حاجز الكونتينر: كيف ساهم في خلق معزل جنوب الضفة الغربية؟

أنصار اطميزه
منذ العام 2002، إلى الشرق من مدينة بيت لحم وغرب بلدة السواحرة، يجثم حاجز عسكريّ إسرائيليّ، يُسمّى فلسطينيًا “الكونتينر”، على قمة جبل من جبال وادي النار تابعة لأراضي بلدة السواحرة الشرقية. ومن بين الحواجز الإسرائيلية التي تفتّت الضفة الغربية وتحوّلها إلى معازل وسجون مفتوحة، التي يناهز عددها 900 حاجز وبوابة وعائق؛ ربما يكون حاجز الكونتينر الأشهر والأسوأ من بينها جميعًا، ولا ينافسه على هذه المرتبة إلا عدد محدود من الحواجز، مثل حاجز حوارة في شمال الضفة الغربية. إذ يقسم هذا الحاجز جنوب الضفة الغربية بكامله -محافظتي بيت لحم والخليل- عن بقية الضفة الغربية، فلا يمكن لأحد أن يهبط إلى الجنوب أو أن يصعد منه إلا بالمرور على هذا الحاجز.
تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على ظاهرة الحواجز في الضفة الغربية، التي ازدادت خطورتها من الناحية الجيوسياسية في واقع الضفة الغربية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، من خلال دراسة حالة حاجز الكونتينر، ولذلك لمحورية هذا الحاجز في واقع الضفة الغربية برمتها. إضافة إلى حجم المعاناة والعذاب اللذين يفرضهما هذا الحاجز على كل أهالي الضفة الغربية، لا سيما جنوبها.
كيف تحوّل الطريق الوعر الضيّق إلى عنق الزجاجة
في التسعينيات من القرن الماضي لم يكن الجبل الذي يجثم عليه الحاجز سوى طريق وعرة وضيقة وفقًا لما يرويه رئيس بلدية السواحرة الشرقية عيسى جعفر الذي عاصر تلك الحقبة، قالها، وكأنه يسترجع ذكريات عصر ذهبي غابر: “لم يكن هذا الطريق الوعر يعنينا فقد كنا نعبر إلى كل المحافظات عبر باب العامود في مدينة القدس ومنها نصل أينما نريد”. فلم يكن يخطر ببال أي فلسطيني، حينها، أن يكون هذا الطريق الوعر الذي لا تمر به حتى الدوابّ، نافذة الجنوب على الوسط والشمال ومنها إلى العالم، وهو الطريق الممتد بين جبال ومنحدرات منطقة أشبه ما تكون بصحراء مقطوعة، تعرف باسم “واد النار”، وتعد من أصعب الطرق وأكثرها خطورة في الضفة الغربية سواء قبل الحاجز أو بعده، وهذه الطبيعة القاسية للمكان جعلت تسميته بواد النار اسمًا على مسمى، سواء أكانت التسمية مصادفة أم مقصودة، كما يقول السياسي والوزير السابق في السلطة الفلسطينية نبيل عمرو.
مع بدء انتفاضة الأقصى عام 2000 بدأ الاحتلال بتطويق المحافظات والمدن الفلسطينية وإغلاق طريق القدس إغلاقًا تامًّا أمام الفلسطينيين، لذلك أخذ الناس يشقون طريقهم عبر ذلك الجبل الوعر بالسيارات بصعوبة بالغة جدًّا. مع تحول هذا الطريق الوعر إلى الممر الوحيد والأساسي للناس، فكّر أحد مواطني بلدة السواحرة في الاستثمار في هذه المنطقة، ففتح “كشك” في حاوية بضائع “كونتينر” كمقهى ومطعم صغير على الطريق لحاجة الناس إلى استراحة بسيطة في هذا الطريق الشاق. وبهذا الكونتينر سيعرف اسم الحاجز لدى الفلسطينيين، الذي لم يكن قد أقامه الاحتلال بعد في حينها.
تحوّل هذا الكشك إلى محطة استراحة وانتظار طالما ارتادها السائقون كفاصل قصير لطريق طويل أمامهم، يشترون منه الشاي والقهوة والمرطبات قبل إكمال طريقهم. يقول السائق يوسف الطوري، 50 عامًا، الذي يعمل منذ التسعينيات من القرن الماضي على خط الخليل- رام الله، “إن بدايات هذا الطريق بعد انتفاضة الأقصى كانت شديدة الصعوبة، وكان ذلك “الكونتينر” هو محطة التقاء، أو استراحة في ظل ندرة أي وسيلة تواصل ما بين الناس في حينها، إذ لم تكن الهواتف قد انتشرت بين الناس بعد. فكان كثيرون يتفقون على اللقاء في ساعة معينة أمام الكونتينر”.
في العام 2002 ومع اشتداد أحداث انتفاضة الأقصى، وشن الاحتلال عملية “السور الواقي” على الضفة الغربية، بدأ الاحتلال بفرض سيطرته على ذلك الطريق وتغيير معالم المكان. إذ أقام جيش الاحتلال نقطة تفتيش “طيارة”، في نقطة الالتقاء التي كان الكونتينر مقامًا عليها، كبداية، وطرد صاحب الكونتينر وكشكه الصغير، ولكن الحاجز سيظل يعرف باسم الكونتينر، ومع الوقت ترسّخ هذا الاسم ولا يعرف الناس اسمًا آخر للحاجز غيره، مع أنّ الأجيال الجديدة التي لم تعاصر تلك الحقبة لا تعرف سبب تسميته بشكل عام.
بعد فترة وجيزة حوّل جيش الاحتلال الحاجز الطيّار إلى نقطة ثابتة، ومنع السيارات من العبور منها، ولم يسمح للناس باجتياز الحاجز الجديد إلا مشاة بعد التفتيش وتدقيق الهويات. وفقًا للطوري، انقسم السائقون العموميون إلى قسمين: الأول قبل الحاجز ينقل الركاب من بيت لحم والخليل إلى أقرب نقطة له لينزلوا هناك ويجتازوا الحاجز مشاة، أما القسم الثاني فينقل الركاب الذين نجحوا في اجتياز فحص الهويات والتفتيش إلى ما بعد الحاجز باتجاه رام الله وما بعدها.
أما المرحلة البينية، أي اجتياز الحاجز نفسه، فهي مرحلة مكانية وزمانية منفصلة عمّا قبلها وما بعدها، إذ يصبح الناس خلالها خاضعين لجنود الاحتلال الذي يطبقون عليهم الإجراءات الأمنية التي تتمثل في التدقيق في الهويات وتفتيش الأمتعة والتنكيل بهم وإرجاع من هم ممنوعون من اجتياز الحاجز-دون معايير واضحة لذلك – أو حتى اعتقالهم لدواع أمنية.
استمرت آلية العبور من هذا الحاجز على هذه الحالة خلال الانتفاضة حتى العام 2003، وفقًا لشهود عاصروا هذه الحقبة، وهنا تجدر الإشارة أن الاحتلال يحظر اليوم على الفلسطينيين المشاة المرور عبر الحاجز إلا بأمر منهم، ومن الممكن لأي فلسطيني يحاول اجتياز الحاجز راجلًا أن يعرض حياته للخطر وقد يطلق عليه الجنود النار قبل وصوله إليهم.
بعد العام 2003 بدأ الاحتلال بتقديم “تسهيلات” على الحاجز وسمح بمرور الشاحنات والسيارات العمومية، شيئًا فشيئًا اتسعت “التسهيلات” ليسمح، منذ عام 2007، للسيارات الخاصة باجتياز الحاجز، باستثناء المستأجرة والسيارات ذات البطاقة الصفراء، وبعد سنوات سُمح لهذه الفئة من السيارات باجتياز الحاجز أيضًا.
بالتزامن مع تطور التقييد والتسهيلات فإن الاحتلال أيضًا طوّر تقنيًا وشكليًّا في بنية هذا الحاجز، فقد كانت بدايته بمكعبات إسمنتية ثم تطوّر شيئًا فشيئًا، لتنصب فيه مظلات من الصفيح وصولًا إلى المرحلة الحالية التي أصبح الحاجز خلالها مزوّدًا بتكنولوجيا مراقبة عالية وبوابات وإشارات مرور وكاميرات وأنظمة إغلاق أرضية وغيرها. حتى أنه بات أشبه بالحواجز التي تحيط بالقدس المحتلة، وهو الأقرب في تفاصيله إليها عن بقية الحواجز في الضفة الغربية، التي هي فعليًا معابر حدودية في تصميمها وإجراءاتها الأمنيّة.
كان آخر تحديث أضافه الاحتلال على الحاجز هو نصب بوابات حديدية على طرفي الحاجز يمكن إغلاقها في أي وقت لعزل الجنوب على بقية الضفة الغربية، دون أي يكون على الحاجز أي جندي، والحديث هنا عن بوابات بسيطة لو صدمتها سيارة لأسقطتها، ولكن لو تجرأ أحد السائقين على ذلك، فإنه سيصبح عرضة للاعتقال والملاحقة وربما القتل.

شعوب ما وراء الكونتينر
تشيع بين الناس بعض الجمل والعبارات، التي تكون على شكل فكاهة بالمجمل، تعبر عن الشعور بالبعد المكاني والزماني، الذي ينعكس بدوره على التفاعل والتواصل الإنساني بين الفلسطينيين في الضفة الغربية. إحدى أشهر تلك العبارات هي “شعوب ما وراء الكونتينر” في وصف أهالي محافظتي بيت لحم والخليل. تحمل هذه العبارة معاني ساخرة، ولكنها من نوع الكوميديا السوداء، فهي تعبر عن جزء من الواقع بما فيه من أبعاد عنصرية وطبقيّة أيضًا وإن كانت هامشية. وكأن المواطنين الذين يعيشون فيما وراء حاجز الكونتينر هم عالم آخر تـأثرت به حياتهم وارتبطت حتى عاداتهم وثقافتهم به، وأصبح صفة اكتسبها المواطنون كونهم يعيشون ما وراء هذا الحاجز.
أصبح حاجز الكونتينر يشكل فاصل الحيز الخاص لجنوب الضفة الغربية عن حيزها العام وما تبقى من الأرض الفلسطينية، التي يُعتقد أنها تحت سيطرة السلطة الفلسطينية سواء الأمنية أو الإدارية، وبقية العالم. فبمجرد إغلاقه تعزل محافظتا الخليل وبيت لحم بتعدادهما السكاني البالغ نحو أكثر من مليون و100 ألف نسمة حسب تقديرات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني لعام 2025.
حتى لو كانت المسافة قريبة اسميّا، فالزمن والمسافة لا يقاسان بالساعات ولا الكيلومترات، وإنما بإغلاقات الحواجز والأزمات المرورية الناتجة عنها وطبيعة الإجراءات على الحاجز من ناحية إذا ما كان هناك تفتيش للسيارات أم تدقيق في الهويات، وإذا ما كانت هذه العملية سريعة أم بطيئة، أو إذا ما كانت تشمل كل الاتجاهات على مساري الحاجز أم فقط مسارًا واحدًا، أو إن كانت تشمل كل السيارات أم سيارات محددة أم هي مسألة “حظ”، أم إذا كان جنود الاحتلال يبدلون الورديات فيغلقون الحاجز تمامًا حتى تنتهي الإجراءات، أم إذا حدثت عملية فدائية في منطقة ما فيقرر الاحتلال إغلاق كل مداخل تلك المنطقة، وعشرات الافتراضات والتساؤلات الأخرى التي لا بد للفلسطيني، الذي يفكر في اجتياز الحواجز، خاصة حاجز الكونتينر، أن يأخذها بعين الاعتبار قبل أن يتحرك من منزله.
جزء من ذاكرة الشباب والطفولة
إن تطور هذا الحاجز وإمعانه في تقييد الفلسطينيين مرة بعد مرة شكّل جزءًا من ذاكرة الطفولة والشباب، فلا يكاد أي طالب جامعي من الجنوب -على سبيل المثال لا الحصر- درس في جامعات وسط الضفة وشمالها لم يشكل الكونتينر جزءًا من ذاكرته وتجربته الشخصية. فخلال إجراء المقابلات ظهرت عشرات القصص التي تروي أصناف المعاناة التي يشكلها حاجز الكونتينر، سواء اجتيازه نفسه أم محاولة الالتفاف حوله أوقات الإغلاق التام في تلك المنحدرات الخطيرة.
فهناك تجارب خطرة عاشها الناس خلال تسلق تلك الجبال شديدة الانحدار ممزوجة بالخوف والتعجب من كيفية النجاح في صعود تلك المنحدرات واجتيازها وكأنها مغامرات من عالم الأفلام. تروي الطالبة في جامعة القدس –أبوديس سناء محمد التي اعتادت المرور عبر حاجز الكونتينر في طريقها إلى جامعتها؛ أنها في إحدى المرات التي أغلق فيها الاحتلال الحاجز بشكل تام اضطرت لصعود الجبل المقابل للحاجز وهو شديد الانحدار وعلى مرأى جنود الاحتلال، ما زاد الأمر خطورة. تضيف أنها لم تكن مهيأة لهذه المغامرة، على الأقل في يومها، لأنها كانت ترتدي حذاءً ذا كعب عالٍ في طريق لم تعرفها أبدا، ولولا مساعدة الشباب ذوي الخبرة بهذه الطرق لربما سقطت أو ضلت طريقها. تقول إنها في كل مرة تنظر إلى ذلك الجبل من بعيد تستغرب كيف أنها تمكنت من اجتيازه بكعبها العالي، ولكن مع كل الخطورة والصعوبة التي واجهتها فإنها ترى أنها كانت أسهل عليها من اجتياز الحاجز نفسه.
تجارب أخرى تحدث عنها أناس آخرون كيف استطاعوا المرور بين جبال وادي النار التي تحتوي الطريق المعبدة منه على 13 منحنًى صعبًا وخطرًا، ومنها إلى طريق آخر غير معبّد بين تلك الجبال وسيول المياه العادمة؛ ليتجاوزوا فيها حاجز الكونتينر المغلق أمامهم، لم يدركوا وقتها أنهم بدؤوا التعايش مع الأمر الواقع أكثر من كونهم اجتازوا حاجزًا مغلقًا.

محطة للتنكيل والمعاناة
تحول حاجز الكونتينر، خلال عمره الثقيل كثقل الحركة خلاله، إلى محطة للتنكيل بالفلسطينيين بشكل يومي وفقًا لشهادات المواطنين الذين تتحول ساعات انتظارهم الطويلة إلى معاناة ومواقف صعبة تشير إلى إمعان الاحتلال في تعمّد استخدام الحواجز كمحطات للتنكيل والإذلال. يروي السائق يسري الرجوب، 61 سنة، من سكان مدينة الخليل، أنه في إحدى مرات عبوره الحاجز رفقة فلسطينيين آخرين، أمره جندي إسرائيلي بإطفاء سيارته وإعطائه المفتاح، ثم وضع الجندي المفتاح فوق السيارة وتحداهم: “الزلمة فيكم يوخذ المفتاح”، وبطبيعة الحال، لم يجرؤ أحد على أن يأخذ المفتاح لأنّ أدنى حركة من أحدهم ستؤدي إلى إطلاق النار عليه فورًا وربما كل من معه. ولحسن حظهم، كما يقول، لم تزد مدة التوقيف التعسفي عن ساعة واحدة، قبل أن يأذن لهم الجندي بالمغادرة.
وبحسب الشهود الذين يعايشون المرور من الحاجز بشكل شبه يومي فإنه لا موعد معين لإغلاقه أو فتحه فقد يستمر الاحتلال بإغلاقه لساعات طويلة بشكل كلي أو جزئي، وفي بعض الأيام لا يتم تفتيش سيارة واحدة طوال اليوم. علاوة على كل المعاناة والعذاب وهدر الوقت الذي يواجهه الفلسطيني على الحاجز، فهذا الأمر يكون مضاعفًا بالنسبة لأولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة أو مشكلات صحية، قد يؤدي انتظارهم الطويل على الحاجز إلى الموت. ففي 29 تشرين الثاني/نوفمبر2013، كانت الطفلة نور عطية ذات 10 سنوات تعاني من نقص في إنزيمات الدم بسبب إصابتها بحالة شديدة من الالتهاب الرئوي وارتفاع درجة حرارتها ما استدعى تحويلها إلى المستشفى بشكل فوري، ولكن إجراءات الاحتلال على حاجز الكونتينر والاختناق المروري الناتج عنها أعاق وصولها في الوقت المناسب لتفارق روحها الحياة في أزمة الكونتينر.
علاوة على المعاناة والتنكيل، جعل الاحتلال من الحاجز “مصيدة” لاعتقال من يعدّهم مطلوبين، حيث شهد الحاجز اعتقال عشرات الفلسطينيين أو توقيفهم عليه. والأمر الأخطر من مسألة الاعتقال والتوقيف هو تحول الحاجز إلى محطة قتل عالية الاحتمال. وهذه الاحتمالية العالية ناتجة عن إقدام جنود الاحتلال على إعدام عدد من الفلسطينيين على حاجز الكونتينر بذرائع واهية، من قبيل أن المجني عليه كان يشكل تهديدًا على حياة جنود الاحتلال، علمًا أن التصميم الهندسي للحاجز يجعل إمكانيّة تنفيذ أي عملية عليه، خاصة علميات الدهس، شبه مستحيلة. فلا يمكن أن تجتازه السيارات بسرعة خطيرة ولا يمكن للسيارات أن تصطدم بالجنود لأنهم متحصنون في دشم تبعدهم عن التماس المباشر مع الفلسطينيين، كما أنه يتموضع على بداية منحدر شديد الانحراف، ولهذه الأسباب وغيرها لم يشهد الحاجز في تاريخه إلا عددًا من العمليات الفدائية، أبرزها عملية الدهس التي نفذها الشهيد محمد هلسة في شهر أبريل/نيسان 2020، وهذه العملية تحديدًا تثبت أن إمكانية تنفيذ عمليات على هذا الحاجز شبه مستحيلة، فالمشاهد المنشورة لتنفيذ العملية تشير إلى أن جنود الاحتلال كانوا في مأمن من الإصابة وأن المنفذ بالكاد أصاب جنديًا منفردًا.

رغم ذلك، فقد أعدم جنود الاحتلال عددًا من الفلسطينيين على الحاجز، بزعم محاولة تنفيذ عملية، ففي 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، استشهد الشاب أنس الأطرش بينما كان عائدًا من يوم عمل شاق في أريحا وبرفقته أخوه إسماعيل، ولكن عند مرورهما على حاجز الكونتينر أمره جنود الاحتلال بالترجل من السيارة وأطلقوا عليه النار مباشرة، ثم زعموا أنه حاول تنفيذ عملية، بينما انهالوا على أخيه بالضرب المبرح.
في 23 حزيران/يونيو 2020 بينما كان الشاب أحمد عريقات متوجهًا لتزيين سيارته في يوم زفاف شقيقته، وفي أثناء مروره على حاجز الكونتينر أطلق جنود الاحتلال النار عليه ليرتقي شهيدًا بعد أن انحرفت سيارته قليلًا عن مسارها، وقد زعم الاحتلال أنه حاول تنفيذ عملية دهس، ولكن هذا الزعم لا يتناسب مع حقيقة أنّه كان منشغلًا يومها بزفاف شقيقته، وأنه كان يستعد هو نفسه لزفافه بعد أسابيع قليلة.
تصاعد المعاناة بعد 7 أكتوبر
تصاعدت انتهاكات الاحتلال واعتداءاته على الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر 2023، خاصة على الحواجز والبوابات التي يتزايد عددها يوميًا. وقد كان لحاجز الكونتينر نصيب كبير من هذه الانتهاكات المتصاعدة. فقد أغلق الاحتلال الحاجز عشرات المرات بشكل كلي أمام المواطنين ولساعات طويلة، ما اضطر بعضهم إلى إلغاء مواعيده، وآخرون قللوا تحركهم وتنقلهم من جنوب الضفة إلى شمالها، وبالمجمل اضطر الناس إلى سلك طرق ترابية شديدة الوعورة، تستهلك منهم ساعات طويلة ممزوجة بالتعب والخوف، حتى يتمكنوا من تجاوز الحاجز المغلق.
على سبيل المثال -لا الحصر- يؤكد السائق على خط رام الله – الخليل، يسري الرجوب، أن عدد زبائنه قل كثيرًا منذ الحرب، فبعضهم آثر عدم الذهاب إلا للضرورة القصوى، وبعضهم الآخر استقر في العاصمة المؤقتة (رام الله) تفاديًا لإغلاقات الطرق والحواجز والطوابير الطويلة، ما انعكس اقتصاديًا بشكل سلبي على قطاع المواصلات، فمن جهة قل عدد الركاب ومن جهة أخرى زادت تكاليف السيارة والوقود المستهلك في الوقوف المؤقت الطويل على الحواجز التي أبرزها الكونتينر.
غير أن الأمر لم يتوقف على إغلاق الحاجز والمعاناة المترتبة عليه، وإنما زادت حدة الانتهاكات التي يرتكبها جنود الاحتلال بحق المواطنين، وليس من المبالغة القول إنه لا يوجد أحد اضطر لاجتياز حاجز الكونتينر منذ السابع من أكتوبر إلا وتعرض لنوع من الانتهاكات، أو الاعتداء أو التنكيل أو الانتظار المقلق. ومع أنه لا متسع لسرد مجمل الانتهاكات التي حدثت هناك، غير أنه من المناسب التطرق لبعض النماذج البارزة منها.
من النماذج ما تعرضت له المواطنة الأمريكية الفلسطينية، هالة سليمان، التي تقطن مدينة بيت لحم واعتادت المرور عبر هذا الحاجز دوريًا. تروي هالة لمركز رؤية إحدى قصصها على هذا الحاجز، ففي أكتوبر عام 2024 ذهبت في زيارة إلى مدينة رام الله مع ابنتها وصديقتها، وعند عبورها من هذا الحاجز أمرها أحد الجنود بالتوقف، بينما أمرها جندي آخر بالمضي قدمًا. وبقيت هالة تتأرجح ما بين التوقف والمرور، حتى توقفت أخيرًا بعد تصويب الجنود أسلحتهم تجاهها، اعترتها حالة من الرعب والخوف لن تنساها طيلة حياتها. سرعان ما أمروا صديقة ابنتها الجالسة بجانبها، وهي مسيحية بالمناسبة، بالنزول من السيارة وأخذوها إلى مكان بالقرب من غرف التحكم على الحاجز واعتدوا عليها بالضرب. وهنا كانت هاله في حالة ذهول، وبعد مدة اتضح من الضابط الإسرائيلي أن هناك “سوء تفاهم” لم يوضحه، ومع ذلك يجب أن يتم تفتيش السيارة تفتيشًا دقيقًا، ثم في نهاية المطاف سمحوا لها بالعبور. وتختم هالة أنها ليست المرة الوحيدة التي تتعرض للتفتيش والتنكيل على هذا الحاجز منذ الحرب، وأن جنسيتها الأمريكية لم تنفع أمامه، وأنها قضت عشرات الساعات على هذا الحاجز خلال تنقلها.
نموذج آخر لا يقل قساوة عن سابقه، يتعلق بخبر عنوانه: جنود الاحتلال ينكلون بصحفية وشاب على حاجز ” الكونتينر” شمال بيت لحم. إذ تروي لنا الصحفية مجد اطميزه، التي كانت اعتادت قبل الحرب اجتياز الحاجز مع قيوده السابقة وإغلاقاته الأقل كثافة التي تأقلمت معها. لكن الأمر اختلف كلية بعد السابع من أكتوبر، إذ كانت مجد ذات مرة تستقل سيارة أجرة عمومية، ولشدة كثافة المراقبة على الحاجز التقطت كاميرات المراقبة خارطة فلسطين على شكل سلسلة ترتديها في عنقها.
أوقف جنود الاحتلال السيارة العمومية وأمروها بالنزول من السيارة، وشرعوا بتفتيش متاعها وحقيبتها التي كانت تحتوي على “إدانة” أخرى، كتاب “وجدت أجوبتي” للشهيد باسل الأعرج، حتى بدؤوا بالهجوم عليها في محاولة لضربها. ليتدخل أحد الشبان ويحاول منع الجنود من المساس بها، لكنهم بدؤوا بضربه أيضًا؛ ثم اقتادوهما وراء غرف التحكم، وبدؤوا بضرب الشاب ضربًا مبرحًا حتى بدأ صراخه يصل إلى مسامعها. فقال لها أحد الجنود: “سامعة اشي؟” فالتفتت إلى مصدر الصوت لكن الجندي دفعها، وقال لها: “أنا قلتلك اسمعي ما تطلعي” ثم اقتادوها إلى غرفة أخرى وقامت المجندات بضربها وتفتيشها وخلع حجابها وإجبارها على تمزيق كتاب “وجدت أجوبتي” صفحة صفحة، وقامت إحدى المجندات باقتلاع سلسلة خارطة فلسطين من صدرها ورميها.
تلك القصة أثرت نفسيًّا على مجد حتى صار لديها هاجسٌ يسمى على اسم حاجز الكونتينر، لكن ضرورة التنقل جعلتها تتخطى هذا الهاجس. وقد حدثت معها حادثة أخرى في طريق العودة من رام الله للخليل، كانت مع والدها هذه المرة. ففي وقت كانت تغفو فيه خلال المرور من هذا الحاجز، أوقفت مجندة إسرائيلية السيارة وأيقظت مجد من غفوتها طالبة هويتها ثم النزول إلى ذات الغرفة السابقة. أعادوا ضربها مرة أخرى وبشكل أقسى مما سبق، وهددوها بقص شعرها هذه المرة. لكن مجد شعرت أنها أفضل من المرة السابقة، أو على الأقل هكذا اعتقدت، لكن صوتها خلال الحديث معها لم يكن يوحي بذلك أبدًا، وفي النهاية أقرت مجد أنها أصيبت بهستيريا بكاء وصراخ بمجرد أن تعدت هذا الحاجز، وحّملت كل العالم مسؤولية ذلك.
منذ ذلك الوقت ومجد طالبة الإعلام تعتذر عن كل التدريبات والفرص التي تأتيها من خلف ذلك الحاجز، وتعيش أثرًا نفسيًّا سيئًا للغاية. كانت مجد تحلم بفرص تنطلق فيها من جنوب الضفة الغربية إلى العالم لكن هذه الأحلام لم تستطع العبور من الحاجز وتوقفت.
خاتمة
بشكل أو بآخر فإن حاجز الكونتينر أثر على كل مواطن فلسطيني خاصة ممن يعيشون وراءه، ولدى كل مَّن مر من هذا الحاجز قصة أو ذكرى واحدة على الأقل، كل ذلك شكّل وعيًا وثقافة جماعية لدى هذه الفئة من المواطنين أصبح سمة من سماتهم يتشابهون ويشتركون بها، لذلك تقبلوا مسمى “شعوب ما وراء الكونتينر”، كما أجبروا على تقبل الحاجز نفسه.
وقد سعت هذه الورقة إلى إعطاء نظرة معمقة على حالة تفصيلية عن طبيعة المعاناة والمعنى السياسي والاجتماعي للحواجز المنتشرة في الضفة الغربية، إذ إنّ معرفة عدد الحواجز وحده لا يكفي لفهم تلك الأمور، وهي بحاجة لدراسة معمقة، والتقرّب من الناس لفهم معاناتهم والأثر الاجتماعي والنفسي الناتج عن الحاجز عليهم. وهو ما عرّفه عزمي بشارة بأنه: “الفاصل وهو الواصل بين العالمين، هو الحدود وهو المعبر وهو الألم وهو الأمل بالخروج”. و”هو نقطة تحول في المجال العام، إنه ليس مكانًا، بل حافة تخوم نقطة عبور نهاية وبداية ونفس النقطة من الحيّز العام، إنّه شفا الانتقال”.[1]
[1] ينظر: عزمي بشارة، الحاجز: شظايا رواية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص 22.