خيارات السلطة الفلسطينية في ظرفها الأشدّ حرجًا

تقدير موقف..

ساري عرابي

مدخل

عانت السلطة الفلسطينية في الآونة الأخيرة، من سلسلة أزمات متتابعة ومتزامنة، تُمثل في جوهرها امتدادًا متفاقمًا لمشكلات بنيوية في مشروع السلطة الفلسطينية، ووجودها ومسارها. ويأتي في القلب من تلك الأزمات، أزمة انكشاف المشروع السياسي المؤسس للسلطة، والمبرّر لوجودها واستمرارها، ثمّ عجز السلطة عن الإدارة والتسيير في ظلّ جائحة كورونا، سواء من حيث بسط سيطرتها الأمنية وفرض إجراءاتها الوقائية، أو من حيث احتواء التبعات الاقتصادية الفادحة، الواقعة على الوضع الفلسطيني جرّاء الأزمة، وجرّاء أزمة المقاصّة المتجدّدة. وفي الأثناء، وبعد طرح بنيامين نتنياهو، مشروع الضمّ للتنفيذ الفعلي، قبل أن يعود ويعلن عن تأجيله، حصل تقارب بين حركتي حماس وفتح، راوح مكانه دون خطوات فعلية تتجاوز الخطاب الإعلامي. بيد أنّ الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، أعاد الحركتين لأجواء التقارب من جديد، لاسيما مع إعلان القيادي في حركة حماس حسن يوسف، عن مشاركة حركته في اجتماع القيادة الفلسطينية يوم الثلاثاء 18 آب/ أغسطس الجاري[1]. كلّ ذلك مقابل أجواء مرتبكة على المستوى الإسرائيلي، حيث لا تستبعد الأوساط السياسية الإسرائيلية الذهاب إلى جولة انتخابات رابعة[2]. وذلك فضلًا عن اقتراب الولايات المتحدة من الانتخابات الرئاسية، ومن ثمّ دخول القضيّة الفلسطينية في بازار المساومات الانتخابيّة، أو في جمود مستغلق، في حين تبدو عجلة التطبيع وقد وُضعت على سكة سريعة، تنبّه إلى احتمال التحاق عدد من الدول العربية بالإمارات، في توقيع اتفاقيات التطبيع مع “إسرائيل”.

على ضوء هذه الأزمات المزمنة والجديدة، تقرأ هذه الورقة في خيارات السلطة الفلسطينية المحتملة، وذلك في إطار الأزمات البنيوية التي تجعل من ظرف السلطة الراهن، الأشدّ حرجًا، لا سيّما ما يخصّ مرتكزات الشرعيّة المؤسسة للسلطة، أو التي تمنح الغطاء اللازم لاستمرارها.

أزمة الشرعية البنيوية

ترتكز شرعية السلطة الفلسطينية في الأساس، على كونها وعدًا من منظمة التحرير الفلسطينية بأن تمثل السلطة مرحلة انتقالية فقط، ثم تنتهي إلى دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967. وبالرغم من أنّ هذا الوعد أخذ ينكشف باستمرار، من خلال عدّة محطّات، كهبّة النفق عام 1997، ثمّ انتهاء المرحلة الانتقالية عام 1999، وفشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، وما تبعها من انفجار انتفاضة الأقصى، ثم تبدّد رهانات قيادة السلطة على إنجاز اتفاق سلام نهائي بالمفاوضات مع أولمرت وبرعاية أوباما، ثم بسلسلة الخطوات التي اتخذتها إدارة ترامب لصالح الرؤية الإسرائيلية، كالاعتراف بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل”، وقرار نقل سفارة الولايات المتحدة من “تل أبيب” إلى القدس، واعتبار المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية قانونية، والإعلان عن “صفقة القرن” التي بدت تصفية شاملة للقضية الفلسطينية، وإلغاءً للوجود السياسي للفلسطينيين، فضلًا عن خطوات وإجراءات أخرى، كتلك المتعلقة باللاجئين، ومكتب منظمة التحرير في واشنطن، والمعونات الأمريكية للسلطة. بالرغم من ذلك كلّه، ومن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في تكريس وقائعه الاستعمارية على الأرض، وهندسته التي تحول دون أيّ إمكانية لإقامة دولة فلسطينية في الضفّة الغربية، فإنّ قيادة السلطة، ظلّت تراوح داخل مسار التسوية نفسه، ملوّحة بإجراءات لم تنفذ منها أي شيء.

بدأت القيادة الفلسطينية بالتلويح بحلّ السلطة، أو التحذير من احتمالات انهيارها، منذ عام 2010[3]. وقد تكررت التصريحات بهذا الخصوص كثيرًا طوال العقد الماضي، سواء على لسان الرئيس عباس، أو عدد من المسؤولين الفلسطينيين، بل وحتّى مسؤولين أمريكيين، حذّروا من احتمالات انهيار السلطة الفلسطينية، كوزير الخارجية الأمريكي في إدارة أوباما، جون كيري[4]. وفي عام 2015، ناقش المجلس الوزاريّ الإسرائيليّ المصغّر للشؤون الأمنيّة والسياسيّة، احتمالات انهيار السلطة الفلسطينيّة، وسيناريوهات التعامل الإسرائيليّ مع تلك الاحتمالات، وقد رأى بعض الوزراء الإسرائيليين فائدة لـ “إسرائيل” في انهيار السلطة[5]. وبالرغم من هذا التكرار للتصريحات والتهديدات والتحذيرات، ووضع وجود السلطة واستمرارها على محكّ النقاش والبحث، فإنّ قيادة السلطة لم تتجاوز المناورة الخطابية، وقد عمدت إلى إطلاق تصريحات متناقضة حول فكرة حلّ السلطة[6]، وذلك بعد شهور على إعلان المجلس المركزي لمنظمة التحرير وقف التنسيق الأمني[7]، وهو الإعلان الذي تكرّر مرّات عديدة على شكل قرارات، بما في ذلك وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع “إسرائيل”، من مؤسسات منظّمة التحرير، أو حركة فتح، أو تهديدات من رأس السلطة، دون أن يتحوّل ذلك إلى واقع على الأرض.

جاء التحوّل الأكثر جدّية في مواقف السلطة، وذلك من خلال وقف السلطة الالتزام بالاتفاقات مع الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية، بعد إعلان بنيامين نتنياهو عن مشروعه لضمّ أجزاء من الضفّة الغربية، وهو الأمر الذي يمسّ بشرعية السلطة الفلسطينية بشكل كبير، إذ يغلق مشروع الضمّ أيّ أفق، ولو كان ضئيلًا، لإمكانات مشروع التسوية، ويلغي مبررات وجود السلطة، طالما أنّها عاجزة بالمطلق، حتّى عن خوض مفاوضات لها معنى، طالما أن الإسرائيلي كرّس وقائعه على الأرض، وجعلها مرجعيّة أيّ تسوية، فأعلنت السلطة عن وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال[8]، وأتبعت ذلك بقرار رفض استلام أموال المقاصّة[9]، ثم أُعلن عن تقارب بين حركتي فتح وحماس.[10]

رافقت هذه الأزمة السياسية أزمة اقتصادية، جرّاء أزمة كورونا، وعجز السلطة عن دفع رواتب موظّفيها بسبب رفضها استلام أموال المقاصّة [11]، وهو الأمر الذي يمسّ بالجانب الآخر من شرعية السلطة، وهو شرعية الإدارة والتسيير، باعتبار السلطة أمرًا واقعًا، وتمثّل وسيطًا لتنظيم المجتمع الفلسطيني إداريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا وقضائيًّا، ومن ثمّ بات واقع السلطة الفلسطينية أكثر التباسًا وغموضًا من أيّ وقت مضى، سواء بالنسبة للجمهور الفلسطيني، أو في علاقتها بالاحتلال وشرعيتها السياسية القائمة على الوعد بالتحوّل إلى دولة.

التباس الخيارات وعُقَدها

أجّل بنيامين نتنياهو تنفيذ قرار الضمّ؛ بسبب امتناع إدارة ترامب عن منحه الضوء الأخضر لهذا القرار، كما في تصريحات لنتنياهو[12]، وكما يذهب كثير من المراقبين. وأيًّا كانت الأسباب وراء إعلان قرار الضمّ، ثمّ تأجيله، فإنّ هذا التأجيل يعيد طرح الأسئلة حول جدّية السلطة، وخياراتها في مواجهة أزماتها، لا سيما وأنّ الشكّ ظلّ قائمًا في مصداقية وقف التنسيق الأمني[13]، خاصّة في مستوياته الخطيرة، التي من شأنها أن تمس أمن “إسرائيل”، حيث أن ربط وقف التنسيق الأمني بقضية الضمّ، قد يعني تراجع السلطة عن خطواتها المعلنة في حال ظلّ قرار الضمّ في طور التأجيل، وبالفعل بدأت بعض التقارير الإخبارية تتحدث عن تقدّم في استلام السلطة لأموال المقاصّة عبر طرف ثالث[14]، كما أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ما زال متمسكًا بالمفاوضات خيارًا وحيدًا لحلّ القضيّة الفلسطينية، ولو برعاية ما يُعرف بالرباعية الدولية.[15]

كشفت أزمة كورونا عجز السلطة الفلسطينية عن معالجة الأثار الاقتصادية والصحية. فأمنيًّا ووقائيًّا عجزت عن بسط سيطرتها على عموم الفلسطينيين، واقتصاديًّا كانت أعجز عن تعزيز صمود المواطنين في أزمة كهذه. وقد تداخلت أزمة كورونا، بحكم تزامنها مع وقف استلام أموال المقاصّة، مع الأزمة السياسية وما اتصل بها من أزمة اقتصادية، وهو الأمر الذي أكد على استحالة الانفكاك عن “إسرائيل” أمنيًّا واقتصاديًّا من داخل المسار السياسي نفسه، الذي لم تزل فيه السلطة الفلسطينية.

بهذه الحقيقة، ومع انكشاف ظهر السلطة عربيًّا، أصبحت خيارات السلطة غاية في الضيق والمحدودية. فمن جهة لم تلتزم الدول العربية بشبكة الأمان التي وعدت بها السلطة الفلسطينية [16]، ومن جهة أخرى بدت السلطة وحيدة بعد التطبيع الإماراتي مع دولة الاحتلال، فالدول العربية تراوح موقفها بين الصمت والتأييد، وجامعة الدول العربية تبدو في صمت مطبق.[17]

ومن جهة التحوّل الجذري في المسار، فإنّ انعدام الفعل الميداني على الأرض منذ إعلان نوايا الضمّ الإسرائيلية [18]، مرورًا بإعلان وقف التنسيق الأمني، واللقاء المشترك بين حركتي حماس وفتح، يعني أن قيادة السلطة تراوح بين التمسك بالمسار، مع إجراءات خطابية، أو عملية محدودة لا يمكن الاستمرار فيها، وبين الشعور المطبق بالعجز، لا سيما في أي معالجة ذات شأن للمسار، حتى في القيام بخطوة تقارب جدّية مع حركة حماس، كدفع رواتب نواب المجلس التشريعي المنحل، أو مخصصات بعض أسرى حركة حماس، أو فك الحظر عن المواقع الإلكترونية المحسوبة على حركة حماس، وهي إجراءات تقدر السلطة عليها، ولا تحملها كلفة باهظة، ومع ذلك لم تُقدم عليها.

وعليه يمكن تصوّر خيارات السلطة السياسية، في الخيارات التالية:

سيناريوهات ومتطلبات

  • السيناريو الأول: تغيير وظيفة السلطة، وهو الأفضل:

ثمّة ميل في الأوساط الثقافية والسياسية الفلسطينية، إلى اقتراح تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية[19]، بتحريرها من إملاءات الاتفاقيات، وحصر وظيفتها في المهمّة الإدارية، مع نقل المهمّة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما يستدعي بالضرورة وحدة وطنية أكبر من مجرد فكرة المصالحة[20]. ويبدو هذا الخيار هو الأنسب والأفضل، بالنظر إلى أنه من جهة أولى، يتضمن تحولًا حقيقيًّا وجدّيًّا في المسار، حتّى لو استدعى قدرًا من المواجهة مع الاحتلال، ومن جهة أخرى لا يترك المجتمع الفلسطيني للفوضى والفلتان والبدائل الإسرائيلية، التي يشتغل عليها الاحتلال منذ بضع سنوات، هذا فضلًا عن كون المجتمع الفلسطيني قد ارتبط عضويًّا، على مستوى الإدارة والتنظيم والاقتصاد والأمن، بوجود السلطة الفلسطينية. وسيناريو كهذا، هو أحد سيناريوهين مفضلين عند شخصية كخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، في رؤية قدمها مؤخرًا.[21]

على المستوى الداخلي، يحتاج هذا السيناريو إلى تشكيل موقف نهائي لدى قيادة السلطة، بما في ذلك حركة فتح ومنظمة التحرير، والشروع في استعادة الوحدة الوطنية، لتأسيس خطّة التحوّل على برنامج وطني شامل، تنهض به، وتتحمل تبعاته وحدة وطنية حقيقية. وعلى المستوى الإقليمي، وبالنظر إلى انكشاف ظهر الفلسطينيين، وبروز مخطط تطبيع تصفوي تنخرط به دول عربيّة، ويجمع الفرقاء الفلسطينيون كلهم على رفضه، فإنه يلزم أن تعيد القيادة الفلسطينية، وبموقف وطني واحد، بناء علاقاتها الإقليمية، بما يعرّي التطبيع والتخلّي عن الفلسطينيين بذريعة اعترافهم بـ “إسرائيل”، وقبولهم التسوية معها. بمعنى أن يتحوّل الفلسطينيون لفرض مواقفهم على الإقليم لا العكس، وهو ما يتطلب تمتين العلاقات مع الدول الإقليمية التي تبدو أقرب للفلسطينيين في هذه اللحظة، ثم الاستناد على هذا التحالف الإقليمي؛ لتعزيز صمود الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة، وتسويق الرؤية الفلسطينية في المحافل الدولية.

ولكن ما يجعل هذا الخيار مستبعدًا، هو تمسك السلطة بالمسار السياسي الذي أوجدها، ولم تزل في إطاره، وامتناعها الواضح عن أي قدر من استنهاض الجماهير، أو تحريك حركة فتح، أو القيام بأي فعالية ميدانية مؤثرة في إطار المقاومة الشعبية، التي يفترض أنها خيار مقبول على المستوى النظري لدى حركة فتح وقيادة السلطة. وما يستبعد هذا الخيار أيضا، هو حصر حركة فتح التقارب مع حركة حماس في الإطار الإعلامي، بما لا يتجاوز تجميد الخلافات ووقف المناكفات، إلى فكّ الملفات العالقة، والبدء في ترتيب رؤية وطنية مشتركة.

يبدو أن ذلك يعود إلى تصوّر السلطة المتراكم عن نفسها، بتحوّلها من مشروع لحركة تحرّر وطني، إلى هدف دائم قائم بذاته، بصرف النظر عن آفاقه السياسية، وبحكم السنوات الطويلة الماضية لحجم ارتباطه بإكراهات الاحتلال، وتطبّعه مع ذلك، واستفادة نخبة محدودة من قيادته من هذا الواقع.

  • السيناريو الثاني: وحدة وطنية ومقاومة محدودة

يستند هذا السيناريو إلى البناء على التحوّلات الحالية المحدودة، وتطوير وحدة وطنيّة ينبني عليها تغيّر في الخطاب والتعبئة، والدفع نحو مقاومة شعبيّة محدودة ومدروسة، وقابلة للتوسع المتدرج بتوسع الوحدة الوطنية وتطورها. فائدة هذا الخيار هو التقليل من فرص مواجهة مكلفة مستعجلة مع الاحتلال، وهو خيار يراعي مخاوف السلطة وامتناعها عن الدخول في خطّ مواجهة مع الاحتلال. بيد أنّ خيارًا كهذا، لا يمكن الاستمرار فيه دون قرار ناجز في أوساط قيادة السلطة، بضرورة التحوّل، وامتلاك تصوّر لكيفية الإدارة وممكناتها، والبدائل الاقتصادية، وهو يتطلب بالضرورة كلّ ما يتطلبه الخيار الأول، من تغيير نمط العلاقات الإقليمية والدولية، وإعادة تشكيلها بما يخدم الرؤية الفلسطينية المستجدة، ويعزز صمود الفلسطينيين، ويعوض السلطة عن خسائرها الاقتصادية الناجمة عن ضغوط الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني، وعدم استلام أموال المقاصة، أو امتناع الاحتلال عن تسليمها إياها.

بالرغم من أنّ هذا الخيار يراعي التوسط بين مخاوف السلطة، ومصالح نخبتها، وبين ضرورة التحوّل في الخطّ السياسي، إلا أنّه، وبالرغم من مرور ثلاثة شهور على قرار وقف التنسيق الأمني، والامتناع عن استلام أموال المقاصّة، لم تقدم قيادة السلطة على مصارحة الجماهير بنواياها ورؤيتها المستقبلية، أو الاتفاق مع الفاعلين الفلسطينيين الآخرين على رؤية وطنية مشتركة، ولو في الحدود المتدرجة سابقة الذكر، فضلًا عن جمودها التام فيما يتعلق بالفعاليات الميدانية، وتحفّظها الشديد في استعادة الوحدة الوطنية، وهو ما يعني أن هذا الخيار ليس مطروحًا بجدّية في أوساط قيادة السلطة الفلسطينية، وأنّها، وبحسب بعض المراقبين، لن تذهب بعيدًا بما “يكسر الأواني مع إسرائيل”[22]، وأنّ وقف التنسيق الأمني سيبقى في إطار المناورة السياسية القابلة للعودة حسب الظروف والمعطيات، من قبيل الانتخابات الأمريكية وما يمكن أن ينتج عنها، وانتهاء جائحة كورونا، واضطرار السلطة للتنسيق فيما يتعلق بالسفر والحركة الخارجية، واستمرار “إسرائيل” في تجميد ضمّ الأراضي. كل ذلك يقود إلى السيناريو الثالث، المرجّح لدى السلطة، وإن لم يكن هو المحبّذ وطنيًّا واستراتيجيًّا.

  • السيناريو الثالث: انتظار تغير الظروف، وهو المرجّح

اتسمت سياسة السلطة أمام تعنت بنيامين نتنياهو منذ وصوله لرئاسة الحكومة عام 2009، بالانتظار، وملْئ الفراغ السياسي بالمناورات الخطابية، أو بالخصومة السياسية مع حركة حماس. فبعدما عوّلت على إدارة أوباما، التي تركت المشهد بلا أيّ تقدم يخدم مشروع السلطة السياسي[23]، عوّلت في الآونة الأخيرة على إمكانية التأثير على الانتخابات الإسرائيلية، وإزاحة نتنياهو من خلال حزب “أزرق أبيض” بقيادة بني غانتس[24]، ومن المرجّح أنها، أي السلطة، تنتظر الآن الانتخابات الأمريكية، على أمل فوز بايدن، وتخفيفه من حدّة إجراءات ترامب الداعمة بالمطلق لرؤية نتنياهو[25]. وإذا كان من غير المتوقع أن يقود بايدن سياسات مغايرة جذريًّا لترامب، فإنّه على الأقل قد يوفر للسلطة الفلسطينية السّلّم، للنزول عن الشجرة التي صعدت إليها بقراراتها التي اتخذتها بعد إعلان نتنياهو قرار الضمّ.

وفي هذه الحالة، ربما لن تملأ السلطة الفراغ السياسي بتصعيد الخصومة مع حركة حماس، بل على العكس، ستحتفظ بتواصل دافئ معها، دون أن يتحول إلى برنامج وطني مشترك. وبموازاة ذلك، ستحافظ على تصعيدها الخطابي. وإذا كان من المحتمل أن ترجع عن قرارها بوقف استلام أموال المقاصة، فإنّ خطوة الإمارات التطبيعية، وردّ السلطة القويّ عليها، قد يؤجل أي رجوع للسلطة عن قراراتها لأجل الاحتفاظ بمصداقيتها، هذا في حين يبدو ردّ السلطة القوي على خطوة الإمارات، راجع لجملة أسباب، منها دعم الإمارات لنتنياهو وترامب في خطوة من هذا النوع، ودعمها لمحمد دحلان، الخصم الرئيس لعدد من مراكز القوى في حركة فتح، في طليعتهم الرئيس عباس نفسه، وكون خطوة الإمارات جاءت دون تنسيق مع السلطة، التي تقول إن علاقتها بالإمارات منقطعة منذ عام 2014.[26]

إذا كان هذا السيناريو هو الأكثر أمانًا بالنسبة للسلطة، وأكثر ترجيحًا على ضوء المعطيات، فهو الأكثر خطورة بالنسبة لمستقبل القضية الوطنية، لكونه يدور داخل نفس المسار الذي أنهى الفاعلية الفلسطينية في مواجهة مشاريع التصفية والضم والمخططات الاستيطانية، وحوّل القضية الوطنية إلى خصومة داخلية، وجعل من السلطة الفلسطينية هدفًا قائمًا في ذاته، وبلا أفق سياسي.

الخلاصة

تمرّ السلطة الفلسطينية بأزمة مستعصية، تنهي فعليًّا مشروعها السياسي، وبالتالي مشروعيتها السياسية، مع انسداد الأفق أمام تسوية سياسية معقولة، وبقاء مشروع الضمّ يلوح في الأفق. وفي الأثناء، تعاني السلطة من أزمات متعلقة بقدرتها على الإدارة والتسيير، الأمر الذي يمسّ بمشروعيتها لدى الجماهير الفلسطينية، وذلك في سياق تحولات وسيولة عالية على مستوى الاحتلال والإقليم والعالم، واحتمالات إقدام الاحتلال على انتخابات رابعة، واقتراب الولايات المتحدة من إجراء انتخاباتها، ودخول التطبيع الإماراتي الإسرائيلي على خطّ هذه الأحداث كلّها، وبما لا يهدّد القضية الفلسطينية بالتصفية فحسب، بل يهدد القيادة الفلسطينية الحالية بالاستبدال، وهو ما عبّر عنه الرئيس عباس بقوله: “القضية الفلسطينية قضية عربية وإسلامية، وعليكم أن تساعدونا، وأن تقفوا إلى جانبنا، لا أن تحلوا محلنا، ولا أحد يستطيع أن يحل محلنا”، وذلك أثناء ترؤسه لاجتماع القيادة الفلسطينية، الثلاثاء 18  آب/ أغسطس، بحضور ممثلين عن الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد الإسلامي.[27]

وبينما اتخذت السلطة إجراءات في سياق وقف التنسيق الأمني، ردًّا على إعلان مشروع الضمّ الذي تأجل، وأعلنت عن مواقف قويّة ضدّ خطوة التطبيع الإماراتية، وأظهرت قدرًا من التقارب مع حركة حماس، فإنّها لم تتقدم أكثر نحو خطوات أبعد وأعمق لمواجهة التحدّيات، فيما بدا انتظارًا للانتخابات الأمريكية القادمة، وتعبئة للوقت السياسي بخطوات حذرة ومحدودة، مع تصعيد في الخطاب السياسي، وهو ما يرجّح أنها لم تحسم أمرها للتحوّل نحو تغيير وظيفتها، والخروج من مسارها السياسي الذي أسسها، وظلّت فيه منذ تأسيسها، وهو خيار غير مجدٍ بالنظر إلى مجمل التجربة الفلسطينية، ومن شأنه أن يصعّد من الهجمة الإسرائيلية، مستندة إلى قوى التطبيع العربي، ودون وجود فعالية فلسطينية، وإن كانت سيولة الأحداث قابلة لفرض تحوّلات مفاجئة وحادة، سواء على مستقبل السلطة، أو على حركة الجماهير الفلسطينية.

[1]. حماس ستشارك في اجتماع القيادة الفلسطينية الأربعاء.. لبحث التطبيع الإماراتي الإسرائيلي بعد تلقيها دعوة رسمية، موقع وكالة الأناضول، 17/8/2020، https://bit.ly/34bH6iC

[2]. الرئيس الإسرائيلي يحذر من التوجه لجولة انتخابات “رابعة”.. رؤوبين ريفلين قال إنها ستكون “ضربة قاسية ومؤلمة ولا تغتفر”، موقع وكالة الأناضول، 11/8/2020، https://bit.ly/3aBle0V

[3]. خلفيات التلويح بحل السلطة الفلسطينية من طرف محمود عباس، موقع إذاعة مونت كارلو الدولية، 6/12/2010، https://bit.ly/3g6iREO

[4]. كيري يحذر من انهيار السلطة الفلسطينية، موقع الجزيرة نت، 6/12/2015، https://bit.ly/313opeT

[5]. الوزاري الإسرائيلي المصغر يناقش انهيار السلطة الفلسطينية، موقع عرب 48، 27/11/2015، https://bit.ly/3l28c1F

[6]. الرئيس الفلسطيني: حل أو انهيار السلطة أمر غير مطروح، موقع وكالة الأناضول، 1/1/2016، https://bit.ly/3ay2r6O

[7]. منظمة التحرير تقرر وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، موقع الجزيرة نت، 5/3/2015، https://bit.ly/34bEtxc

[8]. عباس يوجه قادة الأجهزة الأمنية بوقف فوري للتنسيق مع إسرائيل، موقع وكالة الأناضول، 20/5/2020، https://bit.ly/321LX2T

[9]. الشيخ: السلطة ترفض تسلم المقاصة عن شهر أيار من إسرائيل، موقع وكالة وفا، 3/6/2020، https://bit.ly/2YbtkbO

[10]. الرجوب والعاروري خلال مؤتمر صحفي مشترك : سنجمد الخلافات لمواجهة الضم موحدين، موقع وكالة سما، 2/7/2020، https://bit.ly/31VcbUE

[11]. السلطة الفلسطينية عاجزة عن دفع الرواتب واجتماع برئاسة عباس غداً، موقع صحيفة العربي الجديد، 9/6/2020، https://bit.ly/3492jJO

[12]. نتنياهو: واشنطن لم تعط الضوء الأخضر لتطبيق خطة الضم، موقع صحيفة القدس العربي، 8/6/2020، https://bit.ly/2Y64UR1

[13]. تشكيك إسرائيلي بجدية أقوال عباس حول وقف التنسيق الأمني، موقع عرب 48، 20/5/2020، https://bit.ly/31WxO7e

[14]. مصادر تكشف موقف السلطة من استلام أموال المقاصة، شبكة عين الإخبارية، 8/8/2020، https://bit.ly/31VfpYg

[15]. عباس لميركل: مستعدون لمفاوضات برعاية “الرباعية الدولية”، موقع صحيفة العربي الجديد، 6/6/2020، https://bit.ly/3kVla16

[16]. العرب يصمون الآذان.. أكثر من أسبوع على الطلب الفلسطيني لتفعيل “شبكة الأمان المالية” ولا استجابات فعلية لمواجهة مخطط الضم، موقع صحيفة القدس العربي، 25/6/2020، https://bit.ly/328LQD0

[17]. لماذا صمتت الجامعة العربية عن اتفاقية السلام بين الإمارات و”إسرائيل”؟، موقع الخليج أون لاين، 16/8/2020، https://bit.ly/316o5fl

[18]. القطيعة السياسية بين السلطة و”إسرائيل”.. تهديدات بدون عمل، موقع المركز الفلسطيني للإعلام، 12/5/2020، https://bit.ly/3aHkEPy

[19]. معين الطاهر، حوار مع عزمي بشارة في إجابته عن سؤال “ما العمل؟”، موقع العربي الجديد، 18/5/2020، https://bit.ly/3g5G0af

[20]. ساري عرابي، عن حلّ السلطة.. وسؤال ما العمل؟!، موقع عربي21، 26/5/2020، https://bit.ly/2Yd58G2

[21]. لمواجهة “صفقة القرن”.. خالد مشعل يطالب بتغيير وظيفة السلطة الفلسطينية، موقع الجزيرة نت، 2/7/2020، https://bit.ly/3iVz94T

[22]. Will the PA really end security coordination with Israel? middle east monitor, 26/5/2020, https://bit.ly/2CBUgKa

[23]. هاني المصري، سقوط الرهان على أوباما، موقع مركز مسارات، 11/7/2010، https://bit.ly/3g3bC05

[24]. نضال محمد وتد، الرهان على غانتس، موقع صحيفة العربي الجديد، 26/10/2019، https://bit.ly/3g7cVeF

[25]. ناجي صادق شراب، خيار الرهان علي بايدن، موقع صحيفة الخليج الإماراتية، 9/8/2020، https://bit.ly/34hzP0m

[26]. عريقات: الإمارات قطعت العلاقات مع السلطة الفلسطينية منذ 2014 وخطوة التطبيع فاجأتنا، موقع الجزيرة نت، 14/8/2020، https://bit.ly/31VPzU0

[27]. الرئيس خلال ترؤسه اجتماع القيادة: الشعب الفلسطيني يقف صفا واحدا ضد المؤامرة وضد كل من يريد أن يعتدي على قضيتنا، موقع وكالة الأنباء الفلسطينية وفا، 18/8/2020، https://bit.ly/3g9HVdY

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى