خيارات وسيناريوهات المواجهة ”الإسرائيلية“ الإيرانية
د. عدنان أبو عامر
المقدمة:
شهدت الأشهر الأخيرة بعد سنوات طويلة من التصعيد التدريجي الذي حافظ على مستوى معروف و”متوافق عليه ضمنيًا“ بين إيران ودولة الاحتلال تنامياً متسارعاً في هذا التصعيد، ومعدلاته، ومستوياته، حتى بات المتابع لهذا التصعيد يرقب عدًّا تنازليًا لدخولهما فيما تسمى حرب اللا خيار.
تناقش هذه الورقة العلاقات الإيرانية ”الإسرائيلية“ وما تشهده من توترات غير مسبوقة، واحتمالية اندلاع مواجهة بينهما، عشية تزايد التهديدات الإيرانية بالرد على دولة الاحتلال عقب الاغتيالات الأخيرة في قلب طهران، وسط تجاوز هذا التوتر للجانبين، ووصوله إلى عواصم مجاورة بشأن إمكانية استهداف إيران ”لإسرائيليين“ متواجدين في بعض دول المنطقة، وصولًا إلى استقراء نتائج هذا التوتر الاستثنائي، ومكاسب وخسائر كل طرف منه، وأهم السيناريوهات المتوقعة لمآلاته.
أسباب التصعيد:
لم يشكل التصعيد ”الإسرائيلي“ الإيراني الأخير أمرًا مفاجئًا أو استثنائيًا، بل إنه السمت الذي رافق علاقاتهما منذ سنوات طويلة، لكنه أخذ بالاتساع أكثر منذ عام 2013، عقب اندلاع الأزمة السورية، ودخول إيران على خطها بقوة، من خلال إرسال الآلاف من مقاتليها وأذرعها في المنطقة، مقابل شروع الاحتلال في انتهاج استراتيجية ”المعركة بين الحروب“، التي سعت من خلالها إلى مواجهة البرنامج النووي الإيراني من جهة، ومن جهة أخرى كبح جماح التواجد الإيراني في سوريا، واقترابه من حدود فلسطين المحتلة، لاسيما هضبة الجولان.
في الوقت ذاته، فقد زادت دولة الاحتلال من ضرباتها الموجهة إلى الأهداف الإيرانية في سوريا، سواء القواعد العسكرية المنتشرة فيها، أو قوافل الأسلحة المتجهة من إيران إلى حزب الله في لبنان مرورًا بالأراضي السورية، لكنه رغم ذلك بقي تصعيدًا مدروسًا و”تحت السيطرة“.
جديد هذا التصعيد ”الإسرائيلي“ الإيراني أنه أخذ أبعادًا سياسية وعسكرية واستخبارية في الوقت ذاته، من خلال المعطيات التالية:
- تزامن الضربات العسكرية ”الإسرائيلية“ للأهداف الإيرانية، مع استئناف مفاوضات فيينا لإبرام اتفاق نووي جديد تريده إيران وترفضه ”إسرائيل“، بل تسعى إلى تخريبه، ويفهم من زيادة الهجمات ”الإسرائيلية“ ضد إيران جرها إلى الرد العسكري، بهدف مفاقمة الأوضاع الميدانية في المنطقة، وبالتالي طي صفحة هذا الاتفاق.
- التخلي ”الإسرائيلي“ التدريجي عن سياسة ”الغموض البناء“ التي دفعتها إلى التكتم على عملياتها ضد إيران، دون تبني المسؤولية عنها، أو التنصل منها، وهو النهج الذي اتبعه رؤساء الموساد والحكومات السابقين، ”مائير داغان“ و”تامير باردو“، ”أريئيل شارون“ و”إيهود أولمرت“، لكن الرئيسين الأخيرين للموساد ”يوسي كوهين“ و”ديفيد بارنياع“، ورئيسي الحكومة السابق ”بنيامين نتنياهو“ والحالي ”نفتالي بينيت“، تخلوا رويدًا رويدًا عن هذه السياسة، وشرعوا يتفاخرون بتنفيذ هذه العمليات جهارًا نهارًا، خدمةً لأغراض حزبية داخلية، بما يتعارض كلياً مع العقيدة الأمنية ”الإسرائيلية“.
- الحديث الروسي عن انسحاب تدريجي لقواتها من سوريا بهدف نقلها إلى ساحات الحرب في أوكرانيا، مما حوّل سوريا تدريجيًا إلى ساحة مستباحة من التنافس ”الإسرائيلي“ الإيراني، لملء الفراغ الناجم عن مغادرة الجيش الأحمر لها، وهنا يمكن فهم زيادة الضربات ”الإسرائيلية“ الموجهة إلى الأهداف الإيرانية في سوريا، والتسبب في إسقاط خسائر بشرية ومادية لإيران، على غير العادة، بمن فيهم ضباط كبار في الحرس الثوري، وصولًا إلى تعطيل مطار دمشق الدولي للمرة الأولى منذ 2013.
- اتساع رقعة الاستهدافات ”الإسرائيلية“ لتصل إلى عمق الأراضي الإيرانية، وتحديدًا في قلب طهران، لاسيما من خلال اغتيال العديد من العلماء النوويين وضباط الحرس الثوري، فضلًا عن تفجير بعض المواقع، وآخرها تدمير مصنع الطائرات المسيرة بمحافظة كرمنشاه شرق البلاد، دون أن يقابله رد إيراني ضد ”إسرائيل“، مما تسبب بإحراج للدولة الإيرانية أمام شعبها وجمهورها، مما دفعها إلى رفع صوتها وتهديداتها التي تمثلت بمحاولة اختطاف وقتل ”إسرائيليين“ في دول المنطقة، الأمر الذي قد يعقد المسألة إقليميًا ودوليًا.
نتائج المواجهة:
لا يبدو أن إيران و”إسرائيل“ راغبتان بالذهاب إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، تحرق الأخضر واليابس، وتقضي على كل الخطوط الحمراء، وتجعل الصراع بينهما ”خارجًا عن السيطرة“، لاسيما وأن لكل منهما حسابات، وحسابات دقيقة: داخلية وخارجية، مما يجعلهما يديران صراعهما القائم على خيط من نار، دون أن يضمنا بقاء الأمور تحت السيطرة.
في الوقت ذاته، لا يبدو أن إيران ستبقى في حالة تلقي الضربات ”الإسرائيلية“ دون رد، وإلا فإن ذلك سيشجع الأخيرة على رفع سقفها، كمًا ونوعًا، طالما أنها أمنت أنه لن يطالها انتقام إيراني، كفيل بكبح جماحها، والحديث يدور هنا عن رد حقيقي، وليس شكليًا أو استعراضيًا، مما يحمل في الأفق بوادر فعل إيراني لا يعرف أين ستكون ساحته الجغرافية، أو حجمه المادي، لأن عدم تحققه يعني تبدد صورة مشروعها الذي رسمته في المنطقة طيلة السنوات الماضية.
يقف بين عدم الذهاب إلى مواجهة مفتوحة مكلفة لإيران و”إسرائيل“، والردود الإيرانية الآنية لون رمادي يتمثل بجملة من المعطيات الميدانية على الأرض، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- يبدو أن هناك قرارًا ”إسرائيليا“ متخذًا، وعلى أعلى المستويات: السياسية والأمنية والعسكرية، بأنه آن الأوان لـ”فرملة” التوسع الإيراني في المنطقة، من خلال توسيع مساحة استراتيجية “المعركة بين الحروب” التي تعني تنفيذ ”إسرائيل“ لعشر ضربات كبيرة في السنة، بدلًا من خوض حرب واحدة كل عشر سنوات، وهو ما رأينا نتائجه متمثلة فيما تسميه سياسة ”جز العشب“، من خلال ضرب المواقع والقواعد الإيرانية المنتشرة في سوريا، واستهداف قوافل الأسلحة المتجهة إلى حزب الله، وصولًا إلى ملاحقة السفن الإيرانية في عمق الخليج العربي والبحر الأحمر.
- تزامن زيادة الضربات ”الإسرائيلية“، مع تنامي الحديث الأمريكي عن تحالف إقليمي يضم ”إسرائيل“ وتسع دول عربية، وهي: دول الخليج الستة بجانب الأردن ومصر والعراق، وهو تحالف ليس له من هدف مركزي سوى استهداف إيران، الأمر الذي من شأنه زيادة توتر الأمور في المنطقة، لا سيما استخدام الطيران ”الإسرائيلي“ للأجواء العربية، خاصة السعودية، عقب الاتفاقية الأمنية العسكرية بين “إسرائيل” والبحرين، بما يعنيه من تواجد ”إسرائيلي“ ”رسمي“ على شواطئ الخليج العربي، وقبلهما التواجد ”الإسرائيلي“ الاستخباري شمال العراق، وهو ما ردت عليه إيران مؤخرًا باستهداف ما قالت أنها قاعدة للموساد بمحافظة أربيل في كردستان العراق.
- من الصعب ربط التوتر الإيراني ”الإسرائيلي“ بهما فقط، فالتصعيد باتت أطرافه إقليمية، وربما دولية أيضًا، لاسيما وأنه يتزامن مع تعثر المفاوضات النووية، مما قد يدفع طهران إلى محاولة الرد على ذلك بافتعال بعض الأزمات في المنطقة، سواءً من خلالها مباشرة، أو عبر أذرعها وحلفائها، وهي تعلم علم اليقين أن المنظومة الغربية عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا، لا تريد صرف الأنظار عن الحرب الأوكرانية، مما يجعل طهران، من وجهة نظرها، فرصة لابتزاز واشنطن، وإجبارها على الخضوع لمطالبها المتضمنة في الاتفاق النووي.
- في الوقت ذاته، لا تبدو الجبهة اللبنانية بعيدةً عن التوتر الإيراني ”الإسرائيلي“، في ظل وجود حليف إيران الأقوى هناك، وقد تستعين به لمحاولة التحرش ”بإسرائيل“ لتصدير أزماتها الداخلية والخارجية، مما يجعل خيار المواجهة اللبنانية ”الإسرائيلية“ أمرًا قائمًا ومتوقعًا، في أي لحظة، رغم وجود كوابح لديهما، تجعلهما يفضلان إبقاء فرضية حرب ”لبنان الثالثة“، أو ما تسميها ”إسرائيل“ حرب ”الشمال الأولى“، مجرد تهديدات دون ترجمة على أرض الواقع، لأنها ستكون مدمرة، وستبدأ من حيث انتهت حرب لبنان الثانية في 2006.
سيناريوهات متوقعة:
يمكن الحديث بكثير من الثقة أننا ما زلنا في ذروة التصعيد الإيراني ”الإسرائيلي“، ومن المبكر جدًا وضع فرضية طي صفحته، لاسيما في وجود جملة من الفواعل التي تتجاوزهما حصرًا، وتصل إلى الدوائر الإقليمية والدولية، مما يجعل هذه المواجهة مرشحة للدخول في عدة سيناريوهات متوقعة:
- استمرار الضربات ”الإسرائيلية“ ضد المشروع الإيراني بشقيه: النووي والتوسعي، بما يشمله من زيادة كمية ونوعية في هذه الضربات، اغتيالات وتفجيرات، سواء في سوريا وإيران ولبنان والعراق، والمنافذ البحرية في الخليج والبحر الأحمر، مع ارتفاع حدة التهديدات الإيرانية، وربما تنفيذ بعض منها على صعيد محدود، كالهجمات السيبرانية، وإطلاق بعض الصواريخ من لبنان أو سوريا باتجاه المستوطنات “الإسرائيلية” الشمالية، وهذا الخيار الأكثر ترجيحًا.
- تخفيف الهجمات ”الإسرائيلية“ خشية من الانتقام الإيراني، الذي قد يوسع من حدود المواجهة بينهما، والعودة إلى ما كانت عليه من ضربات موسمية بين حين وآخر، دون الحاجة إلى زيادتها وممارسة الضغوط الأمريكية عليها، وهذا خيار وفرصة متواضعة.
- زيادة حدة التوتر الثنائي بينهما، من خلال رفع مستوى الهجمات ”الإسرائيلية“ من جهة، وتنامي الردود الإيرانية من جهة أخرى، وصولًا إلى اندلاع حرب مفتوحة، تنخرط فيها قوى إقليمية، وربما بسبب ارتفاع كلفة مثل هذه الحرب، فإن فرص هذا السيناريو قائمة، لكنها ليست مشجعة.
الخاتمة:
من المتوقع أن تبقى المنطقة في حالة من التوتر المتصاعد بين إيران و”إسرائيل“، دون أن يقتصر ذلك عليهما فقط، بل إن دولًا أخرى في الإقليم والعالم قد تجد نفسها متورطة في هذه المواجهة المتصاعدة، مما سيلقي بظلاله على مختلف العلاقات السياسية بينها، وسيجعل من الملف الإيراني ”الإسرائيلي“ مسيطرًا على سواه من ملفات المنطقة، بما في ذلك الصراع الفلسطيني ”الإسرائيلي“.
تخشى كل من طهران وتل أبيب من الذهاب إلى مواجهة مفتوحة أو حرب واسعة، لكن ذلك لن يمنعهما من اتباع سياسة حافة الهاوية، التي لا يوجد ضمانات بعدم انزلاقهما إلى ذلك الخيار ”الكابوس“، في ظل رغبة كل منهما بفرض وقائعه على الطرف الآخر، مع وجود فواعل خارجية عنهما، قد تدفعهما دفعًا إلى ما تسمى ”حرب اللاخيار“.