ميدانية تحضيرًا لأي عمليات برية ينفذها الجيش، والهدف إعادة العديد من القتلى لأهاليهم في توابيت سوداء، مما يجعل من خيار العملية البرية يتراجع لصالح الاعتماد على مئات الصواريخ.
- تردّي الاحتياط:
يستحضر الكتاب ما يصفها بـ”ذرائع” المعارضين للعمليات البرية المزمعة في لبنان أو غزة، في حال اندلاع مواجهة عسكرية، على اعتبار أن “إسرائيل دولة تكنولوجية”، ولديها أدوات أفضل وأسرع وأكثر فتكا للتعامل مع حزب الله وحماس، بديلا للهجوم البري واسع النطاق، وفي الوقت ذاته ليس هناك ثقة “إسرائيلية” كاملة بأنّ القوات البرية ستكون قادرة على أداء المهمة المطلوبة منها أيضًا، في الوقت ذاته، قد يُطلب من القوات “الإسرائيلية” البرية العمل على الدفاع عن الحدود مع لبنان وسوريا وغزة، ضد عمليات التوغل التي تقوم بها قوات كوماندوس حزب الله وحماس المخطط لها للعمل ضد المستوطنات الشمالية والجنوبية، والقضاء على الانتفاضة إذا اندلعت في الضفة الغربية، وقمع المظاهرات بين فلسطينيي48.
يورد المؤلف هذه المسألة بالاستناد إلى وثيقة عسكرية حديثة كشفت عن إخفاقات وثغرات خطيرة في عدم جاهزية القوات البرية، وهي استمرار لوثائق سابقة تحدثت عن تقصير مشابه في أعوام 2003 و2008 و2018، وكلها تقارير رسمية وضعت يدها على سلسلة إشكاليات جوهرية في أداء القوات البرية الأساسية في الجيش، ما يعني أنه لم يتم معالجتها وإخضاعها للتقييم المتواصل.
في الوقت ذاته، فإن الوثيقة التي تطرق إليها الكتاب تكشف عما يمكن تسميتها فجوات كبيرة في التدريبات والتأهيل العملياتي للقوات البرية، كما أن مواقع القوات النظامية تم تقليص أعدادها، وانتظام القوات العسكرية في مستودعات الطوارئ التابعة لقيادة المنطقتين الشمالية مع لبنان، والجنوبية مع غزة، ولعلّ مردّ هذا التخوف أنّ التقليص أدى لوجود ثغرات خطيرة تم اكتُشِفَت لدى استدعاء وحدات خاصة من جيش الاحتياط، وهذا الوضع من نقص القوى البشرية، ربما شكّل مصدر قلق لقيادة الجيش، واللافت أنّ تقارير عديدة نشرتها لجان عسكرية رسمية في سنوات سابقة، لكن الأخطاء الواردة فيها تعود وتتكرر في كل مرة، دون إصلاح.
لعل ما أورده الكتاب من شهادات وإفادات لكبار الضباط “الإسرائيليين” يتزامن مع ما دأب الجنرال “يتسحاق بن بريك” القائد السابق لشعبة الشكاوى في الجيش، من تسليطه الضوء بصورة دورية على مشاكل إضافية تبدو أكثر تجذرًا وعمقًا في القوات البرية، وما زالت مستمرة منذ سنوات طويلة، لاسيما عند النظر إلى تفاصيل هيكلية الجيش وتقسيماته، وما يكشفه من إشكاليات بنيوية في قواعده، لاسيما قاعدة تسآليم المركزية التي تتدرب فيها معظم قوات جيش الاحتياط، رغم أن المركز القومي لتدريبات القوات البرية يوجد فيه نقص بمئات الجنود من داعمي المقاتلين بالسلاح والذخيرة والاستخبارات والطبابة.
استطرد الكتاب بمزيد من التفاصيل في الحديث عما أسماه نقصا في المعدات اللازمة لمواجهة أضرار التدريبات البرية، ومدرسة القيادة والسيطرة والتحكم فيها نقص بأجهزة حواسيب، بجانب عدم وجود عدد كاف من أجهزة التنصت، كما أنّ البنى التحتية الخاصة بالكهرباء ليست كافية، مع أنّ أوجه النقص هذه تشمل وحدات الجيش النظامي والاحتياط والهندسة والمشاة والمدرعات، بجانب إشكاليات وثغرات خطيرة تتعلق بحجم التأهيل العسكري للمقاتلين.