ساحة الداخل الفلسطيني المحتل عام 48 في سياق الحرب على غزة
ساهر غزاوي
يُنظر إلى الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 48 على أنهم أصحاب دور مهم ومركزي في مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية وقضيته العادلة، بحيث باتوا في وضع يؤهلهم للاضطلاع بدور محوري في المشروع التحرري المستقبلي، فهم حاضرون في الكثير من الأحداث المهمة والمفصلية التي شهدتها البلاد منذ نكبة عام 1948 وحتى يومنا هذا، خاصة في هبّة القدس والأقصى عام 2000 (الانتفاضة الثانية)، والتي أعادت الالتحام للشعب الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو التي عمدت إلى تهميش فلسطينيي الداخل وعزلهم عن الشعب الفلسطيني وقضيته.
كانت “هبّة الكرامة” في مايو/أيار 2021 هي المواجهة الأبرز لفلسطينيي الداخل مع الكيان “الإسرائيلي” نصرة للقدس والمسجد الأقصى، وتحدّيًا لسياسات الاحتلال العنصرية، وذلك بالتزامن مع عدوان “إسرائيلي” شرس على قطاع غزة، وقد تجلّت هذه الهبّة في انتفاضة شعبية وحدت ساحات فلسطين التاريخية، ورسّخت فكرة محو وشطب الخط الأخضر في وعي فلسطينيي الداخل، وما يمثله من فصل عن امتدادهم الشعبي في كل فلسطين من جهة، ومن جهة أُخرى محوه في أدوات المؤسسة “الإسرائيلية” وأساليب قمعها وتعاملها مع الهبّة الشعبية في فلسطين التاريخية عامة، بَيْدَ أنّ تعاطي الداخل الفلسطيني مع أحداث الحرب الحالية على غزة يتّسم بالصمت والهدوء إلى حد كبير حتى الآن، خلافًا لما كان عليه في أحداث سابقة، ما يطرح تساؤلات عن ماهية التغييرات التي طرأت على المجتمع العربي في الداخل المحتل في التعاطي مع أحداث حرب عام 2023؟
ساحة الداخل المحتل:
تدرك “إسرائيل” جيدًا حقيقة أنّ قاعدة الداخل الفلسطيني هي الانحياز إلى الهمّ الجماعي وإلى قضاياه المصيرية، وقد أدّى أبناء هذا الداخل عبر العديد من المحطات دورًا مركزيًا في نصرة القضايا الفلسطينية والمقدسات والمسجد الأقصى، وقدّموا في سبيلها التضحيات على مختلف أشكالها عبر مسيرة طويلة، وتدرك كذلك أنّ الداخل المحتل أخذ يتحرك ويلتصق أكثر بقضاياه الوطنية الرافضة للاحتلال ومجازره في فلسطين عامة، وفي كل مناسبة يؤكد أنّه جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، يفرح لفرحه ويتألم لألمه، بحيث باتت هذه الأمور كلها تؤثر في ميزان المناعة القومي لدى الاحتلال.
لا غرو أنّ ساحة الداخل المحتل عدّها أحد الخبراء “الإسرائيليين” الساحة الأولى في شرحه لمخاطر الساحات الأمنية الأربع التي تواجه الاحتلال، والتي تستوجب الردع وتشكل تحد صعب أمامه في الأحداث والمواجهات؛ فسيناريو تجدد اندلاع المواجهات في مدن وبلدات الداخل المحتل ولا سيّما في المدن الساحلية -أو ما يسمى “المدن المختلطة”- على غرار تلك التي اندلعت خلال “هبّة الكرامة” عام 2021، والتي أربكت الحسابات “الإسرائيلية” وكان لها الأثر الواضح على قدرة “إسرائيل” في حربها على غزة واستمرارها في العدوان، أشغل المستوى الأكاديمي والسياسي والإعلامي “الإسرائيلي” على مدار أكثر من عامين، بل إن التقديرات “الإسرائيلية” ذهبت إلى وضع سيناريو أكثر عنفًا من أحداث سابقة، التي كما يبدو أنها استخلصت الدروس والعبر منها، خاصة وأنّ تسمية المعركة (طوفان الأقصى) مرتبطة بمعنى الحرب وهدفها الأساسي هو المسجد الأقصى، وما يتعرض له من تدنيس ومحاولة تقسيم زماني ومكاني، لا سيّما وأنّ قضية المسجد الأقصى لها دلالات كبيرة في نفوس أهل الداخل الفلسطيني، وهم من أدى الدور المركزي، وما يزالون، في مسيرة إسناد ونصرة المسجد الأقصى عبر مشاريع شد الرحال والرباط والاعتكاف بمختلف مسمياتها، بحيث أنّ انتماءهم وهويتهم مربوطة بالقدس والأقصى، وهو الخطاب الذي تبنته وعززته على وجه الخصوص الحركة الإسلامية المحظورة “إسرائيليًا” بقيادة الشيخ رائد صلاح على مدار ثلاثة عقود.
فرض إجراءات أمنية عقابية:
منذ الساعات الأولى للعدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، وعقب بدء عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس صباح السبت السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يتعرض فلسطينيو الداخل إلى سياسة الترهيب والترويع بُغية منعهم من إسماع صرخة الغضب والتظاهر والاحتجاج ضد الحرب أو التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة، وتريد الرقابة الشرطية والشعبوية “الإسرائيلية” من فلسطينيي الداخل أن يغيّبوا ألمهم وحزنهم عن معاناة أهل قطاع غزة، وذلك في إطار السعي “الإسرائيلي” المحموم لمحاولة عزلهم كفلسطينيين جغرافيًا وشعوريًا وحتى إنسانيًا عن شعبهم الفلسطيني، وهذا ليس منع لحرية التعبير في شتى الوسائل وحسب، بل منع لحرية المشاعر وهي أصعب.
لقد عمدت “إسرائيل” في هذه الحرب على تغيير قواعد اللعبة في تعاملها مع فلسطيني الداخل، وإذا كانت في الأوقات العادية وعلى مدار سبعة عقود ونيف تتعامل مع فلسطينيي الداخل من منطلقات أمنية ومن نظرتها العنصرية العدائية تجاههم، على اعتبار أنهم طابور خامس وخطر استراتيجي، فبطبيعة الحال سيواجه هؤلاء الفلسطينيون حملة تحريض دموية غير مسبوقة من قبل المؤسسة “الإسرائيلية” الأمنية والسياسية، التي تهدد باستهدافهم في حال التحرك ضد الحرب على غزة والالتحام مع باقي الساحات الفلسطينية.
بدأت جوقات التحريض الإسرائيلية على فلسطيني الداخل ترفع صوتها على نحو ما هو متوقع، من ذلك تصريح “نتنياهو” نفسه في خطابه أنّ “إسرائيل” تواجه أربع جبهات، في الجنوب وفي الضفة الغربية وفي الشمال وفي الداخل، دون أن يحدد ما هي جبهة الداخل، لكن كان من الواضح أنّ التلميح يشير إلى الداخل الفلسطيني، كذلك أعلن وزير الأمن القومي أنّ الشرطة ستشتري عشرة آلاف بندقية رشاش وتوزعها على “وَحدات الحماية” في البلدات “الإسرائيلية”، وعُيّن ضابط لتنظيم “وَحدات محاربة مدنيّة” في البلدات “الإسرائيليّة“، ونشرت الشرطة “الإسرائيلية” مقطع فيديو للمفتش العام للشرطة يعقوب شبتاي يقول فيه: “أي شخص يريد أن يكون مواطنّا في دولة “إسرائيل” أهلًا وسهلًا، وأي شخص يريد التماهي مع غزة مدعو لذلك، سأضعه الآن في الحافلات المتجهة إلى هناك (غزة)، وسأساعده في الوصول إلى هناك، نحن في حالة حرب ولن نتسامح أبدًا مع أي حادث، ولا يوجد تصريح للقيام بالاحتجاجات، كل من يتم توقيفه سنفعّل كل المكاتب الحكومية ضده كما نفعل مع المجرمين”.
بناء على ما تقدم، فإنّ الداخل الفلسطيني يشهد منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أشكال عدة من تضييقات واسعة وممارسات وسياسات عقابية وسلوكيات سلطوية “إسرائيلية” تجاههم، وعلى كافة الصُعد، وذلك في ظل حالة حكم عسكري غير معلن عنها رسميًا، بحيث بدا ذلك واضحًا من خلال ما يلي:
1. اعتبار أنّ الدولة في حالة الحرب وحالة طوارئ، ما معناه توظيف القوانين الانتدابية تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”.
2. تشريع قوانين خصيصًا لملاحقة فلسطينيي الداخل ومحاكمتهم وإنزال أقصى العقوبات بهم لمجرد تضامنهم مع أبناء شعبهم الفلسطيني، أبرزها: قانون “التحريض على الإرهاب” الذي ينص على أن “التعبير عن التعاطف مع حماس أو الأعمال الوحشية، سواء من خلال عرض مقاطع فيديو وصور لهذه الأفعال بالإضافة إلى ذلك أو ببساطة مع تعليق يعبر عن الدعم لها، يكفي بالنسبة لنا لفتح تحقيق وملاحقة قضائية في القضايا المناسبة“.
3. ملاحقات أمنية لطلبة الجامعات والكليات المختلفة والموظفين بالمؤسسات الحكومية والقطاعات الخاصة، حيث تعرض عدد من أبناء الداخل المحتل للفصل من الدراسة والعمل.
4. التلويح بسحب الجنسية من فلسطينيي الداخل الذين يدعمون ما تعتبره “إسرائيل” دعمًا للإرهاب ودعمًا لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية.
5. التعرض لتهديدات يومية سواء من المجموعات اليهودية المتطرفة أو من المؤسسة “الإسرائيلية” التي تتمادى بالتحريض على الوجود الفلسطيني، وتمتنع عن التعامل مع تهديدات واعتداءات المستوطنين، مثل القائمة الطويلة التي نشرتها مجموعة “إسرائيلية” تطلق على نفسها اسم “صيادو النازيين“، وتضم هذه القائمة أسماء قيادات ونشطاء من القدس والداخل الفلسطيني وصورهم وعناوين بيوتهم، ليسهل الوصول إليهم لقتلـهم.
6. ملاحقات أمنية وحملة الاعتقالات واستدعاءات واسعة للتحقيق في المجتمع الفلسطيني في الداخل، معظمها على خلفية منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، منها ما تحوي على آيات قرآنية وأدعية نبوية فُسّرت على أنها تماهٍ مع المقاومة وإسناد للفلسطينيين بغزة وليست مناهضة للحرب.
7. إغلاق 8 محال تجارية في النقب، بحجة إنها شغّلت عمالًا من غزة، مكثوا هناك بطريقة غير قانونية.
قمع للحراك السياسي والشعبي:
رغم ما ذُكر من تضييقات واسعة وممارسات عقابية، حاولت بعض الحِراكات الشعبية والشبابية في حيفا وأم الفحم وباقة الغربية تنظيم مسيرات ووقفات احتجاجية منددة بالعدوان المتواصل على قطاع غزة، إلّا أنّ الشرطة “الإسرائيلية” قمعتها واعتدت على المتظاهرين بينهم نساء وأطفال بالقنابل والرصاص المغلف بالمطاط، واعتقلت العشرات، ومنهم ما يزال قيد الاعتقال والتحقيق بشبهة “التحريض وتهديد أمن الدولة والتماثل مع تنظيم إرهابي“.
على صعيد الحِراك السياسي، منعت الشرطة “الإسرائيلية” لجنة المتابعة لفلسطينيي الداخل من عقد اجتماع يهودي-عربي لمناقشة الوضع السياسي، ومعارضة الحرب، والمسّ بالمدنيين، وفي سياق ذلك، ذكرت “المتابعة” في بيان لها أنّ “شرطة “إسرائيل” هدّدت أصحاب القاعة في حيفا التي كان من المفترض أن يُعقد اللقاء فيها يوم 25/10/2023، بإغلاقها إذا تمّ اللقاء”، وفي اليوم التالي عقدت لجنة المتابعة في مكتبها بالناصرة مؤتمرًا صحافيًا مع ما يسمى “القوى اليسارية والديمقراطية الإسرائيلية” حول منع الشرطة “الإسرائيلية” عقد الاجتماع في حيفا، وأكّد رئيس لجنة المتابعة محمد بركة في المؤتمر أنّ فلسطينيي الداخل لن يقبلوا بأيّ تهديد ولن يزحزحهم أيّ تهديد من وطنهم، “فنحن أبناء الوطن ولسنا ضيوفًا على دولة “إسرائيل”، ومن يجب أن يرحل هو سياسات الحرب والاحتلال والتمييز العنصري”، وأقرّت لجنة المتابعة العليا خلال اجتماع لها الشروع بالاستعداد لتحرك جماهيري شامل تحت شعار “أوقفوا حرب الإبادة”، وبضمن ذلك طلب ترخيص لمسيرة جماهيرية، إلى جانب حملات إعلامية في شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها.
انعكاسات السياسة “الإسرائيلية” على التفاعل الوطني الفلسطيني:
لا شك أنّ ما بعد “طوفان الأقصى” ليس كما قبله، وسيكون له انعكاسات سياسية على المنطقة كلها، وحصّة فلسطينيي الداخل كبيرة من هذه الانعكاسات كونهم في دائرة الاستهداف المباشر من قبل المؤسسة “الإسرائيلية”، وكلما طال أمد الحرب ستزداد الهجمات والقمع تجاه فلسطيني الداخل، كنوع من أنواع الانتقام تجاه كل من هو عربي وفلسطيني، ومحاولة لوضع قواعد تصرف سياسي مختلف للمجتمع الفلسطيني في الداخل يحدده الإجماع الصهيوني.
يمكن تلخيص أبرز التداعيات السياسية “الإسرائيلية” المتوقعة التي من شأنها أن تنعكس سلبًا على الداخل المحتل في سياق التفاعل مع القضايا الوطنية في النقاط التالية:
1. التأثير المباشر في تحديد حجم التفاعل مع القضايا الوطنية، والعمل على تحجيم طبيعة الدور المستقبلي في المشروع الوطني الفلسطيني التحرري.
2. مواصلة تفريق ساحة الداخل المحتل عن باقي الساحات الفلسطينية، وإحداث تجزئة للشعب الفلسطيني.
3. احتدام المواجهة بين مظاهر “الفلسطنة” التي تؤكد على أهمية الانتماء الوطني والالتحام مع الشعب الفلسطيني وقضيته وبين مشاريع الاندماج و”الأسرلة” التي تدعو للانكفاء على الذات وتوسيع الوعي بقضية الحقوق المدنية.
4. المضي في سياسة تقسيم الفلسطينيين في الداخل إلى تيار معتدل وآخر متطرف، المعتدل الذي يقبل أن يكون جزءا من اللعبة “الإسرائيلية”، وشروط يهودية الدولة والمشروع الصهيوني، والمتطرف الذي يرفض، وهو التيار الذي سيكون تحت طائلة الحظر، والإقصاء، والملاحقة السياسية، والتجريم.
5. تحديد سقف العمل السياسي والشعبي للفلسطينيين في الداخل بما يتلاءم مع السياسات “الإسرائيلية” العليا.
6. التضييق على عمل لجنة المتابعة، كونها هي الجهة التي تدعو إلى الاحتجاجات والإضرابات والمظاهرات ذات الطابع السياسي والاحتجاجي.
الخاتمة:
من الواضح في هذا الوقت تحديدًا وعلى صعيد ساحة الداخل الفلسطيني المحتل عام 48، أنه لا يمكن الرهان على أنّ في استطاعة أيّ حِراك أو أي هيئة مستقلة، أو من الناشطين، أن يأخذ على عاتقه دعوة إلى التظاهر أو الاعتراض عما يحدث في قطاع غزة من مجازر، فهناك شعور بعجز قاتل نتيجة ما يعيشه الفلسطينيون في الداخل من واقع صعب للغاية، وفي مرحلة مفصلية ويتواجدون في فترة مبهمة وضبابية كونهم في دائرة الاستهداف المباشر من قبل المؤسسة “الإسرائيلية”، لكن يبقى ذلك كله مرحلي في ظل المحاولات المتكررة لكسر الصمت والقيود المفروضة على الداخل الفلسطيني منذ بداية الحرب، وسواء قام أبناء الداخل المحتل بأية خطوة أو حتى في حال لم يحركوا ساكنًا، فالأوضاع في غاية الخطورة ولن يسلموا من الاعتداء المباشر عليهم، ما ينذر بانعكاسات خطيرة على المجتمع العربي وأدواره الوطنية في حال استمرار هذه السياسات.