حوارات القاهرة والقدرة على إحداث الاختراق

أيمن دراغمة

بعد أن نجحت لقاءات اسطنبول في الوصول لاتفاق بين الفصيلين الكبيرين على الساحة الفلسطينية، فتح وحماس، تمخض عنه الاتفاق على إجراء الانتخابات الفلسطينية العامة، كمحطة هامة على طريق استكمال خطوات الإصلاح الداخلي الفلسطيني، وعليه قام الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بإصدار مراسيم الانتخابات المتتالية، التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني. يرى بعض المحللين أن إصدار المراسيم، وتحديد موعدها قبل الاتفاق على خارطة طريق وطنية واضحة، تعالج جميع ملفات الخلاف، كان مستعجَلا. ويسود شعور عام من عدم الثقة لدى الشارع الفلسطيني؛ بسبب إخفاق محاولات المصالحة وإنهاء الانقسام في عدة محطات سابقة. وفي هذا السياق، تبرز عدة تساؤلات، وتُطرح مجموعة من الملفات بين يدي القيادات الفلسطينية، وعلى طاولة الحوار الوطني الفلسطيني، المنوي عقده في القاهرة في الأسبوع الأول من شباط/ فبراير.

أيهما أولا: المصالحة أم الانتخابات؟

تختلف ظروف إجراء هذه الانتخابات، داخليا وخارجيا، عن انتخابات عام 2005 وعام 2006، والتي كانت قد جاءت نتيجة لتوافق فلسطيني داخلي، اشتمل على رؤية وطنية استراتيجية، كان من ضمن بنودها الاتفاق على هدنة مع الاحتلال برعاية مصرية. وكانت انتفاضة الأقصى عام 2000، قد ساهمت في خلق حالة من الوفاق الوطني في مواجهة الاحتلال، ثم تجسدت الروح الوطنية المشتركة من خلال اجتماع جميع القوى الفلسطينية في القاهرة عام 2005، حيث تم التوقيع على اتفاق القاهرة، الذي كان من ضمن بنوده الاتفاق على إعادة بناء البيت الفلسطيني من جديد، من خلال الاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، وبناء مجلس وطني جديد. وبالفعل، أُجريت الانتخابات الرئاسية عام 2005، وفاز فيها السيد محمود عباس، وأُجريت الانتخابات التشريعية عام 2006، وفازت فيها حركة حماس بالأغلبية، وقد شهد العالم بنزاهة تلك الانتخابات، والتي على إثرها حدث الخلاف الفلسطيني الداخلي، الذي تطور إلى انقسام حاد عام 2007.

أما اليوم، ورغم الاتفاق بين فتح وحماس على إجراء الانتخابات، إلا أن ملفات الخلاف ما زالت حاضرة، وستكون ماثلة أمام الناخب الفلسطيني، وطبعا سيؤثر ذلك على ثقة المواطن، واستعداده للمشاركة في هذه الانتخابات. كما أن الحالة الإقليمية والدولية ليست مواتية كما كان عليه الحال عام 2006، حيث كان من بنود التهدئة مع الاحتلال، السماح بإجراء الانتخابات التشريعية، كما أن الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لم تعارضا مشاركة حركة حماس، طمعا في حدوث تغير في مواقفها، من خلال دخولها النظام السياسي الفلسطيني الرسمي. أما اليوم، فإن الظروف مختلفة ومغايرة على الصعيدين الدولي والإقليمي، إضافة إلى أنه لم يتم أخذ ضمانات من دولة كما في السابق، بعدم عرقلة إجراء الانتخابات.

ملفات خلافية

برز خلال فترة الانقسام عدد من القضايا والملفات التي لا تزال عالقة، ولم تنجح جميع جلسات الحوار الداخلي في معالجتها. ولا شك أن هذه الملفات هامة ومؤثرة، وتلقي بظلال سلبية على أجواء ما قبل الانتخابات، على الرغم من الاتفاق سابقا بشأن معظم هذه الملفات، والتوقيع على عدد من الاتفاقيات الداخلية لحلها، مما عمّق حالة الاستعصاء، وزاد عدد ملفات الخلاف، مع مرور الزمن، واستمرار حالة الاستقطاب. فهناك عدد من الملفات التي تحتاج حلولا سريعة؛ بسبب تأثيرها المباشر على الانتخابات، وذلك من أجل تغيير الروح السلبية السائدة، وبث روح الأمل والتفاؤل، وإرسال رسائل عملية على جدية التغيير، لضمان تغير المزاج العام نحو المشاركة في العملية الديمقراطية، بالانتخاب والترشح بشكل فعال. أول هذه الملفات يتمثل في ضرورة صدور مرسوم من الرئيس برفع العقوبات عن قطاع غزة بشكل تام، وحل مسألة الأسرى المقطوعة رواتبهم، وملف الموظفين الحكوميين في غزة والضفة، والتي تلقي بظلال سلبية عليهم وعلى عائلاتهم، وشرائح مجتمعية واسعة. ومن هذه الملفات، موضوع المحكمة الدستورية المختلف حولها، والتي اتخذت قرارا بحل المجلس التشريعي الثاني بخلاف القانون، ووقف رواتب بعض أعضائه دون غيرهم. إضافة إلى ملف هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، والتي تمثلت بإصدار الرئيس مؤخرا، قرارا بقانون ينسف روح قانون السلطة القضائية، وينتهك مبدأ الفصل بين السلطات بشكل فاضح. يُضاف إلى ذلك ملف تشكيل محكمة جرائم الانتخابات، وكذلك تشكيل لجنة الانتخابات المركزية نفسها.

إن الدعوة للانتخابات قبل حل هذه الملفات، سيفقدها المصداقية، ويشكك في نزاهتها. فبقاء سيف المحكمة الدستورية مسلطا في وجه المجلس التشريعي المنتخب، سيطرح سؤالا حول جدوى وجود مجلس تشريعي تستطيع المحكمة الدستورية حله بسهولة، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ الفصل بين السلطات، وينتقص من استقلالية المجلس التشريعي الجديد، ويمس نزاهة العملية الانتخابية بشكل مباشر، ويلقي بظلال من الشك وعدم الثقة، مما يدفع إلى العزوف عن المشاركة في العملية الديمقراطية، ويبعث برسالة مسبقة للمجلس المنتخب، بأن هناك سقفا لصلاحياته واستقلاله.

هل ستجري الانتخابات، وفي مواعيدها؟

تم الاتفاق بين حركتي فتح وحماس، أن ترعى الاتفاقيات الجديدة أربع دول لها وزنها الدولي والإقليمي، هي روسيا وتركيا وقطر ومصر، وهذا يشكل دعما وضمانة للالتزام من قبل الأطراف الفلسطينية. لكن هذه الدول جميعها، وبالرغم من مكانتها، لا تستطيع أن تضمن التزام دولة الاحتلال بعدم منع إجراء الانتخابات، أو إعاقتها على الأقل، خاصة وأنها ستتذرع بأعذار يمكن تسويقها لدى الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن، والتي كذلك لم تغير من موقفها من حركة حماس، ولا زالت تصنفها في دائرة الإرهاب. وعليه فإن اللاعب الرئيس في هذا المضمار هو دولة الاحتلال، والتي ستبحث عن مصالحها أولا وأخيرا، وقد هددت مخابرات الاحتلال باعتقال كل من يتم تداول اسمه في هذا السياق، من أبناء حركة حماس أو مؤيديها. لهذا كله، فإن إجراء الانتخابات ليس مضمونا بشكل نهائي، ومواعيدها المعلنة مرتبطة ببعض الحسابات.

هل ستحقق الانتخابات أهدافها؟

تلخص القيادات الفلسطينية الهدف من الانتخابات في أمرين، هما إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة. ولا شك أن لكل طرف من طرفي الحوار، مصالح ذاتية تتقاطع والمصلحة العامة أحيانا، وتختلف معها أحيانا أخرى.

تطمح حركة فتح، وبقيادة الرئيس محمود عباس، إلى تجديد شرعية مؤسسات السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير أمام العالم، وخاصة المؤسسات الدولية والأوروبيين، وتريد أن تبعث برسالة مباشرة للرئيس الأمريكي بايدن، من أجل ترميم العلاقة مع الإدارة الأمريكية، طمعا في العودة للمفاوضات مع الاحتلال، خاصة في ظل الحديث عن إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإقرار الرئيس الأمريكي بعودة المساعدات المالية للسلطة. ولا شك أن هذا المسار هو المتوقع بعد إجراء الانتخابات، بل هو أهم سبب من وجهة نظر السلطة. كما أن حركة فتح معنية بتحقيق نتائج متقدمة، تضمن لها تغيير الصورة التي رسمتها انتخابات عام 2006. ويبدو أن مستقبل الانتخابات مرهون بجهتين، هما موقف الاحتلال والولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وقرار حركة فتح المبني على تأكدها من تحقيق أهدافها، من خلال الخارطة الانتخابية المرسومة بدقة، والمحسوبة جيدا. وفي حالة حدوث أي تطورات، أو أي تغير في المعطيات بشكل يؤثر في النتائج المتوقعة، فإن ذلك ينذر بالتراجع عن المواعيد المعلنة.

أما حركة حماس، فإنها تتطلع إلى أن تصبح عضوا فاعلا ورسميا في منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال الانتخابات الديمقراطية، وذلك من أجل الحصول على مزيد من الاعتراف الرسمي، الوطني والعربي والدولي. والاستفادة من ذلك في التخفيف من تبعات الحكم في قطاع غزة، فهناك مسائل ضاغطة تتعلق بحياة السكان، وتمس النواحي الاقتصادية والمعيشية في القطاع، وتثقل كاهل حركة حماس. يضاف إلى ذلك، أن أوضاع حركة حماس في الضفة الغربية بحاجة لفرصة لترميم نفسها والعودة لنشاطاتها المجتمعية والسياسية والنقابية.

العربة أمام الحصان

ينظر الفلسطينيون إلى حوارات القاهرة المرتقبة، بنظرة من التوجس والترقب، مع قليل من الأمل في التغيير. ولكن هناك اعتقاد سائد بأن الوصول للمصالحة، إذا توفرت الإرادة، وبعيدا عن التدخلات الخارجية، يجب أن يسبق الانتخابات، وأن يتم الذهاب إلى العملية الديمقراطية، بعد تصفية الخلافات وتصفيرها، والاتفاق على جميع الملفات. وفي نظر البعض، يُعتبر هذا شرطاً أساسياً لضمان نجاح الانتخابات، ولضمان مشاركة شعبية واسعة فيها. وعلى العكس من ذلك، فإنه يُخشى من أن الذهاب للانتخابات قبل حل جميع مسائل الخلاف، والبدء بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه على الأرض، يُعتبر مغامرة غير محسوبة النتائج، وينذر بخلاف أعمق في حال جرت الانتخابات فوق ركام من الخلافات، ودون حل  ملفات برسم الانتظار منذ أمد. وعليه، فإن اجتماع القاهرة مطلوب منه الاتفاق على خارطة طريق واضحة، ومحددة بتواريخ زمنية تحقق المصالحة قبل الذهاب لصندوق الاقتراع، بل إن بعض الملفات البديهية، يجب أن تنتهي قبل انتهاء جلسات الحوار، مثل الحريات، والاعتقال السياسي، وحجب المواقع الإلكترونية، والرواتب المقطوعة دون منطق، وغيرها.

خاتمة

للارتقاء بسقف التوقعات، وحتى يكون لقاء القاهرة لقاء استراتيجيا، هناك بعض النقاط الجوهرية والملفات الهامة، التي يشكل بحثها إضافة نوعية في إعادة بناء البيت الفلسطيني على أصول قوية، وأسس متينة، وهي:

  • دراسة مبدأ الفصل بين رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية ورئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم الجمع بينهما، وذلك من أجل إخراج المنظمة من تحت عباءة السلطة، وحتى تستطيع النهوض بدورها السياسي بعيدا عن ضغط الجغرافية السياسية، ومن أجل التركيز على دورها التمثيلي لكل الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.
  • دراسة إعادة هيكلة نظام السلطة الفلسطينية، بطريقة تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الأوضاع بين قطاع غزة والضفة الغربية. فبدون مواربة ولا مجاملات، مطلوب منا أن نعترف بأن الواقع الحالي يستوجب إبداعاتٍ وحلولا خلاقة، بعد أن فشلنا في إصلاح وضعنا الاستثنائي بحلول غير استثنائية.
  • الاتفاق على الشراكة الإجبارية في جميع مؤسسات السلطة والمنظمة، من خلال معادلة تلزم الجميع بالشراكة بناءً على نتائج الانتخابات، وتمنع الهيمنة والتفرد بالمؤسسات وقراراتها، فنحن في مرحلة تحرر وطني، ولم نصل لمحطة الدولة المستقلة، وهذا يتطلب الشراكة والتعاون وتكامل الأدوار.
  • الاتفاق على أن يحكم القانون حياتنا، وفي جميع شؤوننا، وعليه فلا بد من أن يتم إصلاح النظام القضائي، ورفع يد الرئيس والسلطة التنفيذية عن القضاء، وعن الهيمنة والاستحواذ عليها.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى