حين تأخرت تركيا وبادرت إيران
منذ الأيام الأولى للثورة السورية التي شعرت فيها إيران بإمكانية زوال النظام السوري أرسلت نخبا من مقاتلي الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا وتدخلت بشكل تدريجي عناصر حزب الله من لبنان، وتدحرج التعاطي الإعلامي الإيراني مع المسألة بين نفي التدخل في الشأن السوري في بدايات الثورة إلى محاولة استعارة الخطاب الديني والدفاع عن مقام السيدة زينب إلى أن كشفت تسارع الأحداث زيف كل الادعاءات السابقة وأصبحت إيران وحزب الله يشيعون قتلاهم في سوريا على الملأ، حتى أطال هذا التدخل من عمر النظام الذي لولاه لاستطاع الشعب السوري أن يمضي في طريق ثورته وتمكن من إسقاط النظام.
وفي اللحظة الحرجة التي عجزت حتى إيران وحزب الله عن إبقاء هذا النظام على قيد الحياة دخلت روسيا على خط الأزمة دخولا عنيفا، حتى غابت الإدانات العربية التي لا تمتلك الأنظمة العربية سواها تجاه العدوان الروسي على سوريا، بل وتعاطت بعض النخب العربية مع التدخل السوري باعتباره عمل بطولي يستحق بوتين بسببه تاج القيصر، وانفرد الشعب السوري وحيدا في مواجهة أعداء كثر، بدءا من النظام وحلفائه الإيرانيون وحزب الله والروس، ونهاية بكثير من الجماعات التي تم تسويقها جيدا حتى أصبحت الذريعة التي بسببها تنتهك حرمات الشعب السوري.
كان للثورة السورية ضوابط كثيرة، بالتأكيد لم يكن مرحبا بانطلاقتها دوليا، ولمَّا استحال إيقافها وعجزت آلة البطش عن وأدها، كان لا بد لها أن تسير في نفق الاقتتال لأطول فترة ممكنة، فكانت استراتيجية التعامل مع كل الأطراف المعنية بالثورة السورية، هي السماح بالقدر الممكن الذي ليس من شأنه الحسم في الميدان، لذلك كانت القيود صارمة تجاه تسليح الثوار الذي من شأنه إسقاط النظام منذ الشهور الأولى واختصار كثير من الدماء والأرواح.
مقابل ذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدرك تماما أنَّ التدخل الإيراني ومن بعده الروسي يسهم في بقاء النظام على قيد الحياة وهو ما يعني استمرار الصراع على الأرض السورية واستمرار استنزاف كل الأطراف والقوى التي تريدها أمريكا أن تستنزف.
لا يرتقي صمت الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل الإيراني في سوريا ولا عن التدخل الروسي إلى تقارب الأهداف وتقاطع المصالح، ويدرك قياصرة روسيا أن أزمة سوريا لن تعيدهم إلى ميدان التنافس بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وليس الواقع شبيها بالظرف السياسي الدولي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية حين شهد العالم ثنائية التنافس الدولي بين الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والكتلة الشرقية بزعامة الإتحاد السوفيتي، ثم تبع ذلك نشوء أحلاف دولية تمثل كلا من الكتلتين، حين وجد حلف الناتو ممثلا عن الكتلة الغربية ثم خلف وارسو عن الكتلة الشرقية.
روسيا اليوم باقتصادها المرهق والمحكوم عليه بالفشل وفق تقدير هيرمان غريف رئيس مصرف سبير وهو أكبر مصرف في روسيا هي بهذا الضعف الاقتصادي أضعف من منافسة أمريكا التي تنفق نصف ما ينفق العالم أجمع على صعيد التسلح وامتلاك ترسانة الأسلحة وانتشار القواعد العسكرية وامتلاك أدوات التأثير على الدول.
جل ما تقوم به إيران وروسيا يخدم في نهاية الأمر المصالح الأمريكية في المنطقة، استمرار الصراع وتفتيت القوى في المنطقة واستنزاف طاقات وقوى الشعب السوري وتعقيد سبل الحل في وجه تركيا وتعميق الصراع الطائفي والإحتقان المذهبي وتوجيه سهام القتل والإستهداف على أهل السنة تحديدا، الذين شكلوا نقطة التقاء لسهام الروس وإيران وحزب الله والتطرف.
فما زالت الأحداث لن تخرج عن منظور واشنطن الضابط للمنطقة، الفارق اليوم أن كل ذلك يحصل بغير أدوات الولايات المتحدة الامريكية وليست هي مضطرة لدفع الثمن الذي دفعته في فيتنام وأفغانستان والعراق وفي نهاية الأمر لن تخرج عن سياساتها بل بقيت في دائرة الاستهلاك البذيء للاستنكار والتنديد الذي يعلم تماما كل من يمارس الإجرام بحق الشعب السوري أنه لا يعني له شيء.
أسئلة كثيرة جدا ما زالت تثار حول امتناع أو تأخر حلفاء الثورة السورية وتحديدا تركيا والسعودية عن تقديم الأسلحة النوعية للشعب السوري الذي تساعده في اسقاط النظام، صحيح أن قيود غربية وتحديدا أمريكية مفروضة وتخضع الحدود التركية السورية لمراقبة شديدة جدا.
لكن ما الذي منع تركيا والسعودية البحث عن بدائل وطرق أخرى لتوصيل الأسلحة، حتى وصلت إلى اللحظة التي ستدفع ثمن تأخرها، بينما دخلت إيران من خلال مقاتليها في الحرس الثوري الإيراني وحزب الله إلى أجواء المعركة منذ أن تحولت المظاهرات السلمية إلى صراع مسلح كما أراد لها النظام أن تتحول.
لن تستطيع القيود التي فرضها الغرب على امتلاك الثوار أسلحة ثقيلة أن تمنع حصول ذلك، حيث تتوفر لتركيا كثير من المعطيات التي لو أرادت استغلالها لاستطاعت أن تضع بين يدي الشعب السوري وثواره من الأسلحة والعتاد التي بإمكانها حسم القتال في الميدان منذ زمن مبكر، منها طول الحدود التركية السورية والمعرفة الأمنية التركية الدقيقة بجغرافية المنطقة التي تمكن أنقرة من التغلب على أية قيود أو مراقبة للحدود.
احتدم النقاش في القيادة التركية بين وجهتي نظر بشأن كيفية التعاطي مع تطورات الأزمة السورية، عندما كان يرى جزءا من القيادة بضرورة قيام تركيا بالتدخل المباشر لإقامة المنطقة الآمنة التي بقيت قيد المطالبة حتى بعد ان اتمت الثورة السورية عامها الخامس، ووجهة نظر أخرى ما زالت سارية المفعول وهي مطالبة العالم بإقامتها تحت مظلة الناتو.
هذا التأخر والتردد زاد من حجم الأخطار التي تتعرض لها تركيا وزاد من قوة خصومها، وبعد مرور خمس سنوات على الثورة السورية أصبح تركيا أكثر الأطراف ضعفا وتأثيرا في مسرح الأحداث على الأرض السورية حتى من الطرف الروسي الذي بدأ بالتدخل الفعلي والميداني منذ عدة شهور فقط، مقابل ذلك أصبحت أيضا أكثر الأطراف المهددة بالخطر سواء على الأمن القومي التركي واستفحال حزب العمال الكردستاني أو بارتدادات الأزمة السورية على أكثر من صعيد وأهمها ضرب الإستقرار الداخلي والسعي نحو إشاعة الفوضى.
حالة القلق التي تعيشها تركيا نتاج التأخير تنسحب على المملكة العربية السعودية التي برز دورها السياسي في المشهد الإقليمي المعقد منذ نصف عقد من الزمن وذلك لغياب الحضور الحقيقي لدول عربية كبرى كمصر والعراق، إلا أن الحراك السعودي بمجمله يبقى محصورا داخل إطار معالجة التهديدات التي تواجه المملكة وأهمها التطرف المذهبي الشيعي من جانب وتطرف بعض الحركات السنية من جاني آخر.
وفي سياق المعالجة تلك تنسجم السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية مع أي حراك يخدم هذا المسار او هذا التوجه، وفي هذا السياق كان الاصطفاف السعودي على وجه الخصوص الى جانب الثورة السورية، ولما شعرت الرياض ان التهديد الإيراني لها المنبعث من الأرض السورية يقترب ويتعمق تصاعد الموقف السعودي ليرتقي الى المطالبة بالتدخل العسكري لإزالة النظام.
بينما لم يكن الموقف السعودي من الثورة السورية أو مجمل الثورات العربية منطلقا من موقف عروبي اسلامي شمولي، لهذا الموقف مقتضيات يجب على من يتزعم المشهد السياسي في الإقليم أن يفي بها، ولو كان الانطلاق في التعامل مع الثورة السورية من هذا الموقف لما بقي لهذا النظام روحا تنازع إلى يومنا هذا، ولأنه لم ينطلق من هذا الموقف بقي محصورا داخل أطر معينة لها علاقة بأمن ومصالح المملكة، وحتى هذا الأمن وتلك المصالح لم تعالج ضمن رؤية عربية واسلامية لذلك يبدو دائما القصور والخلل في مواجهتها كما في الحالة السورية.