رؤية الفكر الصهيوني العقائدي للضفة الغربية
هدفت الحركة الصهيونية منذ نشأتها إلى إقامة وطن قومي لليهود، يتمتع بالشرعية، أي بموافقة الدول العظمى، ودول الإقليم الذي ستنشأ فيه الدولة الوليدة. من هنا، سعى ثيودور هرتسل، مؤسس الحركة الصهيونية وزعيمها الأول، إلى الحصول على موافقة الدولة العثمانية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، إلا أن الرفض المطلق من سلطانها عبد الحميد الثاني، دفع هرتسل للتفكير باتجاهات أخرى، كأوغندا وربما العريش المصري، عدا عن التجربة الاستيطانية في الأرجنتين.
إلا أن ثقل الصهيونية الدينية بعد وفاة هرتسل جعل فكرة الوطن القومي، فقط وفقط في فلسطين، لِتُصبح فلسطين وُجهة الجميع، ليس من الناحية السياسية فقط، وإنما أيضًا من الناحية الدينية، حتى عند غير المتدينين.
أقيمت دولة "إسرائيل" عام 1948 على جزء من فلسطين، وقد رافق ذلك عمليات تهجير السكان والسيطرة على الأرض، ثم احتلت باقي الأراضي الفلسطينية عام 1967، والتي تضم القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى سيناء المصرية والجولان السوري. من بين كل هذه الأراضي العربية الواسعة، كانت الضفة الغربية محط أنظار تيار الصهيونية الدينية، لما لها من بعد تاريخي وديني في العقيدة اليهودية، الأمر الذي يمكن استغلاله لتحقيق المطامع الصهيونية.
في بداية السبعينيات، بدأ الاستيطان يتغلغل بشكل تدريجي في الأراضي العربية المحتلة، بما فيها القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، ولكن بشكل مميز ومكثف في الضفة الغربية. واليوم، يبلغ الاستيطان في الضفة ذروته، فهو لم يحرم الفلسطينيين من التواصل الجغرافي فحسْب، وإنما يفرض واقعًا يقضي على حل الدولتين. والأكثر من ذلك أن التيار الاستيطاني الذي يسيطر على الحكومة الإسرائيلية الحالية، بدأ يدعو بشكل علني إلى ضم الضفة الغربية، أو أجزاء مهمة منها، لـ "إسرائيل".
لا تقتصر هذه الدعوات على تصريحات هنا وهناك، وإنما تجسدت في مشاريع وبرامج لبعض الأحزاب اليمينية، وخاصة تيار الصهيونية الدينية، الذي يبدو وكأنه يجتاح الضفة الغربية عبر المستوطنات والبؤر الاستيطانية، سواء العشوائية منها أو المنظمة، والكتل الاستيطانية التي تفتّت الضفة الغربية إلى مناطق منعزلة عن بعضها البعض.
يدفع هذا الواقع إلى التساؤل حول مصير الضفة الغربية في ظل العقيدة الصهيونية الدينية، وما يرافقها من ظروف سياسية يغلب عليها الانقسام الفلسطيني، والضعف العربي، والغياب الدولي، والانحياز الأمريكي.
الضفة الغربية في الفكر العقائدي الصهيوني
وفق العقيدة اليهودية، فإن التاريخ العبري بمجمله كان في الضفة الغربية، ففيها قامت دولة "إسرائيل" القديمة ثم دولتا "يهودا وإسرائيل" بعد انقسامها. ووفق المعتقدات اليهودية، انقسمت مملكة سليمان إلى قسمين: مملكة "إسرائيل" في شمال الضفة الغربية، وكانت عاصمتها آنذاك نابلس "شكيم"، ويُطلق عليها اسم السامرة (شومرون)، ومملكة "يهودا" في الجنوب، وكانت عاصمتها القدس، ويطلق عليها اسم يهودا (رؤوبن و ارنا، 2005)، وبذلك يصبح اسم الضفة الغربية وفق العقيدة اليهودية يهودا والسامرة، وهو اسم تطلقه "إسرائيل" على الضفة حتى اليوم، متجاهلةً التسمية العربية.
وفق معتقدات تيار اليهودية الصهيونية، فإن أرض الضفة الغربية يجب أن تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية، لما في ذلك من تقريب لعودة المسيخ (مخلص اليهود)، والأبعد من ذلك، فإن السيطرة على الضفة الغربية يجب أن تؤدي إلى بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى (يوبال و شخيم، 2008). انطلاقًا من هنا، بدأ هذا التيار ببناء ما يسمى بالمذبح، لنقله إلى المسجد، والمذبح وفق التعاليم اليهودية ذو أهمية بالغة، ومكون أساس في البيت المقدس (هرشكوبيتس، 2009)، ويعتبر بناؤه المرحلة الأولى في بناء ما يسميه اليهود جبل الهيكل.
ووفق فتاوى الحاخامات، أي رجال الدين اليهود، فإن التنازل عن مناطق الضفة الغربية، وكما يسمونها يهودا والسامرة، لا يجوز شرعًا، فقد أوضح اليعيزر ملماد، وهو من رجال الدين المنتمين للصهيونية الدينية، أن ترك الضفة الغربية خارج السيطرة الإسرائيلية ممنوع وفق الشريعة اليهودية، وأن إعطاء العرب الموجودين فيها، مواطنة شبيهة بتلك التي يتمتع بها اليهود، ممنوع أيضًا (ملماد، 1992)، وهذا ما يفسّر تركيز الصهيونية الدينية اليوم، على الاستيطان بشكل كبير في مناطق الضفة الغربية.
وفي العقود الأخيرة، امتدت فكرة الاستيطان في كامل الضفة الغربية لتشمل قطاعًا واسعًا من الحريديم (المتدينين غير الصهاينة)، فأسسوا ما يعرف بمنظمة حلميش (חלמיש، حريديم من أجل يهودا والسامرة)، ويأتي ذلك في ظل التقارب بين المعسكرين، المتدينين الصهاينة والحريديم غير الصهاينة (الموج و باز، 2008). وفي الآونة الأخيرة، أخذ توجه الحريديم نحو اقتحام المسجد الأقصى يتسارع بشكل يومي، رغم ترددهم في ذلك سابقًا (روتبرج، 2003).
من هنا، استطاعت الصهيونية الدينية، أن تفرض رؤيتها فيما يتعلق بمناطق الضفة الغربية، مؤسِّسة رؤيتها على أساسين: الأول تاريخي، والآخر توراتي ذي علاقة بعودة المخلّص في آخر الزمان، وهذا ما يفسّر الرغبة الجامحة لدى هذا التيار، في فرض سيطرة أكبر وأشمل على مناطق الضفة الغربية، مُسرّعًا عجلة الاستيطان، بصورة متدحرجة خلال السنوات الأخيرة.
التركيبة الاستيطانية في الضفة الغربية
أدّت موجة الاستيطان التي اجتاحت مناطق الضفة الغربية -وما زالت في تسارع مستمر- إلى إحداث تغير ملحوظ في التركيبة السكانية للمستوطنين في مجمل مناطق الضفة الغربية والقدس، وهي لا تعكس طبيعة التركيبة السكانية لمجمل سكان الدولة، حيث يتوزع المستوطنون على أربع مجموعات أساسية (مسيخ، 2014):
- المستوطنون العلمانيون.
- مستوطنون مهاجرون جدد.
- مستوطنون متدينون صهاينة.
- المستوطنون الحريديم (غير صهاينة).
ومن بين السبعمائة ألف مستوطن، الموزعين على مناطق الضفة الغربية والقدس، وُجِدَ أن نسبة المتدينين، بشقيهم الصهيوني والحريدي، في تزايد مستمر، وتزيد عن 77% من المجموع العام للمستوطنين. وقد توزع المستوطنون كما يلي (بيوتركوبتسكي، 2016):