سياسة بلا ردع: كيف حوّل الاتّحاد الأوروبي الاستيطان إلى أمر واقع؟

لا يمكن فهم المواقف الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية عمومًا، والاستيطان والضمّ في الضفّة الغربية خصوصًا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 من دون العودة إلى العلاقة الأوروبية–الإسرائيلية التاريخية منذ تأسيس دولة إسرائيل، وما رافقها من تحولات إقليمية ودولية. فقد تشكّلت هذه العلاقة ضمن ما يمكن وصفه بـشراكة استثنائية ذات طابع خاص، قوامها أربعة عناصر متداخلة، أوّلها؛ الإرث التاريخي المرتبط بالمحرقة، وما أفرزه من التزامات أخلاقية انتقائية. ثانيًا؛ التماهي والارتهان الأوروبي للموقف الأميركي بوصفه المرجعية الحاكمة لأمن إسرائيل. ثالثًا؛ تشابك المصالح الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بين أوروبا والاحتلال. رابعًا؛ البعد الاستعماري في تحليل السلوك الأوروبي، إذ لا يمكن فصل المواقف الراهنة عن الإرث الاستعماري الأوروبي في فلسطين، ولا سيّما الدور البريطاني خلال مرحلة الانتداب، بدءًا من إعلان بلفور وصولًا إلى سياسات إعادة هندسة المجال الديموغرافي والسياسي بما يخدم المشروع الصهيوني. وقد أسهم هذا الإرث في إنتاج استمرارية بين ممارسات الحكم الاستعماري التاريخية وخيارات أوروبا السياسية اللاحقة، ما يفسّر ميلها إلى مقاربة القضية الفلسطينية من منظور إدارة النزاع لا تفكيك بنيته الاستعمارية.
أدّت الاحتجاجات الأوروبية الواسعة منذ السابع من أكتوبر 2023 دورًا لافتًا في إبراز البعد الإنساني والأخلاقي لما يجري في فلسطين، وأسهمت في إعادة طرح مسألة المسؤولية الأوروبية في الفضاء العام والخطاب الحقوقي، بما انعكس، في بعض الحالات، على مواقف وسياسات عدد من الدول الأوروبية، ولا سيّما في ما يتصل بالدعوة إلى وقف حرب الإبادة. غير أن هذا المقال ينصرف إلى تحليل موقف الاتّحاد الأوروبي الرسمي وسياساته المؤسسية تجاه قضايا الاستيطان والضمّ، إذ بلور الاتّحاد التزامًا سياسيًا معلنًا يقوم على تكريس الاعتراف بحقّ إسرائيل في “الدفاع عن النفس”، مقابل تهميش منهجي لجذور القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها الاحتلال، وسياسات الاستيطان، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقّه في تقرير المصير. ولم يمثّل السابع من أكتوبر قطيعةً مع هذا المسار، بل مثّل لحظة تكثيف وإعادة إنتاج له؛ إذ سارعت العواصم الأوروبية الكبرى، ولا سيّما باريس وبرلين ولندن، في الأسابيع الأولى لحرب الإبادة، إلى الاصطفاف خلف واشنطن، مقدّمةً دعمًا سياسيًا ودبلوماسيًا شبه غير مشروط للهجوم الإسرائيلي على قطاع غزّة.
على الرغم من تأكيد الدول الأوروبية، في خطابها الرسمي ووثائقها السياسية، التزامها بحقوق الإنسان والقانون الدولي، ورفضها الاستيطان ودعمها المبدئي لقيام دولة فلسطينية مستقلة، والاعترافات المتتالية لدول أوروبية بدولة فلسطين، فإنّ هذه المواقف المعيارية تصطدم بواقع سياسات عملية تتسم بازدواجية واضحة. وتتجلى هذه الازدواجية في استمرار أشكال دعم إسرائيل ماليًا وعسكريًا وتقنيًا، مقرونةً بغياب أدوات ضغط ومساءلة فعّالة. وقد اتّسعت فجوة هذا التناقض مع استمرار حرب الإبادة على قطاع غزّة بعد السابع من أكتوبر 2023، ما أسهم في تصاعد انتقادات الدور الأوروبي داخليًا ودوليًا، وأعاد طرح تساؤلات جدّية حول حدود ادّعاء أوروبا القيام بدور فاعل من أجل حلّ الدولتين وإنهاء الاستيطان في الضفّة الغربية.
أوروبا فاعل ميسّر للاحتلال
يُجمع الاتّحاد الأوروبي، في بياناته الرسمية، وفي أكثر من مناسبة، على عدم قانونية الاستيطان الإسرائيلي في الضفّة الغربية، وعلى أن أيّ خطوات ضمّ إسرائيلية للأراضي الفلسطينية تتعارض مع القانون الدولي، وتقوّض حلّ الدولتين. غير أنّ هذا الإجماع ظلّ في مستوى الإعلان السياسي فقط، ولم يتحوّل إلى سياسات تفرض كلفةً ملموسةً على إسرائيل.
في المقابل، ركّز الاتّحاد الأوروبي على دعم السلطة الفلسطينية ماليًا وإداريًا بوصفها أداةً تحفظ الاستقرار في الضفّة الغربية، عبر تمويل رواتب موظفيها، وتقديم الخدمات الأساسية، ودعم مؤسسات الحكم المحلي. غير أنّ هذا الدعم ارتبط بسلسلة من الاشتراطات السياسية والأمنية، شملت الالتزام بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، والامتناع عن إشراك قوىً سياسيةً مصنّفةً أوروبيًا على قوائم “الإرهاب”، وتبنّي أجندات إصلاحية تُصاغ غالبًا وفق أولويات المانحين، لا وفق الاحتياجات الوطنية الفلسطينية. كما تعرّض هذا الدعم مرارًا إلى التجميد أو التقليص على خلفيات متنوعة، في حين لم تُفرض اشتراطات مماثلة على إسرائيل، رغم انتهاكاتها المتواصلة.
أدّى هذا النمط من التمويل المشروط إلى تحويل الدعم الأوروبي من أداة تمكين سياسي للسلطة الفلسطينية إلى وسيلة ضبط وظيفي لها، تُقيد هامش حركتها السياسية، وتدفعها إلى التركيز على إدارة الشأن اليومي تحت الاحتلال بدل مواجهته. في الوقت نفسه، أسهم هذا النهج في نقل جزء كبير من كلفة إدارة السكان الواقعين تحت الاحتلال من إسرائيل إلى المانحين الأوروبيين، من حيث الخدمات والرواتب والبنية الإدارية. بهذا المعنى، خفّفت أوروبا من كلفة الاحتلال على إسرائيل، وأتاحت لها مواصلة سياساتها الاستيطانية وتعميق سيطرتها على الضفّة الغربية من دون تحمّل الالتزامات المالية والسياسية التي يفرضها القانون الدولي على قوّة الاحتلال.
عندما سارع الاحتلال في مشاريعه الاستيطانية، وخصوصًا بعد قدوم الحكومة اليمينة المتطرفة نهاية 2022، واجه الاتّحاد الأوروبي هذه الخطوة بتحذيرات سياسية وتصريحات رافضة، لكنه لم يتخذ إجراءات عقابية مباشرة. كما استمر الاحتلال في توسيع المستوطنات، وتعميق السيطرة الإدارية والقانونية الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية.
لم يفرض الاتّحاد الأوروبي؛ على اعتباره كتلةً موحّدةً، عقوباتٍ رسميةً شاملةً على إسرائيل، إذ اكتفى بعقوبات محدودة وموجّهة طاولت مستوطنين متورطين في العنف في الضفّة الغربية (يوليو/تموز 2024)، مع استمرار نقاشات داخلية حول توسيعها لتشمل مسؤولين حكوميين. وقد طُرحت أسماء وزيري الحكومة الإسرائيلية بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير صراحةً في مداولات البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية، كونهما من أبرز داعمي الاستيطان والخطاب التحريضي، لكن لم يتحول هذا الطرح إلى قرار أوروبي ملزم، بسبب الانقسام بين الدول الأعضاء، ومتطلبات الإجماع. ما يعكس محدودية القدرة الأوروبية على الانتقال من إدانة الاستيطان قانونيًا وسياسيًا إلى عقوبات مباشرة تمسّ صانعي القرار. وقد عكس الموقف الأوروبي في هذه الممارسات نمطًا ثابتًا، وهو الاعتراض على الضم، مع تجنّب فرض كلفة سياسية أو اقتصادية تردع تحويله إلى واقع.
يتأثر هذا النهج أيضًا بالانقسامات داخل الاتّحاد الأوروبي، إذ حالت الخلافات بين الدول الأعضاء دون تبنّي ردٍّ موحّدٍ وأكثر حزمًا. فقد عارضت دول مؤثرة، أي خطوات قد تُفهم بوصفها عقابية تجاه إسرائيل، ما أدى إلى الاكتفاء بأدنى مستوى توافقي من المواقف. نتيجة لذلك، فقدَ الاتّحاد القدرة على استخدام ثقله الاقتصادي والسياسي الجماعي للضغط على إسرائيل في ما يتعلق بالاستيطان والضمّ.
سياسة التمييز وحدود الردع الأوروبي
ينطلق تحليل السياسة الأوروبية تجاه الاستيطان والضمّ من مفارقة أساسية تتعلق بميزان النفوذ. فالحديث الأوروبي المتكرر عن محدودية التأثير يتناقض مع واقع أن الاتّحاد الأوروبي يُعدّ شريك إسرائيل التجاري الأول، كما أنّ العلاقة بين الطرفين مؤطَّرة باتّفاقية شراكة تمنح إسرائيل امتيازات واسعة في مجالات التجارة والتعاون العلمي والتكنولوجي والعسكري. والأهمّ أن هذه الاتّفاقية تنص صراحةً على أنّ احترام حقوق الإنسان يشكّل عنصرًا أساسيًا فيها، ما يتيح – نظريًا على الأقلّ – تعليقها أو تقييدها في حال وقوع انتهاكات جسيمة. غير أن هذا الإمكان ظلّ حبيس النصوص، ولم يُترجم إلى ممارسة سياسية فعلية.
في السياق ذاته، مثّلت سياسة “التمييز (Differentiation)”، الركيزة الأساسية في مقاربة الاتّحاد الأوروبي لمسألة الاستيطان، إذ تقوم على الفصل القانوني والمؤسسي بين إسرائيل ضمن حدود عام 1967 وبين المستوطنات المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال استبعاد هذه الأخيرة من اتّفاقيات الشراكة، وبرامج التمويل والتعاون العلمي، وحرمان منتجاتها من الامتيازات التجارية. وقد هدفت هذه السياسة، في أصلها، إلى منع أي اعتراف أو تطبيع أوروبي مع الواقع الاستيطاني القائم. غير أن هذه المقاربة، بدل أن تشكّل مرحلةً ضمن مسار تصاعدي لاستخدام أدوات ضغط أكثر فاعلية، استقرّت عمليًا عند هذا المستوى سقفًا أعلى للتحرك الأوروبي.
أدى السقف الأوروبي المنخفض إلى غياب تكلفة سياسية ملموسة تُفرض على سياسات الضمّ، في ظلّ امتناع الاتّحاد الأوروبي عن ربط علاقاته التفضيلية والمتقدمة مع إسرائيل بمدى امتثالها لأحكام القانون الدولي. وقد أفضى هذا الخلل إلى إفراغ التحذيرات الأوروبية من مضمونها الردعي، وأسهم عمليًا في تكريس واقع الضمّ، بما يقوّض المقومات الجغرافية والسياسية التّي يقوم عليها حلّ الدولتين. وعليه، يمكن القول إنّ السياسة الأوروبية، رغم معارضتها الضمّ خطابيًا، قد ساهمت ضمنيًا في استدامته، من خلال الاكتفاء بالإدانة الخطابية من دون اتخاذ إجراءات تنفيذية ذات أثر ملموس.
من جهتها، تعاملت إسرائيل مع المواقف الأوروبية بوصفها تكلفةً سياسيةً قابلةً للاحتواء، فقد أظهرت التجربة المتراكمة أنّ الإدانة الأوروبية، مهما بلغت حدّتها، نادرًا ما تُترجم إلى خطوات عقابية. بعد السابع من أكتوبر 2023، ومع دعم العديد من الدول الأوروبية إسرائيل في حربها على قطاع غزّة، استُغل هذا التناقض لتسريع وتيرة الاستيطان، وتوسيع صلاحيات المجالس الاستيطانية، وتعميق السيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية على مساحات أوسع من الضفّة الغربية.
خاتمة
في المحصلة، تكشف السياسات الأوروبية بعد السابع من أكتوبر عن فجوة بين الخطاب والممارسة؛ فبينما يواصل الاتحاد الأوروبي التمسك بحلّ الدولتين، تسهم سياساته الفعلية، من خلال استمرار الدعم الاقتصادي والسياسي لإسرائيل من دون ربطه بشروط واضحة تتعلق بوقف الاستيطان، في تقويض الأسس المادية والسياسية لهذا الحلّ. ولم يعد هذا التناقض مقتصرًا على النقد الخارجي، بل بدأ ينعكس داخل الخطاب الأوروبي نفسه، حيث تتزايد الأصوات التي تتحدث عن تآكل، بل عن انتهاء عملي، لأفق حلّ الدولتين. في هذا السياق، لا تكتفي السياسة الأوروبية بعدم منع هذا المسار، بل تساهم في تطبيع واقع يتآكل فيه حلّ الدولتين عمليًا، من دون أن تبادر إلى اتخاذ خطوات تحول دون انهياره النهائي.
نُشرت هذه المادّة على موقع “العربي الجديد”



