حرب الإشاعات انتخابات البلدية في فلسطين نموذجًا
للإشاعة خاصية الانتشار، يتناقلها عامة الناس دون نظر في صحتها، وفي المعجم الوجيز تُعرَّف بأنها: "الخبر ينتشر غير متثبَّت فيه، ولا تثبت فيه"(1).
ويعرِّف ابن منظور شيوع الخبر في لسان العرب بقوله: "شاع الخبر في الناس يَشِيع شَيْعًا وشَيَعانًا ومَشَاعًا وشَيْعُوعَة، فهو شائع: انتشر، وافترق، وذاع، وظهر. وأشاعه هو وأشاع ذكر الشيء: أطاره وأظهره، وقولهم: هذا خبر شائع، وقد شاع في الناس، معناه قد اتصل بكل أحد، فاستوى علم الناس به، ولم يكن علمه عند بعضهم دون بعض" (2).
ولم يُحدَّد شكل الانتشار، ولكنه في العادة يستخدم الوسائل المتداولة سواء الوسائل الأولية كالتناقل الشفوي، أو الكتابة والتصوير من خلال وسائل الإعلام المتعددة قديمها وحديثها، كالفضائيات أو مواقع التواصل الاجتماعي.
وتظهر الإشاعة غالبًا في أوقات الأزمات والظروف التي تشهد أجواء تنافسية، أو في ظروف الانقسامات بين جماعات المجتمع، حيث تعمد الأطراف المتنافسة، أو أحدها، إلى صناعة الإشاعة للنيل من الخصم أو المنافِس، كما يجري في الانتخابات سواء كانت نقابية مهنية، أو كانت انتخابات جامعية أو بلدية أو تشريعية أو تشكيل حكومة …إلخ.
وتلعب طبيعة المجتمع الذي تسوده الإشاعة دورًا مهمًّا في التفاعل معها والتأثر بها أو رفضها ومواجهتها، فتزدهر في المجتمعات التي تجعل من الثرثرة عادة يومية في المهن المختلفة أو في حياة عامة الناس في البيوت والشوارع والمحال، والذين يشغلون فراغهم وأوقات عملهم بتناقلها، فتجدهم يتعاملون مع ما يردهم بثقة مطلقة دون تثبت، أو يحللونها بسقف معرفتهم الخاص، وفي مجتمع كالمجتمع الفلسطيني تتنوع شرائحه بين كبار السن والعاطلين عن العمل والنساء فإن عادة الثرثرة وصدى أي إشاعة فيه؛ يكون مرتفعًا.
تلقى الشائعات المرتبطة بالإثارة، من قبيل الفساد والجنس والأخلاق، انتشارًا أوسع من غيرها، خاصة إن استهدفت النيل من رموز المجتمع أو شخوص معروفين في محيطهم. تُنافسها الشائعات المرتبطة بمصالح الناس كأزمات متعلقة بالرواتب أو غلاء المعيشة وما من شأنه المسّ باستقرارهم كما يحصل في العواصف الثلجية والزلازل؛ إلا أن عالما النفس ألبورت وبوستمان وضعا معادلة تدلل على إمكانية انتشار الشائعة:
انتشار الشائعة = الأهمية * الغموض
وهذا يعني كلما ازداد الغموض أو ارتفعت أهمية الشخصية أو الحدث؛ انتشرت الشائعة بشكل أكبر، مما يستهدف اغتيال الشخصيات أو استهداف الثقة بهم وبما يمثلونه سواء كان فكرة أو حزبًا أو حركة، ويزداد وضع الشائعة سوءًا إذا كانت القنوات الاتصالية مع أصحاب القرار مقفلة أو مقطوعة؛ كتلك التي استهدفت في فترة ما محمد الضيف، وكتلك التي سبقت ظهور أردوغان ليلة محاولة الانقلاب في تركيا، لكنها تصبح هشة ولا قيمة لها ما دامت إمكانية التواصل مرتفعة وواردة.
مثال آخر: الترشح للانتخابات والخيارات التي تُطرح في كل مجتمع، فكلما اجتمع الرمز مع غموض الموقف؛ ارتفعت أسهم الإشاعة، وأحيانًا تتسبب بصراعات من نوع مختلف، ففي حين يمكن لحركة فتح أن تترشح علانية وتظهر صراعاتها للسطح؛ يختلف الأمر لدى حركة حماس التي تصبح الإشاعة ملازمة لها ولمواقف أفرادها، وهو غموض تفرضه الحالة التي تعيشها الضفة الغربية من جهة، وما فرضته الحركة على نفسها من جهة أخرى كنتائج لحالة مقاطعة سابقة.
وكمثال ثانٍ في إطار زيادة غموض موقف حركة حماس من المشاركة؛ أشيع أنها تريد المشاركة لتخسر في الانتخابات، وأنها غير قادرة على إدارة البلديات، أو أن مشاركتها تأتي في سياق الدفع بإلغائها وتأجيلها، وكلها إشاعات تستهدف التشكيك وزيادة الإرباك في المشهد الذي ما زال يبدو متفاجئًا من قرار المشاركة.
كما تأخذ الشائعات التي تظهر في الأزمات التنافسية شكليْن رئيسين: الشائعة الاندفاعية التي تنتشر بسرعة كبيرة وتستند على مشاعر عنيفة، أو شائعة الخوف التي تنتشر في أجواء التهديد لدفع الخائفين للتسليم، وهي التي تنقسم بينها الشائعات التي ترافق الانتخابات المحلية في فلسطين المحتلة.
فيما تتعدد أشكالها في ظروف أخرى؛ فهناك شائعات تأخذ وقتًا طويلًا في الانتشار والعمل ببطء، وأخرى غاطسة تظهر وتختفي وتعود للظهور مع تكرر الحدث كما يحصل في انتخابات الجامعات أو في الانتخابات التي تُنافِس عليها جماعات إسلامية إذ تُستخدم شائعات قديمة تستهدف الجمهور الجديد غير المؤطر في المجتمع، من قبيل: يمكن معرفة من انتخبت، أو سيتم إجبار النساء على الحجاب، أو سيتم اعتقال من يشارك في الانتخابات …إلخ.
ويمكن القول إن مواقع التواصل الاجتماعي تسهم بدور رئيس في إيصال الشائعة لجمهور واسع، وذلك لأن مواقع التواصل الاجتماعي تمثل مجتمعًا يتركز فيه الجمهور، وكلما تركز الجمهور كان الانتشار أسرع.
وبالنظر إلى الشائعات التي تُضَخ الآن من بعض وسائل الإعلام الاجتماعي تجاه حركة حماس إثر إعلانها المشاركة في انتخابات البلديات 2016 بدعم قوائم مهنية وكفاءات؛ يمكن اعتبارها من النوع الذي يستهدف اغتيال رموز الحركة إعلاميًّا واجتماعيًّا، ولخلق حالة من البلبلة والتشتيت للحركة بملاحقة فقاعات في كثير منها لا تلقى صدى ولكن استهداف الجمهور المركّز يجعل من الصعب الحد من تأثير الشائعة، وأيضًا للعب على وتر الثقة الذي يكشف عن أزمة تنبئ عنها حالة التجاذب الكبيرة عبر الوسائل المختلفة.
ويمكن تتبع الشائعات التي أُطلقت منذ إعلان حماس رسميًّا مشاركتها في الانتخابات المحلية في 15/07/2016، فقد استهدفت على سبيل المثال: خالد مشعل(3) ، بيسان فواز بدران(4) ، يونس الأسطل(5) ، يحيى الأسطل(6) ، رجاء الحلبي(7) ، وهي شائعات تجعل من ساحة الفيسبوك بؤرة النشر لاستهداف جمهور مركّز يجذبه الفيديو أو الخبر المصاغ بأسلوب يدغدغ وطنية المواطن الفلسطيني، ويُنشَر على الموقع الخاص بمثير الإشاعة لأغراض البحث على موقع البحث (جوجل).
أما الشق الآخر من الإشاعة هو الميدان، والذي يشمل تناقل دعوى شفهية أو توزيع بيان يُنسب لجهة الخصم، ويستهدف مساحة من الجمهور قد لا تغطيها مواقع التواصل الاجتماعي بحكم طبيعة عملهم أو مستوى التعليم أو الاهتمامات الحياتية اليومية، وتستهدف قضايا تصيب عاطفة كامنة في المجتمع، كقضية التكفير وهي من القضايا القديمة الحديثة، ويمكن ملاحظة ذلك من بيانين نُسبا لحركة حماس خلال جولة الاستعداد للترشيح للانتخابات المحلية الجارية، وذلك في مدينتي يطا(8) جنوب الضفة الغربية، وقلقيلية(9) شمال الضفة الغربية، واللذيْن كذبتهما حركة حماس ووصفتهما بالمدسوسيْن.
وبالنظر إلى نوع الإشاعة سواء في البيانات أو التي استهدفت الأشخاص نلحظ أن 4 شائعات من 7 تناولت مسألة التكفير، وواحدة مسألة الاعتراف بـ "إسرائيل"، واثنتين مسائل حياتية.
أما صلاحية انتهاء الإشاعة(10) فتنتهي عندما يشعر الناس أنها لم تعد تمثّل مشكلتهم الاجتماعية، أو عندما تقع مشكلة اجتماعية أعقد، ويتم الحدّ منها عند مواجهتها وتفنيدها أو بالرد عليها من أصحاب العلاقة في وقت قصير زمنيًّا مقارنة بموعد انطلاقها.
إلا أن الملاحظ في عملية تدوير الشائعة أن الأصل فيها أن تضيق بين المتجانسين، بحيث لا يصبح أنصار الطرف المستهدف جزءًا من ماكنة تدوير الشائعة، وأن تشيع في الوسط المشبع بالكره تجاهه، أي أنصار مُطلق الشائعة ومن تأتي مُرضية لوجدانهم، واتجاههم الفكري.
لكن ما يحصل على متن مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة فترة الاستعداد للانتخابات المحلية حاليًّا، هو العكس، فأنصار حركة حماس مثلًا ينخرطون في ماكنة نشر الإشاعة من حيث يريدون التصدي لها أو تصديقها، وهذا يعكس حالة من أزمة الثقة؛ فليس مطلوبًا من نصير أي طرف أن يكون أعمى عند انطلاق أي شائعة، ولكن يُطلب منه أن يكون واعيًا؛ يبحث ويدقق ويتحقق من مصدر معلومته، وليس بغرض التشكيك بمن يناصر، ولكن بغرض التثبت وتعميق حالة الوعي المجتمعي وتقوية نسيجه.
لن تنتهي الشائعات المرتبطة بكل أحداث المجتمع، ولن تتوقف عن كونها جزءًا من أي معركة سواء كانت مجتمعية أو سياسية أو عسكرية، ولكنها في كل مرة تكشف عن مكنونات كثيرة؛ فمن جهةِ مطلق الشائعة؛ تكشف عن سياسته، وثقافته، ومدى استهلاكه لنوع الشائعات التي تتكرر في كل زمان كتلك المرتبطة بالحجاب والمرأة، وتكشف عن أهدافه، والتي تنتهي في حال خلق حالة وعي، أو بتطويق ماكينة العاملين على تدوير الشائعة حتى على سبيل الرد عليها؛ فإن مجرد تكرارها ولو بهدف نقدها يتسبب في زيادة مساحة الانتشار.
أما من جهة الطرف المستهدَف فتكشف الشائعة برد الفعل تجاهها أو طريقة مواجهاتها عن الثقة بما يؤمن به أنصار هذا الطرف، ومرونته في الوصول للخبر اليقين، وقدرته على التركيز على الهدف، وإمكانية إدارته للأزمة بذكاء.
أما آليات التعامل مع الإشاعة؛ فلا بد من:
أولًا: ترسيخ ثقافة مفادها بأن أي إشاعة للرد عليها ونفيها أو تكذيبها يجب أن يُنشر العكس دون الإشارة للإشاعة نهائيًّا.
ثانيًا: تقييم الإشاعة قبل التصدي للرد عليها، فمنها ما يُترك ومنها ما يستلزم مباشرة التواصل مع المستهدف للرد بنفسه، وهذا يعني فتح إبقاء قنوات التواصل مع كل الهرم والمستويات مفتوحة.
ثالثًا: تتبع مصدر الإشاعة وضبطه أو كشفه وعدم التعامل مع أي مصدر بثقة عمياء وخاصة المتخصصة في مجال صناعة الإشاعة.
رابعًا: العمل على توعية المجتمع لتحري الصدق والتزامه.
خامسًا: زيادة الوعي بأهمية التثبت من كل شيء وتعميق الفهم تجاه التعامل مع الأزمات.
سادسًا: الانخراط في ماكينة الرد الأمثل وليس في ماكينة تدوير الإشاعة؛ بمعنى "وصلت إليك فلتنته عندك".
وتبقى الإشاعة فقاعة زمانها ليس بالضرورة أن تترك أثرًا، ولكنها تعتمد على مدى التفاعل معها وإضفاء الشرعية أو الأولوية أو الأهمية لها.
- مجمع اللغة العربية، المعجم الوجيز، صفحة 357، طبعة 1989.
- ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثامن، صفحة 191، باب العين، طبعة صادر.
- تصريح ملفق لمشعل حول الاعتراف بـ "إسرائيل"، نُشر في 26/07/2016م.
- ابنة شهيد قسامي بطولكرم، نُشر تسجيل لها يمسّ بحماس وتقصيرها معها، الذي نفته والدة الشهيد، 25/07/2016.
- النائب في التشريعي ورئيس لجنة الفتوى في رابطة علماء فلسطين بغزة سابقًا، ونُسبت إليه فتوى تكفيرية غير صحيحة، 31/07/2016.
- رئيس بلدية خانيونس، نُشرت إشاعة عن استقباله المراجعين برسوم، وتم الاتصال به وتكذيبها، 02/08/2016.
- مسؤولة في العمل النسائي لحماس بغزة، باقتطاع تصريح لها من سياقه، 04/08/2016.
- بيان نُشر ووزع في 02/08/2016، نفته حركة حماس ببيان رسمي.
- بيان نُشر ووزع في 08/08/2016، نفته حركة حماس ببيان رسمي.
- معن خليل العمر، الحركات الاجتماعية، صفحة 205، بتصرف.