رؤية لاستراتيجية تفاوض جديدة الانسحاب أولاً، المستوطنات والجدار ثانياً وأخيراً
في ضوء الحديث عن المؤتمر الدولي للسلام، المقترح من قبل الحكومة الفرنسية بدعم وثيق من الاتحاد الأوربي، وإذا ما تم ذلك فإن أبرز مخرجاته المتوقعة ستكون إعادة إطلاق المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، السؤال الذي يمكن للمراقب أن يطرحه على نفسه، وعلى غيره من المهتمين بمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، هل سيعود المفاوض الفلسطيني لتلك المفاوضات بوسائله وأدواته القديمة، وبأي استراتيجية سيبدأ عمله التفاوضي مع الإسرائيليين ؟
للتمكن من إيجاد إجابة مناسبة لهذين السؤالين، يمكن استعراض مسيرة المفاوضات للتأكد من وجود أي غلال لها في خزينة الانجازات الفلسطينة أم لا، وبعد هذا الاستعراض يمكن القول بأن المفاوض الفلسطيني لم يتمكن من تحقيق أي تقدماً يذكر في نهاية مفاوضته للإسرائيليين على مدار عقدين كاملين من الزمن.
لماذا ؟
لأن إستراتيجية المفاوضات الفلسطينية لم تكن مرتبطة، برؤية تحررية، تستكمل مهمة الثورة الفلسطينية أو مسعى انتفاضة الحجارة في كنس الاحتلال ودحره عن التراب الفلسطيني، إنما كانت مرتبطة بالدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية، وهو دور تعاوني لا تصادمي لتصريف وتدبر أحوال السلطة وشؤون مواطنيها ضمن حدود ولايتها الجغرافية، ونجاح هذا الدور لا يستقيم مع أي نية مسبقة لديها بالتصادم مع الاحتلال لا أمنياً ولا اقتصادياً ولا تفاوضياً، وكان المفاوض الإسرائيلي ومعه الراعي الأمريكي يتعاملون مع المفاوضات كوسيلة من وسائل إدارة الوقت الصراعي، ومد أمد الظروف الراهنة لأنها الأمثل لتوفير إمكانية الاستمرار في تنفيذ رؤية إسرائيل في السيطرة على ما تبقى من التراب الوطني الفلسطيني، ولم يكن لدى المفاوض الإسرائيلي أي نية للاتفاق مع الفلسطيني حول أياً من أمور المفاوضات مهما كانت صغيرة.
فكانت حصيلة المفاوضات حصيلة صفرية مدوية، ففشل المفاوضات كان له أسباب عده أهمها منهج التفاوض المصمم على أسس لها علاقة بوظيفة السلطة، لا بالعقيدة الوطنية المتمحورة حول إزالة الاحتلال والمرتبطة ببديل قتالي، كمهمة استكمالية لجهود الوطنيين الفلسطينيين في التحرير؛ ولم تراعى المعايير المهنية والحرفية في اختيار طواقم المفاوضين الفلسطينيين ولم يخضع أدائهم لأي شكل من إشكال التقييم أو المراقبة، فمكث المفاوضون الفلسطينيون في أمكانهم عقدين من الزمن مقابل أكثر من خمسة عشر طاقم مفاوضات إسرائيلي تعاقبوا على المهمة ذاتها.
فضلاً عن انكشاف تكتيكات المفاوض الفلسطيني أمام الإسرائيليين قبل استخدامها، بسبب الاختراق الذي نفذته إسرائيل والسي أي أيه، بزرع العديد من الموظفين الأمريكيين الإسرائيليين والفرنسيين، في دائرة شؤون المفاوضات وغيرها من دوائره السلطة الفلسطينية الحساسة، مثل الموظف "كالينين سويشر"، وهو مرافق سابق لوزيرة الخارجية الأمريكية "كونزاليزا رايس"، وضابط في السي إي أيه، وموظف في وحدة دعم المفاوضات الفلسطينية، والموظف "زياد كلوت"، وهو إسرائيلي من أصل فلسطيني من مدينة حيفا ويحمل الجنسية الفرنسية، وموظف في وحدة دعم المفاوضات أيضاً.
الأمر الذي يطرح على الجميع أسئلة في منتهى الأهمية حول شروط ومواصفات التوظيف لدى السلطة الفلسطينية التي تسمح بمثل هذه الاختراقات، علماً أنه وفي حدود علمي بأن المواطن الفلسطيني عندما يتقدم بطلب توظيف لأياً من وزارت السلطة يخضع طلبه لما يسمى ببحث أمني إستقصائي مرهق، بعدها يحصل أو لا يحصل مقدم الطلب على وظيفته، ولعل العديد من المؤسسات الأجنبية العاملة في الضفة الغربية مثل (يو أس أيد) تطلب هذه الخدمة من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، للتأكد من ملائمة الموظف المتوقع لوظيفته، بما في ذلك عدم وجود أي رابطه له بالقوى الإسلامية.
وكان بإمكان السلطة الفلسطينية التأكد من ملائمة هؤلاء الموظفين لوظائفهم حتى لو كانوا موظفين على مشروع (وحدة دعم المفاوضاتNSU ) الذي صممته شركة (آدم سميث أنترناشونال) الإنجليزية وباعته للدول المانحة، التي قامت بشرائه ومنحته للسلطة الفلسطينية كأحد مشاريع دعم الشعب الفلسطيني، على قاعدة أنه سيمكن دائرة شؤون المفاوضات في (م.ت. ف) من تحسين أدائها التفاوضي أمام الإسرائيليين.
وهذا ما تسبب في تجريد التكتيك التفاوضي من إنتاجيته المأمولة، بعد سيطرة المفاوض المقابل على محتويات حقيبة المفاوض الفلسطيني بالكامل، لذا كان المفاوض الفلسطيني يستغرب أحيانا من عدم تعقيب المفاوض الإسرائيلي على ما يقدمه له من مقترحات أو طلبات، أو رفض الإسرائيلي استلام رزم المقترحات الورقية، لأنه كان يحمل الإجابة عليها مسبقا وهي الرفض، وفي كلا المسلكين الدبلوماسيين الإسرائيليين، سواء عدم الرد الشفهي أو عدم استلام الأوراق، ينطويان على رفض شبه رسمي لكل ما سيتفوه به المفاوض الفلسطيني، منذ ان بدأت المفاوضات في 1991م ولغاية أخر جلسة في نهاية عام 2010م.
إلى ذلك يمكن التمعن بما قاله "جيمس بيكر" في مذكراته حول المفاوض الفلسطيني، وهو يصف لقاءاته معه في بيت الشرق في القدس الشرقية، حيث قال: "كنت أستلقي على ظهري من الضحك أحياناً بسبب سذاجة وسطحية أفكار وأطروحات وأحاديث بعض أعضاء الوفد الفلسطيني، التي تعبر عن انعدام الخبرة السياسية لديهم".
لهذا ولغيره من الأسباب أطبق الإسرائيليون الخناق وأحكموا السيطرة علي المفاوض الفلسطيني الدائم، وتم تثبيته في مكانه.
كل ذلك أضيف فوق الخطأ المؤسس لمنهجية المفاوضات وهو القبول ببحث الملف الرئيسي للصراع مع الإسرائيليين وهو (الانسحاب) على قدم المساواة مع مواضيع (اللاجئين، المياه، المستعمرات، الجدار، تبادل الأراضي، تعويض اللاجئين)، وتم هدر الجهد الكلي من قبل المفاوض الفلسطيني على هذه المحاور على حساب الملف الرئيس وهو (الانسحاب) وتم ذلك دون الحصول على أي نتيجة حول أي موضوع من المواضيع مهما صغر أو كبر حجمها، دون أن يشك المفاوض الفلسطيني للحظة بأن مسيرة عمله لربما تنطوي على خطأ ما، يستحق التوقف عنده ومراجعة أسبابه، وإخضاع الطريقة والوسيلة للتقييم المعمق، ودعوة الأصدقاء والزملاء وأصحاب الاختصاص والخبراء الوطنيين والأشقاء العرب، لنقد الحالة، وعدم الاكتفاء بالإصغاء لتعليمات خبراء السي أي أيه، ومندوبيهم في الدائرة، ونصائح عمر سليمان وحسني مبارك.
أما الخطأ الثاني المسبب لهذه النتيجة، تمثل بالموافقة الفلسطينية على اعتبار ملف الانسحاب من حيث القيمة الجيوسياسية والتاريخية والاستراتيجيه، كباقي الملفات وهي (عودة اللاجئين للمناطق التي سيتم الانسحاب منها، السيطرة على آبار المياه في المناطق التي سيتم الانسحاب منها أيضاً، الاستحواذ على المستعمرات ومعسكرات الجيش الخالية، وتفكيك أو إبقاء الجدار وغير ذلك)
فكان من الأنسب بناء منهج المفاوضات على سلم أفضليات استراتيجيه، متدرج من (1 – 10) وإعطاء بند الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م وفقاً لقرارات الشرعية الدولية 242 و 338 رقم (1)، واعتبار ما سيتحقق عنه، منجزات تحصيل حاصل، لا تصميمها كملفات مستقلة بحاجة لوقت وجهد الملف الرئيس.
وأن يتم ذلك على قاعدة عدم الانتقال لبحث أي ملفات جديدة قبل الانتهاء من حسم الملف الرئيس ولو بالحروف الأولى، أو لا مفاوضات نهائياً، وهذا بحد ذاته خيار، وخيار فيه من التهديد ما يكفل أن يجلس الخصم الإسرائيلي أمامك بإصغاء، وإن لم يستجب فلا تستجب، وليبقى هذا الصراع مستمراً إلى أن يشاء الله أمر غير هذا الأمر.
دون ذلك سيتواصل اللهاث خلف ملفات التفاوض وفي مقدمتها الاستيطان والجدار، بلا أى طائل؛ طالما إن مصير الأرض التي يدور فوق النشاط الاستيطاني لم يحسم بعد؛ ومصيرها تقرره الدولة المحتلة، من هنا تنبع أهيمة بحث مصير ومستقبل الأرض قبل بحث مصير ومستقبل المنشئات التي تقام فوقها، أو التصرف بخيراتها وسكانها، عند تقرير مصير الأرض يصبح مصير كل من عليها ومن فوقها وما بداخلها في يد مالكها فقط لاغير.
لماذا ذلك ؟؟
لأن حسم أمر الأرض يمهد للتصرف الحر بكل ما عليها وبها من حقوق، كالمياه والمستوطنات، أو إدخال أو إخراج أياً كان منها وإليها، وكما يشاء صاحب الولاية والسيادة عليها، وهنا يمكن للفلسطينيين التصرف من طرف واحد في مواضيع عده كالنازحين واللاجئين دون الإعلان عن أي حل من أي نوع لمشكلة اللاجئين، لأن عودة اللاجئين إلى وطنهم أمر مرتبط بزوال إسرائيل، وحل مشكلة اللاجئين مسألة مرتبطة بزوال أسبابها فقط لا غير، لكن ما يدور الحديث حوله هنا هو المفاوضات حول مصير الأراضي المحتلة عام 1967م، التي ينطوي الحديث عن استعادتها على إمكانية العودة الاختيارية الفردية والجماعية للاجئين كمقدمة للعودة للديار وكمدخل للحل لا كخاتمه له، لذا لا يجوز طي صفحة اللاجئون مع الإسرائيليين تحت أي ظرف من الظروف.
لقد كانت وما زلت فكرة المفاوضات إسرائيلياً بمثابة كمين سياسي وطريقة للخداع لكسب الوقت الذي تحتاجه إسرائيل لانجاز استقلالها الوطني، المتمثل بالسيطرة على كامل المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، ولعل أحد أهم تجليات هذه الحقيقة خسارة الوقت فلسطينياً الذي تزعزع معه تماسك الكتلة الحيوية الفلسطينية (الأرض والسكان) التي بتماسكها يمكن صناعة المعطيات المتجددة التي ستجد انعكاسا دائماً لها على طاولات المتفاوضين.
لذا كان وسيبقى الموضوع الرئيس للصراع مع الإسرائيليين هو الأرض وليس ما تم فوقها بعد احتلالها، إن الدخول في هذه المتاهة، من غير المعلوم لداخلها متى سيخرج منها، وعلى الأرجح إنه لن يخرج، وإن خرج فإن ذلك سيتم بعد فوات الآوان.
لذا أرى بأن هذه الطريقة من غير المرجح أنها قادرة على أن إحداث أي تبدلات تذكر خلال العقد القادم، في الحالة القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإذا بقيت وتيرة الاستيطان كما هي فمن المرجح إن حدود بلدية القدس ستلامس حدود محافظ أريحا، وطالما إنه لا يمكن مجاراة هذه الوتائر السريعة لتمدد الاستيطان واستكمال بناء الجدار، فينبغي التوقف عن ملاحقتهما بالتفاوض، والعودة إلى أصل الموضوع، أي الأرض، بمعنى الإعلان عن استراتيجيه جديدة للتفاوض مكونة من موضوع واحد وهو التفاوض على "الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية 242 و 383 "، دون الدخول في أي موضوع كان وخاصة الاستيطان والجدار، عند الحصول على الأرض يمكن التصرف بها وفقا لرؤية وطنية وقومية تحددها ضرورات اللحظة التي ستسود حينذاك، وماذا يضير الفلسطينيون إذا ما كسبوا الأرض والمستعمرات معاً، وإذا أصر الفلسطينيون على هذه الطريقة فأنهم، بعد سنوات قليله من الممكن أن يحصلوا على الأرض وعلى بعض مستعمرات الضفة الغربية والقدس الشرقية.
دون ذلك فإنه من المؤكد بأن السلطة الفلسطينية ستخسر كل معركة لها حول المستعمرات والجدار وأي مواضيع أخرى مشابه، لأنها تحاول تركيب الباب بلا حلق، إن الاستيطان بشكله الحالي والسابق واللاحق، ومهما تكاثر واتسع فإنه سيبقى جزء من الحق الفلسطيني، مقام فوق الأرض الفلسطينية بيد الاحتلال، ولا يجوز التعامل مع هذا الملف خارج هذه النظرة، ولربما سيصلح التعامل معها كأحد المكتسبات الإستراتيجية التي من الممكن أن توفر الجهد والوقت لدى أى سلطة فلسطينية قادمة لإستيعاب العائدين وإنفاذ خطط التنمية الحضرية، وعدم السماح بهدمها أو العبث بها كما كان عليه الحال في غزة.
لعل دوافع هذه القراءة تنبع من طبيعة المتغيرات الكاسحة التي تعصف بالنظم السياسية العربية ودولها، وهذه المتغيرات ستشمل إسرائيل والسلطة الفلسطينية، لكنها لن تزيلهما من الوجود، بل ستؤسس لنشوء مناهج وقيم ووسائل عمل جديدة؛ بسبب ذلك فإنهما ستعودان للتفاوض من جديد، وهو قدر الخصوم والاعداء، هذا التفاوض الذي سيلي أي حرب قادمة أو أي مؤتمر سلام قادم، فالفلسطيني ملزم باعتناق رؤية جديدة لتطوير مفاوضته للإسرائيليين مستفيداً من خيبات الماضي، لابتكار الجديد على مشارف مؤتمر السلام الدولي القادم، وهذا الجديد يجب أن يصمم على قاعدة منح ملف (الانسحاب أولاً) كل أفضلية وكل اهتمام.
ملاحظة: المدونة لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي الكاتب الشخصي