عرض كتاب “فلسطين تقيم حفلاً والعالم كله مدعوّ”

عرض : إخلاص طمليه
المؤلف: كريم ربيع
اللغة: الإنجليزية
الناشر: مطبعة جامعة ديوك.
سنة النشر:2021
عدد الصفحات: 262.
اسم الكتاب: Palestine is throwing a party and the whole world is invited: capital and state building in the West Bank
مقدّمة
لطالما ارتبطت مشاريع بناء الدولة الفلسطينية منذ نشأة السلطة الفلسطينية بمحاولة تحقيق تنمية اقتصادية تعوّض فشل الحلول السياسية، وتسعى نحو إدارة الأزمة بدلا ًمن مواجهتها. لكن: كيف يمكن فصل التنمية عن التبعية الاقتصادية والسياسية التي تحكم العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل؟ هذا السؤال يشكل الإطار الذي يقدمه كريم ربيع في كتابه “فلسطين تقيم حفلاً والعالم كله مدعوّ: بناء العاصمة والدولة في الضفة الغربية“، حيث يحلّل كيف أصبح رأس المال وسياسات السوق الحرّ جزءاً من إعادة إنتاج واقع الاحتلال بدلاً من تفكيكه.
ينطلق الكتاب من فترة حكومة سلام فياض (2007-2013) التي سعت إلى بناء اقتصاد فلسطيني يعتمد على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز الاستثمار الدولي، وتحويل رام الله إلى نموذج تنموي يجذب المستثمرين العالميين. ينقسم الكتاب إلى عشرة فصول، موزّعةً على 262 صفحة.
تنبع أهمية الكتاب من قدرته على دفع القارئ لإعادة التفكير في كل ما يعرفه عن الاقتصاد الفلسطيني، فالمشكلة ليست فقط في الاحتلال، بل تكمن في القبول الضمني بشروطه الاقتصادية كأمر واقع. وذلك في تجاهل تام للطبيعة الاستعمارية الخاصة بالاقتصاد الفلسطيني، إذ تتعامل “المقاربة الفياضية” مع الواقع المحلي وكأنه بيئة اقتصادية طبيعية يمكن تحليلها وتنميتها وفقاً لمعايير السوق الحرة، متغافلةً عن العوائق البنيوية الناجمة عن السيطرة الإسرائيلية على الأرض والحدود والمقدرات الاقتصادية. مما يجعل أي حديث عن التنمية الاقتصادية مجرد بناء نظري هش، تغذّيه لغة المؤشرات الكمية والإحصاءات التي قد تخفي واقعاً مجحفاً ومعقداً.
يغوص الكتاب عميقاً في تعقيدات مشروع مدينة روابي، ليس فقط كمشروع عمراني، بل كظاهرة اقتصادية وسياسية تكشف عن التحولات البنيوية في التنمية الفلسطينية تحت الاحتلال، وسط التجاذبات السياسية التي أحاطت بتأسيس هذه المدينة، كما يقدم ربيع تحليلاً يضع روابي في قلب التداخل بين الاستعمار الاستيطاني والرأسمالية النيوليبرالية العالمية. هكذا، يضع ربيع أمامنا صورة قاتمة، لكنها واقعية، لاقتصاد يعيش في حالة دائمة من “الحفلة”، لكن تحت شروط من يملك “مفاتيح” القاعة.
فصول الكتاب
يفتتح ربيع كتابه بتحليل إعادة تشكيل المشهد العمراني الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو تحت عنوان ” الموقع”، حيث لم تعد مدن الضفة الغربية تخضع لمنطق التوسع الطبيعي، بل باتت محكومة بتخطيط استعماري جديد يفرضه الاحتلال، ويعززه اقتصاد السوق الحر الذي تتبناه السلطة الفلسطينية. يرى الكاتب أن تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق (A، B، C) لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان هندسة جغرافية تستهدف فرض نمط من التنمية الذي يُبقي الفلسطينيين داخل تجمعات معزولة مقطعة الأوصال تُدار من قبل السلطة الفلسطينية شكلياً، ولكنها تعتمد كلياً على قرارات إسرائيل فيما يتعلق بالواردات، والضرائب، وحتى تدفق العمالة.
في الفصل الثاني “المطورون والمصممون” يركز الكاتب على مدينة رام الله كمختبر للتنمية النيوليبرالية، حيث أصبحت مركز النشاط الاقتصادي الفلسطيني، لكن على حساب باقي المدن والقرى التي لا تزال تعاني من نقص في البنية التحتية وفرص العمل. أما مشروع روابي، الذي يُقدم باعتباره أول مدينة فلسطينية حديثة مخططة بالكامل، فيمثل جزءاً من إعادة تشكيل الاقتصاد الفلسطيني وفقاً لمنطق السوق الحر، حيث تتراجع الدولة عن دورها كفاعل اقتصادي، ويتم تسليم التنمية لرجال الأعمال والمستثمرين. ولا تمثل هذه المشاريع المخصخصة اقتصاداً إنتاجياً، بل تركز على العقارات والخدمات المالية، ما يجعلها تعتمد بشكل كامل على تدفّق القروض والمساعدات الخارجية.
في الفصل الثالث “الصورة، العملية، والسابقة” يوضّح ربيع أن التحول نحو اقتصاد السوق الحر لم يكن مجرد خيار إستراتيجي للسلطة الفلسطينية، بل جاء نتيجة لضغوط دولية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين فرضا سياسات مالية تهدف إلى تقليل دور الدولة في الاقتصاد، ودَعَما سياسات الإصلاح الهيكلي التي ركّزت على تعزيز الاستثمارات الخاصة بدلاً من تطوير قطاع عام قوي. وقد انعكس ذلك في مشروع روابي، الذي رُوِّجَ له بوصفه نموذجًاً حديثاً للمدن الفلسطينية المستقلّة اقتصادياً، ولكنّه في الواقع يعكس توجّهات أوسع لدمج الاقتصاد الفلسطيني ضمن الأسواق العالمية، مع إبقائه في علاقة تبعية مع إسرائيل. ما أدى إلى ظهور نموذج جديد يمكن تسميته “السلطة كمدير أموال”، حيث تدير الإيرادات والمنح والقروض، لكنّها لا تستطيع التحكم في السياسات المالية أو النقدية التي تتحكّم بها “إسرائيل”.
في الفصل الرابع “التخطيط الحضري” يشير ربيع إلى أن النمو في السوق العقارية الفلسطينية لم يكن نتيجة لحاجات طبيعية، وإنما نتاج لهيكلة اقتصادية موجّهة عمدًا نحو تعميق الارتباط بين رأس المال الخاص والمستهلك الفلسطيني، وهو ارتباط بات قائماً بشكل رئيس على الديون طويلة الأجل. ويذكر بعض برامج الإسكان مثل “برنامج أمل” للتمويل العقاري، بدعم من وكالات التنمية الدولية والبنوك المحلية وصندوق الاستثمار الفلسطيني.
كما يطرح ربيع في الفصل الرابع مسألة “تصنيع الطلب على الإسكان”، حيث أُقنِعَ الفلسطينيون بضرورة امتلاك منازل عبر القروض العقارية، وذلك كجزء من إستراتيجية تهدف إلى تحويل الديون إلى دعامة أساسية للنمو الاقتصادي. ولعل أهم ما يظهر في هذا النموذج هو التناقض الجوهري بين الأهداف المعلنة والمحصلة الفعلية؛ فهو يُصوَّر كأداة لتعزيز “الصمود والوجود الفلسطيني”، بينما في الواقع، يخلق طبقة جديدة من المديونين العالقين بين حلم الملكية العقارية وواقع الدخل المحدود. هذا النموذج يعكس أن سياسات التخطيط العمراني المنفذة من السلطة الفلسطينية لا تخدم سوى مصالح رأس المال، بل وتساهم في تكريس التبعية الاقتصادية “لإسرائيل”، مما يجعلها بعيدة كل البعد عن أن تكون أداة للتحرر الوطني.
يصل الكتاب إلى ذروته التحليلية في فصليه السادس والسابع، اللذين يمكن أن يكون التساؤل الرئيس لهما: هل فقدت السلطة دورها؟ حيث يوضح كيف أن السلطة الفلسطينية لم تعد لاعباً اقتصادياً حقيقياً، بل مجرد وسيط بين المانحين الدوليين والقطاع الخاص؛ ما أدى إلى تآكل مفهوم الدولة كفاعل اقتصادي مستقل، وجعل القرارات السياسية والاقتصادية مرهونة بالمصالح الرأسمالية المحلية والدولية. بالتالي أصبحت “الشراكة بين القطاعين العام والخاص” ليست سوى وسيلة لتعزيز دور الطبقة الرأسمالية التي أصبحت متشابكة مع السلطة والمانحين.
أما في الفصل السابع “المشترون والفلاحون” فيبرز ربيع الصراع بين نموذج الحداثة الذي تمثله روابي والرؤية التقليدية للأرض والمكانة الوطنية، حيث يعتمد مطورو روابي على سردية مفادها أن الحداثة تعني التنمية والاستثمار، بينما يرى بعض الفلسطينيين أن هذا النموذج يتجاهل التاريخ والتراث الوطني ويؤدي إلى إقصاء الفلاحين، إذ أصبحت أراضيهم جزءاً من مشروع استثماري ضخم دون تعويضات عادلة. كما يشير إلى تسهيل تنسيق مطوري روابي مع السلطات الإسرائيلية بينما تعاني القرى الفلسطينية المجاورة من قيود مجحفة في التخطيط والبنية التحتية، وبينما يتم تصوير روابي كرمز للاقتصاد الفلسطيني المستقل، إلا أنها في الحقيقة تعكس واقع التبعية للهيمنة الإسرائيلية.
وفي قراءة للتناقضات الجوهرية في مشاريع التنمية الفلسطينية، يناقش الكاتب في الفصل الثامن ” النقد، رأس المال، المظهر الطبيعي” العلاقة بين التوسع العمراني الفلسطيني والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي، موضحاً كيف يتم ضبط الأول بما لا يتعارض مع الثاني. كما يناقش الكاتب كيف أن المنظومة الاقتصادية التي تحكم الضفة الغربية مصممة للحفاظ على الاستقرار السياسي وليس لتحقيق التنمية المستقلة، مما يجعل مشاريع مثل روابي مجرد انعكاس مشوّه لعلاقات القوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ثم يكشف ربيع في الفصل التاسع “المستوطنون والأرض” كيف استخدم المستوطنون إستراتيجيات متعددة لعرقلة روابي، بما في ذلك تقديم التماسات قانونية وادعاءات بوجود خطر أمني، ليس فقط لحماية مستوطناتهم ولكن لتوسيع السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، حيث انضم أعضاء يمينيون في الكنيست إلى الاحتجاجات التي نظمها سكان مستوطنة عطيرت ومنظمات استيطانية، أبرزها منظمة رغافيم .(Regavim) بالتالي يخلق المستوطنون بيئة تُشرعن الاحتلال تدريجياً، مع إضعاف قدرة الفلسطينيين على الحفاظ على أراضيهم.
ويشير ربيع إلى أن المستوطنين لا يتحركون بمعزل عن “دولتهم”، بل يشكلون أدوات فعالة تستخدمها إسرائيل لتقطيع أوصال الجغرافيا الفلسطينية. بالتالي يصبح الصراع على الأرض ليس فقط مسألة سيادة، بل معركة مستمرة ضد محو جغرافي وقانوني مدروس، يُخضع الفلسطينيين لواقع استعماري يتجدد بأساليب حديثة.
يختم كريم ربيع كتابه بتفكيك الدور الذي يلعبه القانون في إعادة تشكيل الواقع الاستيطاني والاقتصادي في فلسطين وذلك في الفصل العاشر “القانون، الانعكاس، الدولة”، حيث تعمل إسرائيل على خلق بيئة قانونية تكرّس التفوق الاستيطاني، بينما يُحاصَر الفلسطينيون بأنظمة تخطيط جائرة تمنع توسعهم العمراني، وتقيّد حركتهم الاقتصادية.
لكن هذا الفصل لا يتوقف عند تحليل القانون كوسيلة للقمع، بل يطرح إشكالية أعمق حول إمكانية بناء دولة للفلسطينيين ذات سيادة في ظل بيئة قانونية تُصاغ بالكامل وفق المصالح الإسرائيلية. كما يتجاوز ربيع تحليل الاستيطان كمشروع توسعي، بل يرى أنه يمثل إطاراً قانونياً جديداً يعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية، ويُقوّض أي أفق لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
انعكاسات “المقاربة الفيّاضية” على الواقع الحالي للاقتصاد
في ظل تبني الحكومات الفلسطينية المتعاقبة للنموذج النيوليبرالي، باتت مؤشرات النمو الاقتصادي مجرد أرقام تخفي واقعاً من التفاوت الاجتماعي وغياب العدالة في توزيع الموارد. حيث إنّها بدلًا من تعزيز الإنتاج المحلي أو تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، اعتمدت التنمية الفلسطينية على تدفق المساعدات الخارجية كعنصر أساسي لدفع عجلة الاقتصاد. ولعل ما روج في عام 2010، لما اعتُبر إنجازاً استثنائياً بنمو اقتصادي في عام 2009 بلغ 7% غير مسبوق، لم يكن أكثر من فقاعة مؤقتة، بحسب وصف الكاتب (ص109)، إذ لم يستند إلى قاعدة إنتاجية حقيقية، بل إلى تدفق الأموال الأجنبية والمساعدات المشروطة، وهو ما يجعل استدامته مرهونة باعتبارات سياسية خارجية لا يتحكم بها الفلسطينيون.
حتى الآن، لا تزال السلطة الفلسطينية محرومة من أدوات السيادة المالية، فيما يتجاوز الدين العام 4 مليارات دولار، ما يجعلها عاجزة عن رسم سياساتها الاقتصادية بمعزل عن المصارف المحلية وتحويلات المقاصة التي تتحكم بها إسرائيل. ورغم الخطاب الرسمي حول “الانفكاك الاقتصادي”، فإن الواقع يؤكد استمرار التبعية البنيوية لنظام مالي يخدم الاستقرار قصير الأمد دون إرساء أسس الاستقلال الفعلي، ما يُبقي الاقتصاد الفلسطيني رهينة المعادلات السياسية ومتغيرات التدفقات الخارجية.
خاتمة: هل يتحرر السوق دون تحرير الأرض؟
يكشف الكتاب كيف تحولت التنمية في الضفة الغربية إلى مشروع استثماري خاضع لشروط الاحتلال، وبالرغم من أهمية التحليل الذي يقدمه الكتاب، إلا أنه يغفل التحولات العالمية في الاقتصاد، حيث تتجه حتى أكثر الدول ليبرالية، مثل الولايات المتحدة، نحو سياسات اقتصادية قومية وقيود على الاستيراد، بينما تواصل السلطة الفلسطينية تبني وصفات ليبرالية متطرّفة في اقتصاد لا يملك أدوات الحماية ولا السيادة.