عرض كتاب “الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها”

تأليف                   : بندكت أندرسون

ترجمة                  : ثائر ديب

سنة النشر            : 2014

دار النشر               : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

عرض                    : محمد دار خليل

 

يعتبر كتاب “الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها”، من أهم المصادر الفكرية التي تدرس ظاهرة القومية بشكلها الحديث. ويعود ذلك لتناوله فكرة القومية من وجهتي النظر المنهجية الليبرالية، والمنهجية الماركسية. كما تعود أهميته لمحاولته إنتاج مقاربة جديدة لتفسير القومية الحديثة، لا تقتصر على أبستمولوجيا واحدة، بل تقوم على أنماط التفسير المختلفة السائدة. فلا يستسلم أندرسون في إنتاجه للمقاربة لنمط تفسيري سائد، فهو لا يتناول القومية من وجهة نظر واحدة، تاريخية أو أيديولوجية، أو حتى مادية، بل ينتهج طريقا معرفيا براغماتيا، يدمج فيه المختلف والمتناقض، ليساهم في تضييق الفجوة القائمة بين التفسرات المختلفة.

تأتي أهمية عرض هذا الكتاب، بالرغم من صدوره عام 2006، لضرورة محتواه في سياق الحالة العربية، وإلى حد كبير الإسلامية، التي تشهد حالة معقدة من الفوضى والضياع وانسداد الأفق، نتيجة تلاشي رابط جمعي أعظم، يشكل الحاضنة والمرجع والأساس للتعاطي مع أي ملف أو قضية من القضايا، وعلى رأسها التحرر من حالات الاستبداد القائمة، وتعزيز الملفات الحساسة كالقضية الفلسطينية، وملفات ما بعد الربيع العربي، والتقدم فيها. “فلا توجد ثورة حديثة ناجحة، إلا وعرّفت نفسها في النهاية بأدوات قومية”، كالثورتين الصينية والفرنسية. وبالرغم من عدم وجود تعريف مجمع عليه للأمة، كما يرى أندرسون، وكما يذهب بعض المنظرين لفكرة استحالة الوصول لإجماع حول التعريف، إلا أنه يرفض تهميش ظاهرة القومية، أو محاولة التعامل معها كحالة عارضة.

يتألف كتاب الجماعات المتخيلة من 11 فصلًا، تناقش مختلف القضايا المتعلقة بمسألة القومية، وفقا للجوانب التي يعطيها أندرسون الأهمية الأبرز عند معالجة هذه المسألة. ففي فصل “جذور ثقافية”، يعالج الكاتب مسألة الثقافة ومركزيتها في تشكيل الوعي القومي، انطلاقا من التنوع والاختلاف والتناقض بين الجماعات الدينية والعلمانية، وتأويلاتها للحياة والمسائل المختلفة، إضافة إلى دور الملكية وأنماط الحكم التي كانت سائدة في أوروبا، وأثرها على تشكيل الوعي والخيال الجمعي.

وفي فصل “أصول الوعي القومي”، يثير أندرسون النقاش حول مجموعة من العوامل الرئيسة، التي ساهمت في تعزيز الوعي القومي، كاكتشاف الطباعة، ونشر الكتب باللغات المحلية، بعد أن كانت اللغة اللاتينية هي اللغة السائدة في الكتب، وخاصة الكتب الدينية. أما في فصل “رواد كريوليون”، فيحاول الكاتب التأكيد على أن مسألة القومية هي مسألة متطورة تاريخيًا، تتحقق عند توفر عوامل مختلفة. ويشير الكاتب إلى أن مسألة القومية سبقت تطورها في أوروبا، من خلال مناقشته قدرة الجماعات “الكريولية” في أمريكا اللاتينية، على تشكيل تصوراتٍ عن انتمائها إلى أمة، بشكل يسبق تطور القومية الحديثة في أوروبا.

في فصل “لغات قديمة، نماذج جديدة”، يركز الكاتب على علاقة الأيديولوجيا السياسية باللغة، وتأثير ذلك على التصور القومي لدى مختلف الأمم، خاصة الأمم التي تتحدث لغة المستعمر كشعوب أمريكا اللاتينية، إضافة إلى التركيز على المقارنة بين تجارب اللغات المختلفة في هذا السياق، خاصة اللغات المركزية حول العالم، كالهندية واليابانية.

وفي فصل “القومية الرسمية والإمبريالية”، يوضح أندرسون كيف ساهمت الثورة المعجمية في تعزيز فكرة أن اللغات هي مُلكية شخصية، وتعود لجماعات بعينها يجري تخيلها، “وتحتل مكانها المستقل في أخوية تضم أندادًا متساوين”، الأمر الذي شكل معضلة حقيقية للسلالات الحاكمة. ويناقش الفصل طبيعة تعامل السلالات مع تعزيز الثورة المعجمية المحلية، وتطور تأثير ذلك عليها. وكان قد نتج عن ذلك أشكال مختلفة من القومية، تختلف حسب الشعوب المختلفة في إنتاج قوميات رسمية كالهنغارية، وأخرى رأسمالية. أما في فصل ا”لموجة الأخيرة”، فيناقش الكاتب كيفية انتهاء شرعية السلالات وشرعية الإمبراطوريات، والاعتراف بالدولة الأمة كمعيار دولي شرعي، وكيفية ارتداء الدول الإمبراطويرية الزي القومي. كما يتناول مسألة نشوء القوميات في المستعمرات، ودور الإنتلجنسيا في إبرازها.

يعرّف أندرسون الأمة على أنها “جماعة سياسية متخيلة، حيث يشمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلا”. ولا يعمل على إقرانها بمنطلقات أيديولوجية كالماركسية أو الليبرالية، بل يذهب لإقرانها أكثر بأنماط العلاقة كالدين والقرابة، مؤكدًا على أن المحبة هي ما يميز هذه العلاقة، على نقيض الأطروحات التي ترى ذلك في علاقات المصلحة.

يتشكل التخيل وفقا لأندرسون، بأدوات من عوامل مشتركة قائمة في جماعة ما، وتختلف تلك الأدوات من جماعة لأخرى. لكنه يؤكد في تعريفة للتخيل، على أنه حقيقة، وليس ضربًا من ضروب الخيال كما يرى بعض المفكرين، الذين يحاولون بلورة فكرة القومية كأمر وهمي يتشكل على أسس الخداع، أو الزيف، أو التلفيق.

لا تعتبر كل جماعة متخيلة قومية، كما يطرحه الكتاب، فيمكن اعتبار الطائفة الدينية كجماعة متخيلة، إلا أنها تنهار كقومية إذا انهارت أدوات تخيلها السياسي والسيادي.

تعتبر القومية والهوية القومية، كما يرى أندرسون، “نتاج تقاطع معقد بين قوى تاريخية متعددة في نهاية القرن الثامن عشر، ولا يوجد تعريف جامد لهما”. ويستخدم أندرسون المصطلحين إضافة إلى مصطلح الأمة، للدلالة على نفس المعنى في بعض الأحيان، ويعود ذلك أيضا لأسباب تتعلق بترجمة الكتاب من لغة إلى أخرى، إذ إن دلالات المعاني تختلف بين اللغات.

ويرى أندرسون أن مؤسسات السلطة القائمة، تساهم في تشكيل القومية وأدوات تخيلها، وإعادة صياغتها. ويركز على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه في ذلك، كل من التعداد والإحصاء السكاني، والمتاحف، والخرائط. ومن الجدير ذكره، أن الدول الاستعمارية حاولت استخدام تلك المؤسسات؛ لصياغة شكل ما من القومية في مستعمراتها، ينسجم أكثر مع مداها الاستراتيجي في استدامة هيمنتها هناك، وقامت بترسيم الخرائط، وتحديد المكان، وتوزيع السكان لتحقيق ذلك. فالإحصاءات السكانية التي قامت بها القوى الكولونيالية، تراعي زاوية نظر المستعمر، ولا تكترث للكيفية التي يرى فيها السكان المحليون في المستعمرات أنفسهم. فقامت بإبراز عناصر تخيلية طائفية ومكانية، تساهم في إضعاف الوحدة القومية، وتبعث على الانقسام. ينطبق الأمر أيضا على تصوير الخرائط الذي فرضه المستعمر على الأرض والطبيعة، إذ قام برسم خرائط وحدود إقليمية غير ذات صلة بالسكان والجماعات، وتاريخها، والمألوف عندها.

لعب علم الآثار الاستعماري أيضا، دورًا كبيرًا في سلخ السكان المحليين عن آثارهم، فقد قام بمحاولات فصلهم عن تاريخهم العريق، والذي يعتبر واحدًا من عناصر تعزيز القومية، وتصوير الأماكن العمرانية التاريخية كأماكن سياحية، أكثر من كونها آثارا لعظمة تاريخ الأمة. هذا يعني أن القوى الكولونيالية حاولت اللعب على وعي السكان المحليين، وتجريدهم من أسباب اجتماعهم على أساس قومي، أو سيادي.

أخيرًا، ينكر أندرسون وجود علاقة بين العنصرية والقومية، فالعنصرية بشكل أساسي هي أمر دخيل وغير مباشر، يحاول فيه استخدام العنصرية لتجريد الآخر من قوميته، أو إظهاره بمظهر دوني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى