دلالات وتداعيات تصاعد جرائم القتل في الأراضي الفلسطينية في الداخل المحتل
ساهر غزاوي [1]
نجحت السياسة العليا “الإسرائيلية” إلى حد كبير بإشغال الفلسطينيين في الداخل المحتل بقضايا ونزاعات داخلية بسبب ارتفاع وطأة الجريمة المنظمة التي تفتك بأبناء مجتمعهم، وباتت تشكل تأثيرًا اجتماعيًا ونفسيًا صادمًا عليهم، ومصدرًا للقلق والإحباط الاجتماعي والوطني والاقتصادي، لافتقادهم الأمن والأمان الشخصي في حيزهم الخاص والعام على حد سواء، وبات موضوع الجريمة والعنف يتصدر اهتمامات المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، إذ تحول مطلب المجتمع في إيجاد حلّ للجريمة والعنف إلى المطلب الأبرز، ومقدَّم على أيّة قضايا سياسية أخرى.
اتّساع الجريمة المنظمة والعنف في الأراضي الفلسطينية في الداخل المحتل لم يأتِ من فراغ، فهو نتاجُ مجمل السياسات الحكومية والإقصاء المعمول بها تجاه المجتمع العربي، فهي ليست مجرّد إهمال وتواطؤ الشرطة فقط؛ فوفقًا للباحثة “الإسرائيلية” “إيلات مَعوز“، فإنّ الجريمة المنظمة هي استمرار لأدوات القمع والاضطهاد، ومحاولات السيطرة السياسية والاقتصادية على المجتمع العربي بأدوات أخرى، والتي تدفع بعض الشرائح نحو الكسب السريع من خلال تجارة السلاح، أو اللجوء إلى منظمات الإجرام لطلب قروض “السوق السوداء”.
ارتفاع مُطَّرد في جرائم القتل:
منذ بداية عام 2023، وصل عدد جرائم القتل في المجتمع العربي إلى مستوى غير مسبوق مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، وأكثر من أي رقم سُجِّل في الماضي، ومن منظور سنوي، يتعلق الأمر باحتمال أن يصل عدد القتلى من فلسطيني الداخل المحتل إلى أكثر من 200، وذلك مقارنة بـ 106 في العام الماضي (2022)، حيث كان هناك، لأول مرة، انخفاض بنسبة 16% في عدد القتلى، والذي زاد بشكل مُطَّرد في السنوات السابقة، انظر الجدول التالي:
2018 | 2019 | 2020 | 2021 | 2022 | عام |
74 | 94 | 100 | 115 | 106 | عدد القتلى |
منذ تولي “إيتمار بن” غفير منصب وزير الأمن القومي مطلع العام الجاري، تفاقمت ظاهرة العنف في المجتمع العربي، وزاد عدد القتلى جرّاء الجريمة المنظمة خلال الأشهر الأولى من 2023، ليصبح الأعلى منذ عقود، فقد بلغ عدد ضحايا جرائم القتل 96 قتيلًا، بينهم 6 نساء وشابة وطفلان، وكانت جريمة القتل الجماعي (المجزرة الإجرامية) التي شهدتها بلدة يافة الناصرة واحدة من أكثر جرائم إطلاق النار الجنائية دموية في تاريخ البلاد، والتي راح ضحيتها خمسة شبان في الثامن من شهر حزيران/ يونيو الجاري، على خلفية نزاع بين منظمتين إجراميتين، يدور رحاه تحت أعين الشرطة “الإسرائيلية“.
تورُّط السياسة العليا “الإسرائيلية” بجرائم القتل:
لم يعد خافيًا أنّ أحد الأسباب الرئيسة للارتفاع في عدد القتلى والمصابين بجرائم إطلاق نار في الأراضي الفلسطينية في الداخل المحتل، هي كميات السلاح الهائلة المنتشرة في بلدات ومناطق عربية، إذ يوجد بها قرابة 500 ألف قطعة سلاح دون تراخيص، وبموجب الإحصائيات الرسمية وإقرار وزارة الأمن الداخلي “الإسرائيلي”، فإن مصدر 70% من الأسلحة في البلدات العربية في الداخل هو مخازن مقارّ الشرطة ومستودعات الجيش “الإسرائيلي“، وبالتالي فإنّ الدولة لا تعمل على إنفاذ القانون، ولا تمنع تسريب السلاح، ولا تشدّد الرقابة على مصادره المرخصة، وقد تمت سرقة الأسلحة والذخيرة لقواعد جيش الاحتلال، ولا سيّما تلك الموجودة في جنوب البلاد، ولم تتم متابعة التحقيقات أو اتهام أحد بهذه الملفات.
إنّ أكثر ما يؤكد تورط السياسة العليا “الإسرائيلية” في حمّام الدم الجاري في المجتمع العربي، هو محاولة الشرطة “الإسرائيلية” المستمرة بتصدير رواية عجزها وعدم امتلاكها الأدوات والموارد اللازمة لفك رموز الجرائم في المجتمع العربي، فيما تستغل منظمات الإجرام ذلك للمضي في جرائمها، وتوسيع رقعة تجارة السلاح، الذي غالبًا ما يكون مصدره مخازن جيش الاحتلال، كما سبق ذكره، كما وتتذرع الشرطة بضعف الموارد ومحدودية قدراتها على الوصول إلى المجرمين في الداخل الفلسطيني المحتل بينما تستنفر في الأحداث ذات الخلفية القومية، وتكون قادرة على الوصول إلى كل فلسطيني من أبناء الداخل، شارك في تظاهرة أو ردد شعارًا، أو كتب بعض كلمات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأكثر ما يتردد في هذا السياق، هو سؤال: كيف ل”إسرائيل” التي تنجح في منع كل تنظيم أمني في المجتمع العربي، وتنجح في التسلل لكل دولة في العالم، وتنجح في أن تجلب في ظلمة الليل الأرشيف النووي الإيراني، ولا تنجح في القضاء على الجريمة في المجتمع العربي؟
عند المقارنة بين نسبة نجاح الشرطة “الإسرائيلية” في فك الجرائم في المجتمع العربي، مقابل النسبة في المجتمع “الإسرائيلي”، فإن ذلك يعطي مؤشرًا على أنّ الشرطة قادرة على تحقيق نتائج ملموسة حين تريد ذلك، فقد شهدت السنوات الأربع الأخيرة نحو 732 جريمة قتل في “إسرائيل”، شكلت الجرائم في المجتمع العربي نحو 70 % منها، ومع ذلك لم تتجاوز نسبة تقديم لوائح الاتهام 29 % ، مقابل 69 % في المجتمع “الإسرائيلي”، وقد كشف تقرير نشرته صحيفة “هآرتس” العبرية أنّ الشرطة “الإسرائيلية” حلّت أقل من 5 % فقط من ألغاز جرائم القتل التي حدثت في المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل منذ بداية عام 2023، مقارنة بحلّ أكثر من 83 % من حالات القتل في المجتمع اليهودي.
يُضاف أيضًا أنّ القرار السياسي “الإسرائيلي” يغضّ الطرف عن منظمات الإجرام العربية، حتى وصلت الأمور إلى مشاهد القتل اليومية، كما أنّ “الشاباك” “الإسرائيلي” يغضّ الطرف عن تجار سلاح ومخدرات من فلسطينيي الداخل، مقابل تقديمهم معلومات أمنية له، والمثير في هذا السياق أنّ صحيفة “يديعوت أحرنوت” نشرت خريطة وتفاصيل النزاعات والصراعات الدموية بين المنظمات الإجرامية العربية الكبرى، علمًا بأن معظم الجرائم مرتبطة بالعمل في الربا والسوق السوداء، وتصفية الحسابات بين عصابات الإجرام، وهذا يقودنا أيضًا إلى تقرير (للقناة 12 العبرية) الذي كشف عن محادثات داخلية وتسريبات خطيرة لأقوال ضابط كبير في الشرطة “الإسرائيلية”، يكشف فيها عن أنّ معظم المتورطين العرب الفلسطينيين في الداخل المحتل في عالم الإجرام هم عملاء للمخابرات العامة “الشاباك” منوهًا أنهم يتمتعون بحصانة تحول دون مكافحة الجريمة المستشرية، وهذا يدّل على أنّ هذه المعلومات معروفة لدى الشرطة التي تتقاعس عن القيام بعملها في لجم الجريمة، وملاحقة عصابات الإجرام، وتقديم الجناة إلى القضاء، ليجد المجتمع العربي نفسه متروكًا لمصيره ورهينة للجريمة المنظمة، حيث يعتقد منفذو إطلاق النار أنّ كل شيء مباح بالنسبة لهم، في حين قد ساهم القرار السياسي الذي اتُخِذ عام 2003 في القضاء على منظمات الإجرام في المجتمع “الإسرائيلي”، حينها، وعلى ضوء النزاعات المتصاعدة بين منظمات الإجرام “الإسرائيلية”، ومنها “أفوتبول”، “روزنشطاين”، “أبرجيل” وغيرها، صادق “الكنيست” “الإسرائيلي” عام 2003 على قانون “مكافحة منظمات الإجرام”، ومع نشاط الشرطة الخاصة التي وضعت نصب أعينها القضاء على هذه المنظمات، نجح الأمر.
الاحتلال المستفيد الأكبر من الجريمة!!
إنّ استشراء العنف ونشر السلاح بهذه الفوضى، بدأ منذ العام 2000، وبعد اندلاع هبّة القدس والأقصى (الانتفاضة الثانية) تحديدًا، ورغم عدم توفر معطيات عن العقود السابقة، إلّا أنّ المجتمع العربي يمر بظروف غير مسبوقة، حيث قُتِل منذ عام 2000 حتى اليوم قرابة 1800 فلسطيني، ومن الواضح أنّ أجهزة الأمن “الإسرائيلية” قد قررت وضع ملف الجريمة في المجتمع العربي على الرف، وقررت أن يأخذ الجانب الأمني كل الحيِّز، أي أنّ هناك تمييزًا بين السلاح الجنائي والسلاح الأمني، فهبّة القدس والاقصى أُبرزت بعد الصراع إلى مركز سياسة الدولة، و أبرقت الهبّة إلى الدولة رسالة مفادها أنّ الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل صاحب وعي سياسي ونزعات تحررية، ونزعات ضد سياسة الدولة العليا، ومع كل المحاولات من المسؤولين العرب لتهدئة الوضع، إلّا أنّ الضوء الأحمر كان يسطع لدى الأجهزة الأمنية التي عملت على إضعاف المجتمع العربي وإبقائه عند مستوى معين من الضغط والحاجة، إلى درجة تخدم سيطرته، وبالتالي أصبح التعامل مع الجريمة على أنّها جزء من الصراع وليس فقط ضائقة اجتماعية.
لا تزال المؤسسة الإسرائيلية تراهن بشكل عملي على أنّ التضييق على المجتمع العربي في الداخل المحتل، وشيوع العنف والجريمة فيه، سيدفع بأبنائه نحو الانشغال بالأمن الشخصي وسلامة الأفراد والبيئة القريبة، وتغليب ذلك على الهمّ الوطني، في خطوة لتغيير قناعات المجتمع بأن الأمن والأمان يكون بالتقرب إلى المؤسسة “الإسرائيلية” وأجهزتها، من خلال السعي الحثيث لربط المجتمع العربي بمشاريع ال”أسرلة”، وفي قمّتها إلحاقه بالمؤسسة الأمنية “الإسرائيلية”، من خلال تحطيم قيّمه وسلخه عن هويته الوطنية، وعزله عن الشعب الفلسطيني العام، من خلال دفع الشباب العرب إلى الانخراط في سلك الشرطة، وما يُسمى بـ”الخدمة المدنية”، وتعمل على فرض تطبيع العلاقة مع الأجهزة الأمنية، التي ترتكب الجرائم الفظيعة بحق شعبنا الفلسطيني في غزّة والضفة والقدس، وتقترح إقامة محطّات شرطة جديدة، وتجنيد الشباب والصبايا العرب في الشرطة، والسماح بتدخّل جهاز المخابرات العامة “الشاباك” في محاربة الجريمة، وإدخال الجيش إلى هذا الميدان، وإقامة وحدة مستعربين خاصّة تكافح الجريمة، وكذلك تقترح القيام باعتقالات إدارية، بادّعاء أنها خطوة وقائية لمنع ارتكاب جرائم، وكل هذا يأتي في ظل وضع اجتماعي واقتصادي ضاغط على الفرد الذي يعيش في دوامة من الاستهلاك وغلاء المعيشة والتزامات لا نهاية لها، دون أفق من حيث استيعاب المجتمع لمثل هذه المشكلات، وعلى رأسها ضائقة السكن والبنية التحتية.
الخاتمة:
أمام جرائم القتل المستفحلة في الأراضي الفلسطينية في الداخل المحتل، وفي ظل تقاعس وتواطؤ الشرطة “الإسرائيلية”، بات الفلسطينيون يشعرون بأنهم داخل مصيدة، فالجريمة التي تفشت داخلهم حدثت تحت أعين ورقابة الدولة وشرطتها، ومطالبهم بتدخلها لم تؤتِ نتيجة، كما أنّ الأدوات الاحتجاجية للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في البلاد هي تكرار لذات الشيء ومحدودة جدًّا، ولم تنجح في تغيير حجم الجريمة لا اللجان “البرلمانيّة” الخاصة (لجان الكنيست) لمواجهة الجريمة والعنف في المجتمع العربي، ولا مشارَكة حزب عربي في الائتلاف الحكومي (القائمة العربية الموحدة) بعد التنازل عن الـمطالب القومية والاكتفاء بالمدنيّة، بل جرائم القتل في ازدياد وأعداد القتلى في تصاعد، ولم يبق للجنة المتابعة والقيادات العربية إلّا الاستجابة للأصوات الداعية إلى إعلان العصيان المدني وعدم دفع الضرائب وشل أركان الدولة، عبر خطوات احتجاجية متواصلة، خاصة وأنّ ليس للساسة “الإسرائيليين” ما يقدموه بمكافحة الجريمة في المجتمع العربي سوى الحديث عن إشراك الشاباك وتشكيل “حرس قومي”، لكن قادة “الشاباك” تتحفظ على المشاركة في أيّ جهد للحد من الجريمة في المجتمع العربي، لأنّ الشاباك لن يضحي بنفوذه داخل عائلات الجريمة المنظمة.
من المرجّح أن تتحرك السياسة العليا “الإسرائيلية” المستفيدة من هذا الوضع فقط عندما يؤدي الارتفاع الحاد في معدلات الجريمة والقتل في المجتمع العربي إلى تقويض الاستقرار والأمن الداخلي “الإسرائيلي”، حيث بات يسود الاعتقاد لدى قيادة الشرطة “الإسرائيلية” أنّ المجتمع العربي “انهار داخل نفسه” بسبب التصاعد الكبير في جرائم القتل، وأنّ موجة الجرائم هذه من شأنها أن تنتشر بشكل واسع في المجتمع اليهودي أيضًا، حسبما ذكرت صحيفة “يسرائيل هيوم”.
[1] باحث في القضايا السياسية من الناصرة