دراسة: التنمية بالعناقيد في السياق الفلسطيني
أ. كريم قرط[1]
يحتل موضوع التنمية مساحة مهمة في النقاش الأكاديمي والمؤسساتي في المرحلة الحالية، حيث تسعى مختلف دول العالم إلى تحسين ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، أو على الأقل الحفاظ على ما حققته من مستويات من النمو والتنمية. وقد اختلفت وتعددت النظريات والمقاربات التي تناولت موضوع التنمية وأفضل السبل لتحقيقها. وتبنت العديد من الدول، وخصوصًا دول الجنوب، نظريات وسياسات مختلفة لتحقيق التنمية، تراوحت بين التوجهات الاشتراكية والتوجهات الليبرالية الرأسمالية. كما أن السياسات نفسها تنوعت واختلفت من دولة إلى أخرى ومن فترة إلى أخرى، حسب ظروف كل دولة وتوجهاتها السياسية.
هذا، وقد اختلف مفهوم التنمية ذاته، وأخذ أبعادًا متعددة خلال فترة تطوره. والتصور الأساسي هو أن التنمية ليست متعلقة فقط بما بات يطلق عليه “دول الجنوب” أو “العالم الثالث”، بل هي عملية مرت بها الدول المتقدمة قبل غيرها. ومن هنا ظهرت نظريات التحديث التي يرى روادها أن على دول الجنوب أن تسير وتتبع نفس الخطوات التي سارت بها واتبعتها الدول المتقدمة حتى تصل إلى التنمية المنشودة. ولكن هذه المدرسة لم تصمد طويلًا، وظهرت نظريات التبعية التي سعت إلى فهم تعثر عملية التنمية في دول الجنوب في ظل النظام الاقتصادي العالمي، ودور الاستعمار والتبعية له كعوامل مهمة في إعاقة عملية التنمية. وقد تراجعت هذه المدرسة عقب تمكن عدد من دول الجنوب من تحقيق درجات متفاوتة من التنمية. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، ومع تراجع الاشتراكية إلى انهيار الاتحاد السوفيتي 1991، بدأت تظهر وبقوة التوجهات النيوليبرالية مع حكومة مارغريت تاتشر في بريطانيا، وإدارة دونالد ريغان في الولايات المتحدة الأمريكية. وتمحورت التصورات النيوليبرالية حول مجموعة من الفرضيات الاجتماعية والاقتصادية المتمثلة بالفردانية والريادية ونقل مسؤولية الرفاه من الدولة للأفراد أنفسهم، وأهمية المنافسة للتقدم وأولوية القطاع الخاص على العام في العملية الاقتصادية، وتراجع دور الدولة على المستوى الداخلي والخارجي في تنظيم الاقتصاد، أو توجيهه وإدارته لحساب آليات السوق وقواه.
في هذا السياق النيوليبرالي، الذي أصبح سياسة معتمدة لدى مؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي) بعد اجتماع واشنطن عام 1989، الذي جاء كوصفة من عدد من السياسات النيوليبرالية لعلاج الدول الفاشلة اقتصاديًا؛ في ضمن هذا السياق ظهرت عدد من السياسات التنموية المنسجمة مع المفاهيم النيوليبرالية لتحقيق التنمية. وكانت أبرز تلك السياسات التنموية هي فكرة “التنمية بالعناقيد” التي نظر لها عالم الاقتصاد الأمريكي مايكل بورتر منذ عام 1991. ومع أن تلك الفكرة أخذت زخمها مع بروتر، إلا أنها تعود إلى قبل ذلك بكثير، منذ عشرينيات القرن الماضي كما سيُذكَر لاحقا.
ومنذ التسعينيات شهدت التنمية العنقودية أهمية متزايدة من قبل جغرافيين واقتصاديين وعلماء اجتماع وباحثين في الأعمال والإدارة وصانعي سياسات، وتشهد على هذه الأهمية كمية الدراسات المتزايدة حول مفهوم التنمية العنقودية والقضايا المتعلقة به. وأما من ناحية التصميم والتنفيذ للتنمية العنقودية فإن هناك العديد من المنظمات متعددة الأطراف، مثل منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO)، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والبنك الدولي، ومؤتمر الأمم المتحدة للتعاون للتجارة والتنمية، والمفوضية الأوروبية، تعمل على تعزيز وتطوير السياسات المتعلقة بالتنمية العنقودية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومات الوطنية في الدول النامية والمتقدمة تتبنى سياسات التنمية العنقودية لتعزيز التنمية الإقليمية/المحلية، وتبعًا لذلك، فهناك المئات من مبادرات التنمية العنقودية قد دشنت نظريًا في كل الدول (Rocha, 2013).
وليست التنمية العنقودية نظرية واحدة، بل هي كم هائل من الأطروحات والمقاربات النظرية والتطيبقات العملية، يصعب الإلمام بها جميعها، وهذه من أهم الصعوبات التي واجهت الباحثين، حيث كانت نظرية العناقيد مثل “الهلام” الذي إن أمسك به من جهة أفلت من جهة أخرى. والسبب وراء ذلك هو كثرة من تعرض لهذه الفكرة بالنقاش والتطوير والنقد.
وفي ظل هذه الأهمية المتزايدة لمفهوم التنمية العنقودية، أظهرت الحكومة الفلسطينية برئاسة الدكتور محمد اشتية توجهًا نحو تبني التنمية بالعناقيد كسياسة تنموية للأراضي الفلسطينية، وقد عبر اشتية عن هذه التوجه قبل تسلمه منصب رئاسة الوزراء في كتابه “فلسطين: منظور تنموي جديد” الصادر في طبعته الأولى عام 2018. ووضح فيه تصوره لعملية التنمية ودورها في سياق منظومة الاستعمار الصهيونية. وقد تبنت الحكومة الفلسطينية هذه السياسة كوسيلة لتحقيق التنمية في الأراضي الفلسطينية عقب تولي اشتية منصبه.
يدفعنا الطرح السابق إلى البحث عن مفهوم التنمية العنقودية، ودراسته وفهم آلياته ومبرراته وعوامل نجاحه وفشله، وخصوصًا في دول العالم الثالث. بالإضافة إلى ذلك، اختبار مدى فاعلية التنمية العنقودية في ظل الاستعمار الصهيوني، وكيف تستجيب الحكومة الفلسطينية للتحديات ومعيقات التنمية التي أعاقت كل خطط التنمية السابقة.
لقراءة وتحميل الدراسة اضغط هنا
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله