خلفيات المعارضة “الإسرائيلية” لصفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس
مركز رؤية
تظهر مواقف “إسرائيلية” لافتة تُبدي معارضتها المعلنة لمفاوضات صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس، في الوقت الذي تقترب فيه تلك المفاوضات من نقطة الحسم، مما يشكل تعارضاً لموقف الغالبية العظمى من الرأي العام “الإسرائيلي”، وهي مواقف جديرة بالدراسة والتوقف عندها، لأنها تمتلك “جرأة” منقطعة النظير في رفض استعادة الجنود من أسر المقاومة، تحت مزاعم شتى وذرائع مختلفة.
تزداد أهمية الحديث عن هذه المواقف المعارضة حين تصدر عن وزراء نافذين في الحكومة، ممن لديهم مصالح مع قطاعات واسعة من الشارع “الإسرائيلي”، ويفترض أن يكون لديهم حسابات حزبية، فضلًا عن المواقف “المبدئية” التي تحتّم عليهم بذل كل جهد لاستعادة “الأبناء” من أيدي “الأعداء”، وفق التعبير “الإسرائيلي”، فضلًا عن انتشار هذه المعارضة في أوساط كبار موجهي الرأي العام من الصحفيين وكتاب الأعمدة اليوميين، ممن لديهم جمهور عريض من القراء والمتابعين.
معارضة الصفقة ومبرراتها:
تصدر العديدة من المواقف “الإسرائيلية” الرسمية والإعلامية الرافضة لإبرام صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس، أهمها ما يصدر على لسان وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير”، الذي وجه انتقادًا حادًا للصفقة، بزعم أنها ستجلب كارثة على الدولة، معلنًا انزعاجه الشديد لأنهم يتحدثون عنها، ومشددًا على أنّ الدولة سترتكب مرة أخرى خطًأ كبيرًا جدًا اتبعته في “صفقة شاليط”، وجلبنا هذه المشكلة لأنفسنا.
أمّا وزير المالية “بيتسلئيل سموتريتش”، فطالب بحلّ الحكومة إن وافقت على التوصل لصفقة تبادل مع حماس، لأنها ستسمح للحركة بتعزيز قوتها مرارًا وتكرارًا، وقتل “الإسرائيليين” كما لم يحدث منذ المحرقة، على حدّ وصفه، وأنّ الموافقة على الصفقة استسلام مذلّ، وتمنح النصر “للنازيين” على حساب مئات الجنود الذين سقطوا في المعركة، وتشكّل خطراً وجودياً مباشراً على الدولة، وإذا قررت الحكومة رفع الراية البيضاء، فإنه لن يكون لها حق في الوجود، فيما اعتبرت وزيرة الاستيطان “أوريت ستروك” أنّ مقترح صفقة التبادل “فظيع”، وادعت أنّ الحكومة التي تضحي بكل شيء لاستعادة 22 أسيرًا إسرائيليًا لا تستحق البقاء، لأنها ترمي كل شيء في سلة المهملات.
لم يتردد بعض من كبار المحللين العسكريين “الإسرائيليين” في القول “أننا إذا استسلمنا لحماس الآن، فإن كل “إسرائيلي” سيكون رهينة محتملة، وإن إبرام الصفقة التي تشمل وقف الأعمال العدائية قبل تفكيك البنية التحتية العسكرية لحماس، وتحييد قيادتها، من شأنه أن يشكل خسارة كاملة لأمن “إسرائيل”، فلن نتمكن من السفر إلى الخارج، وبالكاد أخذ إجازة في الشمال، لأنّ المذبحة القادمة ستكون قريبة.
يسوِّق المعارضون لإبرام صفقة التبادل مع حماس عددًا من التبريرات، أهمها:
- حجم الثمن الباهظ الذي ستدفعه الدولة، مما قد يعرض أهدافها الاستراتيجية للخطر، بالرغم أنّ الصفقة ستغلق ملف معاناة عائلات الجنود الأسرى، وتوفر راحة نسبية لها.
- النتيجة الطبيعية من تكرار هذه الصفقات مع المنظمات المسلحة، هو تقوية مواقعها، وتنامي شعبيتها وجماهيريتها.
- أنّ توقيع “إسرائيل” على صفقة تبادل يعني أنّ أعداءها الذين يخطفون جنودها ومستوطنيها سيكونون في موقع الرابح الأكبر.
- هذه الصفقات من شأنها إظهار أنّ “إسرائيل” مستعدة للقبول بالتنازل عن كل شروطها، والخضوع لكل المطالب التي تعلنها حماس.
- هذه الصفقات تمسّ بقوة “إسرائيل” الردعية، وتشجع المنظمات على القيام بعمليات أخرى، وتخاطر بحياة جنودها الذين قد يقعوا في أسرها.
- يمكن ترجمة هذه الصفقات سياسياً بأنها خضوع لمطالب المقاومة التي قد ترفع الثمن المطلوب لتبادل الأسرى، وتمسّ بقوة الاحتلال الردعية، وتعمل على تشجيع المقاومة للقيام بعمليات اختطاف أخرى، وتخاطر بحياة جنودها الذين قد يقعوا في أسر أيّ منظمة أخرى.
- من المتوقع أن تحصل حركات المقاومة على نتائج استراتيجية بعيدة المدى بعد نجاحها بتحقيق صفقة تبادل، لأنها ستعمل على تقوية نفوذها، وقد تمهّد الطريق عملياً لبسط سيطرتها المستقبلية على الأراضي الفلسطينية بصورة كاملة.
- ستحقق المقاومة إنجازات سياسية هامة، ذات تأثيرات كبيرة على المدى الطويل، فعشرات الأسرى الذين سيطلق سراحهم خلال الصفقة سيعودون إلى مسارهم القديم الجديد، ويقيمون مناطق نفوذ، وسيكون لهم دور كبير على تأثير موازين القوى في الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي المعضلة الأكثر خطورة التي تواجه الاحتلال في الاستجابة لمطالب حماس، حيث أنه سيضطر لإطلاق سراح أسرى “على أيديهم دم”، وربما هذه أحد أهم الأسباب التي تدفع بالجهات الرافضة لمعارضة إبرام الصفقة.
يبدو للوهلة الأولى أنه من الطبيعي أن تضحّي “إسرائيل” بالكثير من أجل استعادة جنودها ومواطنيها، بزعم أنها قيمة إنسانية كبيرة، لكنها كما تقول محافل أمنية واستخبارية “إسرائيلية” قد تُترجَم سياسياً على أنها خضوع لمطالب المسلحين الذين قد يرفعوا الثمن المطلوب لتبادل الأسرى.
الدوافع “الإسرائيلية” لإبرام صفقة التبدل:
تتعارض التبريرات أعلاه مع السردية “الإسرائيلية” القائمة على جملة من العوامل المؤثرة في القرار “الإسرائيلي” بشأن صفقات التبادل، وهي:
- البعد الاستراتيجي: حرصت النخب الحاكمة في “إسرائيل” على التأكيد على أنها ستعمل كل ما يلزم من أجل عدم إبقاء جنودها في الأسر، ولا يعتبر هذا الإعلان دعائياً، بل يعكس إدراكها للأهمية الاستراتيجية لإعادتهم، لأنّ إدراك الجنود الذين ينطلقون في مهام تنفيذ العمليات العسكرية أنّ هناك دولة ستعمل على إعادتهم تحت أيّ ظرف، سيعزز الدافعية لديهم للانتساب للوحدات المقاتلة والنوعية، وأكثر الأسئلة التي يطرحونها لقادتهم: في حال وقعنا في الأسر، إلى أيّ حد يمكن أن تذهب الدولة في حرصها على إعادتنا؟
- الرأي العام: تعتبر اتجاهاته إحدى المعايير الهامة التي تُوضع بعين الاعتبار بالنسبة لصناع القرار في “إسرائيل”، ليس فقط بسبب طابع النظام السياسي الذي يعطي وزناً لرأي الجمهور، بل لأنّ هناك أبعاداً هامة له، لأنّ العائلات تعي أنّ الحكومة ستعمل على إعادة أبنائها إذا ما وقعوا في الأسر، علاوة على أنّ طمأنة الرأي العام يشكّل عنصراً أساسياً في سعي “إسرائيل” لمواصلة تكريس الانطباع بأنّ جيش الاحتلال هو “جيش الشعب”، وهنا يكمن دور وسائل الإعلام التي تلعب دوراً هاماً في تحديد اتجاهات صناع القرار من قضايا الأسر.
- السوابق التاريخية: التي لعبت دوراً هاماً في مواقف الاحتلال بشأن صفقات التبادل، ولعلّ السابقة الوحيدة التي تحظى دائماً بالذكر، كمسوّغ للتحمس لإبرام الصفقة الحالية مع حماس، هو التخوف من مصير الطيار “رون أراد” الأسير في الأراضي اللبنانية منذ منتصف الثمانينات، وقد كانت هناك إمكانية أكيدة لتحريره، لو استجاب الاحتلال لمطالب حركة “أمل”، وشكلت حالته مسوّغاً للدعوات لدفع أيّ ثمن لإطلاق سراح الأسرى مقابل تحرير جنود مختطفين، وجاءت إشارة كتائب القسام مؤخرا لإمكانية تكرار مصير حالة “أراد” مهمة ونوعية.
- موقف قادة الأجهزة الأمنية: الذي يعتبر حاسماً جداً، مع أنهم لا يعرضون موقفاً موحداً من قضايا الأسرى وصفقات التبادل، ويتفاوت تأثيرهم وفقا لطابع الفترة التي يتم فيها حسم الموقف من الصفقة، لكن المؤكد أنها تتأثر بموقف جهاز الأمن العام “الشاباك”، رغم أنّ من يقود المفاوضات حالياً هو جهاز الموساد، لأنّ من سيتم إطلاق سراحهم سيعودون للأراضي الفلسطينية، وهي منطقة نفوذه، وهو مسئول عن مواجهة حركات المقاومة داخلها، مما يجعل موقفه يكتسب أهمية قصوى، وهناك موقف تقليدي يدلل على أنه يميل بالعادة لرفض الصفقات، لأنها تسهم في بلورة صورة جديدة لدى الفلسطينيين عن “إسرائيل المستسلمة”.
- قوة أو ضعف الرؤساء: يبدو لافتًا أنّ أهم ثلاث صفقات تبادل: صفقة أحمد جبريل 1985 مع الجبهة الشعبية- القيادة العامة، وصفقة إلحنان تتنباوم في 2002 مع حزب الله، وقعتا في عهد رئيسي وزراء قويين، هما “مناحيم بيغن وأريئيل شارون”، أمّا رئيس الحكومة بنيامين “نتنياهو” فقد أبرم صفقة “غلعاد شاليط” مع حماس في 2011، ويفترض أن يوقع الصفقة الجديدة معها في 2024.
ثنائية الصفقة والقضاء على الآسريين!
يعتقد “الإسرائيليون” الرافضون لإبرام صفقة التبادل مع حماس أنّ منح الأولوية القصوى لعودة المختطفين لا يجب أن يخفي عن المشهد هدفاً لا يقل أهمية، وهو ضرورة تفكيك البنية التحتية العسكرية لحماس، ومنع قيادتها من الاستمرار في حكم القطاع، وإن لم يحصل ذلك، فسيُنظر للصفقة على أنها استسلام “إسرائيلي” لابتزاز حماس، كما أنّ حجم الصفقة المتوقعة، والعدد الكبير ممن سيتم إطلاق سراحهم من الجانبين، يمنح معارضيها فرصة للقول أنها لن تكون مجرد صفقة “سيئة” أخرى يُطلق فيها سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، لكنها تضحية كاملة بأمن “الإسرائيليين”، وسيكون لذلك آثار استراتيجية إذا نجحت حماس بالحصول على اتفاق إذا غادر الجيش القطاع، بينما تبقى هي وكبار قادتها فيه، فيما سيكون “الإسرائيليون” جميعاً مرشحين محتملين للاختطاف القادم، لأنّ الدولة ستكون مجبرة على التخلي عن مصالحها السياسية والأمنية الحيوية من أجل استعادتهم، وحينها لن يتمكن أحد منهم من السفر إلى الخارج دون خوف، خاصة الشبان المسافرين إلى دول العالم الثالث، وسيواجهون صعوبة في الشعور بالأمان.
إنّ الرغبة “الإسرائيلية” باستعادة الأسرى من حماس يقابلها في الوقت ذاته خشية بأنّ إبرام الصفقة دون القضاء الكامل على قدرات الحركة يعني نتيجة تتمثل في أنّ ما حدث يوم السابع من أكتوبر 2023 سيجد طريقه للتحقق من جديد بصورة أوسع وأخطر بعد سنوات قليلة، وفي الوقت نفسه ستفقد “إسرائيل” قدرتها على الردع تجاه أعدائها الآخرين في المنطقة، ولن يتمكن مستوطنوها من العيش بمستوى معقول من الأمن، ليس فقط في السنوات القادمة، ولكن أيضًا في المستقبل البعيد، وفق التقدير “الإسرائيلي”.
إنّ محاولة الربط “الإسرائيلي” بين الثنائي: استعادة الأسرى والاستمرار بضرب حماس، يعترضه عدم تحلّي الجمهور “الإسرائيلي” ووسائل الإعلام بالصبر وطول النفس، وتراجع دعم الولايات المتحدة للاحتلال دون تحفظ، بل وزيادة تدخلها في تفاصيل العدوان “الإسرائيلي”، كل ذلك يمنح حماس استخدام مزيد من أدوات الضغط الرئيسية التي تمارسها، وتتمثل بزيادة معاناة المختطفين، وزيادة الخوف على حياتهم بين الجمهور والساسة “الإسرائيليين”، مما يسفر عن ضغط يمارسه الرأي العام العالمي على “إسرائيل” لوقف القتال دون تحقيق أهدافها، ويزيد من إنهاك الجمهور “المكتئب والمنقسم”، ويدفع حماس إلى تعليق المزيد من آمالها على هذه الرافعات.
صحيح أنّ الاحتلال حدّد هدفين ثنائيين للحرب، يبدوان متعارضان، أولهما انهيار حكم حماس في غزة، ومنع قدرتها على تجديد نفسها لمنع اجتياحات مماثلة من كافة الجبهات، وثانيهما إرجاع المخطوفين، وطالما أنّ ترتيب الأهداف مهم جداً، فإنه لا يمكن تنفيذهما في وقت واحد، فمن ناحية لا يمكن إطلاق سراح المختطفين ما دام جيش حماس آسراً لهم، ومن ناحية أخرى من غير الممكن استعادتهم بصفقة تبادل دون وجود حماس وجيشها، ولذلك فإن مجرد عقد صفقة مع من يفترض تدميره، يعني منحه نصرًا يشجع كل “الأعداء” المتربصين ب”إسرائيل” لتبنّي ذات النموذج والهجوم.
الخلاصة:
إنّ التخوف “الإسرائيلي” مما قد تسفر عنه الصفقة الحالية هو الترويج لفرضية مفادها أنه يمكن إخضاع “إسرائيل” عن طريق ابتزازها، بوصفها مقدمة لحرب الاستنزاف، ومن المشكوك فيه أن تصمد فيها، وهنا تكمن المخاطر من وجهة نظر “إسرائيلية”، في أيّ صفقة تبادل أسرى مقبلة، حيث من شأنها تعريض الجنود والمستوطنين للخطر، وتزيد من الحافز لمزيد من عمليات الأسر.
يتوجه النقد “الإسرائيلي” الحادّ للحكومة التي يطالبونها بالتعامل بمسؤولية تجاه ملف الأسرى، ليس فقط بغرض استعادتهم، بل أيضاً باستعادة الأمن لجميع “الإسرائيليين” غير المختطفين ممن سيكونون عرضة لخطر وقوع المزيد من عمليات الأسر، وهذه الاعتبارات تدفع “الإسرائيليين” إلى الوصول إلى قناعة تبدو متطرفة، لكن مفادها أنهم أمام صفقة “غير مسؤولة”، والخلاصة أنّ التقدير “الإسرائيلي” الرافض لصفقة التبادل يذهب باتجاه أنها ستعمل على خسارة الاحتلال لما يعتبرها “أوراق المساومة” أمام حماس.