“جيش الاحتياط” يستنزف دولة الاحتلال في عدوانها على غزة
خاص مركز رؤية للتنمية السياسية
المقدمة:
تزداد رقعة الأثمان الباهظة التي يدفعها الاحتلال مع دخول العدوان “الإسرائيلي” على غزة شهره التاسع، ولعل أهمها يتمثل في تجنيد جيش الاحتياط الذي يتسبب في خسائر اقتصادية وبشرية فادحة، سواء على صعيد الشلل الذي يصيب دورة الاقتصاد مع انسحاب أكثر من 300 ألف جندي وضابط احتياط من سوق العمل والتحاقهم بالقتال، أو استنزاف الجيش ذاته في المعدات القتالية، فضلًا عن النزيف المالي الذي تعيشه الحكومة في الإنفاق على الاحتياط الذي يستهلك أموالًا وموازنات هائلة.
يسلّط هذا التقرير الضوء على تبعات تجنيد جيش الاحتياط في العدوان على غزة، والثمن الباهظ الذي تدفعه دولة الاحتلال على الصعد: البشرية والاقتصادية والاجتماعية، ساعيًا وبلغة الأرقام إلى الوقوف على تكلفة هذا التجنيد، وأوجه الخسائر التي تتكبّدها دولةالاحتلال، مع رؤية استشرافية على جميع المستويات ومختلف القطاعات.
الكلفة المالية لجيش الاحتياط:
كشفت حرب غزة أنّ المجتمع “الإسرائيلي” عسكري بطبعه، فالخدمة في صفوف الجيش إجبارية لكل ذكر وأنثى بلغ 18سنة، ويبلغ تعدادهم 173 ألفاً في الخدمة الفعلية، يضاف إليهم 465 ألفا في صفوف الاحتياط، وقد تجسّدت أخطر أعباء هذه الحرب باحتفاظ الجيش بجنود احتياط يتجاوز عددهم المستويات المقررة، ورغم عمليات التسريح الكبيرة التي شملت كتائب بأكملها مؤخرا، إلّا أنّ عددهم ما زال ضعف المخطط له.
مع مرور هذه الشهور الثمانية على اندلاع حرب غزة، تم تجنيد 295 ألف جندي احتياط في الخدمة منذ بداية الحرب، وقد خدم كل جندي احتياطي بمتوسط 61 يومًا، 19% منهم من النساء، 50% منهم فوق سن الثلاثين، و5% تجاوزوا الخمسين عامًا، و1% فوق سن الستين.
تكشف الأرقام أنّ تكلفة عشرات آلاف الجنود يومياً تبلغ 600 مليون شيكل (164.11 مليون دولار)، ويستمر الاحتلال بدفع مبلغ 300 شيكل (82 دولار) يوميًا حتى نهاية 2024 لكل جندي احتياط تم تجنيده، وهذه المدفوعات وحدها وصلت حتى الآن إلى نحو 9 مليارات شيكل (2.46 مليار دولار).
تسبّب تجنيد مئات الآلاف من جنود الاحتياط بزيادة الإنفاق العسكري إلى درجة الخشية “الإسرائيلية” من خروجه عن السيطرة، لأنّ عددًا كبيرًا منهم يزاوجون بين عملهم في الحياة المدنية وخدمتهم في الجيش التي يتلقون عنها راتبا كاملاً، حتى وهي بنظظام المناوبة، وذلك لمضاعفة دخلهم، وإلّا فإنّ “اقتصاد الرفاه” الذي روجت له دولة الاحتلال على مدى العقود سيصبح جزءًا من الماضي.
تكبّد الاحتلال خسائر اقتصادية كبيرة بسبب تكلفة قوات الاحتياط، والتي بلغت 20 مليار شيكل (5.5 مليارات دولار)، ومع دخول حرب غزة شهرها التاسع، فإنّ تكلفتهم تصل إلى ملياري شيكل أسبوعيًا (540 مليون دولار)، وتبلغ تكلفة فقدان أيام العمل نتيجة تعبئتهم في صفوف الجيش بـ500 مليون شيكل أسبوعيًا (135 مليون دولار).
تُبدي وزارة المالية قلقها إزاء تكلفة قوات الاحتياط، وخسائر سوق العمل، وحجم الأضرار الجسيمة وغير المسبوقة الناجمة عن تجنيدها المكثّف، لأنّ شهور الخدمة العسكرية المستمرة تستنزف الاقتصاد، وإذا احتاج إليهم الجيش مرة أخرى فسيجد صعوبة في الاستجابة لخدمتهم المتجددة، أمّا إذا احتدم القتال مع لبنان، وتصاعدت سرعة المعارك، فإنّ قوات الاحتياط ستكون مستنزفة.
إنّ أحد المصادر الرئيسة لتراجع النشاط الاقتصادي “الإسرائيلي” هو التعبئة الواسعة للاحتياط، في ضوء أنّ تجنيد 100 ألف جندي احتياطي يكلف 100 مليون شيكل (28 مليون دولار) يوميًا، يضاف إليها التكلفة غير المباشرة للإنتاج المفقود، البالغة 100 مليون شيكل أخرى يومياً، فإذا لم يتم تسريحهم، فسيدفع “الإسرائيليون” ثمنًا باهظًا يستنزف الاقتصاد.
على الرغم من التكلفة الاقتصادية الضخمة، واستنزاف جنود الاحتياط بعد شهور متتالية من تجنيدهم، إلّا أنَ الجيش لم يسرّح حتى الآن سوى نسبة قليلة جدًا منهم، مع أنّ التكلفة المباشرة ليوم الاحتياط، بما فيه دفع الأجور والمعدات والطعام يصل 70 مليون شيكل (19 مليون دولار) لكل 100 ألف مجند، يضاف إليها الأضرار التي لحقت بالاقتصاد جراء تغيبهم عن العمل، حيث يبلغ معدل الأجر الشهري للفرد 12 ألف شيكل (3250 دولار)، وهذا يعني أنّ الأضرار التي لحقت بالناتج المحلي الإجمالي أعلى بنسبة 50% من التكلفة المباشرة، مما يؤكد أنّ الاقتصاد يعاني من أضرار يومية إضافية بقيمة 200 مليون شيكل (54 مليون دولار)، ويبلغ الضرر التراكمي نحو 20 مليار شيكل، مما يشكل ضررًا غير مسبوق، حيث لم يسبق أن حدثت مثل هذا التعبئة المكثفة والمطولة لقوات الاحتياط، ربما حتى خلال حرب أكتوبر 1973، والأشهر التي تلت ذلك.
أثارت التكاليف المرتفعة لاستعانة جيش الاحتلال بمئات آلاف جنود الاحتياط أزمة بين وزارتي المالية والحرب، لأنّ كلفة جندي الاحتياط تقترب من ضعف الجندي النظامي، مما يحمّل الموازنة أعباءً كبيرة، وسط غياب اليقين بشأن انتهاء الحرب قريباً، فضلًا عن الخسائر التي يتحملها الاقتصاد جراء تحويل جهد مئات الآلاف من خطوط الإنتاج إلى الجبهات الحربية، فيما أعرب “إسرائيليون” عن اعتراضهم على المنحة المالية التي خصصتها حكومتهم لجنود الاحتياط، عقب تخصيصها لمليار شيكل (260 مليون دولار)، كما وعدتهم وزارتا المالية والحرب بمنحة مالية لمرة واحدة تصل ما قيمته 280 دولار للمجند، وما قيمته 500 دولار إضافية لمن لديه أطفال دون سن 14 عامًا، ومنح تعويضات بقيمة 30 ألف شيكل (8333 دولار) لكل جندي احتياط مقابل الخدمة خلال فترة الحرب، بينما سيتم تعويض أصحاب الشركات والمصالح التجارية منهم.
التهرّب الصامت من الجيش:
منذ اللحظات الأولى لتجنيد جيش الاحتياط للزجّ به في العدوان على غزة، طُرحت أسئلة “إسرائيلية” كثيرة حول مدى الاستعداد للاستمرار في حرب طويلة وصعبة، رغم الاعتماد في ذلك على عدة مكونات، أهمها: الأجواء التي سادت الاحتلال بعد هجوم السابع من أكتوبر، ودعم الجبهة الداخلية معنوياً ومادياً، لكن مع مرور الوقت ظهرت مخاطر من تدهور هذه المكونات، مما أسفر بعد مرور هذه الشهور الثمانية عن ظهور صعوبات عملية لجنود الاحتياط، لأنّ الافتراض ساد لديهم بأنهم سيكونون تحت تصرف الجيش دون حدّ زمني، وبكامل القوة، مع العلم أنه تم استدعاء العديد من جنود الاحتياط عدة مرات خلال الشهور الماضية، بحيث يقضون عدة أسابيع، ثم يعودون لمنازلهم لأخذ استراحة بمدّة مشابهة، ومن ثم يعودون لقواعدهم العسكرية، مما جعلهم يواجهون ضغوطًا من عائلاتهم وأماكن عملهم، فضلاً عن الصعوبات النفسية بسبب المعركة، وعلى هذه الخلفية تطورت ظاهرة محاولات تجنب المزيد من الخدمة، من خلال سلوك “التهرب الصامت” على نطاق واسع.
منذ تشكيل الاحتياط مع بداية تأسيس دولة الاحتلال، ورغم كونه جزءاً مركزياً من الجيش، فقد عانى من عدم الاهتمام به، مما أدى للاستياء المستمر، والإضرار بكفاءته، مع أنّ قادة الجيش اعتبروا دائما جنود الاحتياط مورداً بديهيًا، خاصة عندما تكون الدولة في حالة تعبئة كاملة، ولذلك شهدت خدمته صعودًا وهبوطًا على مرّ السنين، حتى وصل الأمر في بعض الفترات إلى انعدام ثقة كبار قادة الجيش بقدرات نظام الاحتياط، بل وسُمعت في فترات معينة تصريحات حول عدم الحاجة إليه، خاصة في الذراع البري، مما أحدث انزعاجا في صفوف الاحتياط، وقلّل من الثقة المتبادلة بينهم وبين قادة الجيش.
في الوقت ذاته، وبسبب الحاجة لأعداد كبيرة من القوات في الضفة الغربية، فقد قرر الجيش بداية عام 2023 استدعاء كتائب احتياطية لفترتي عمل، مدة كل منهما ثلاث سنوات، مما أنشأ مشاعر قاسية، وشكاوى حول توزيع غير عادل للأعباء في المجتمع “الإسرائيلي”، وعدم كفاية التعويضات، حتى ظهرت هذه الأزمة في قلب الاحتجاجات “الإسرائيلية” ضد خطة الانقلاب القضائي التي قادتها حكومة اليمين الحالية، ثم تزامن وقوع أحداث السابع من أكتوبر مع كفاءة تشغيلية متوسطة، ونقص في المعدات لدى جنود الاحتياط، ولعلّ الإشارة اللافتة أنّ رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” غالباً ما يرفض مقابلتهم خلال زياراته لقواعد الجيش، على ما يبدو خشية من إلقاء الاتهامات في وجهه بسبب إهمالهم وتهميشهم.
تعيد مثل هذه الأجواء لأذهان “الإسرائيليين” ما شهدوه بين عامي 1982-1985، حين سجّلت نسبة كبيرة من ظاهرة “الرفض الرمادي” بين جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم لفترات الخدمة في لبنان للمرتين الثانية والثالثة، مما أضرّ بتماسك وحداتهم القتالية، وهذا الاحتجاج يمكن رؤية براعمه اليوم في 2024، وقد يندلع بمجرد انخفاض حدّة الحرب، وسيتم التعبير عنها بمطالبة المستوى السياسي بتحمل مسؤولياته، لاسيما وأنّ الساحة “الإسرائيلية” عام 2024 باتت تشهد أجواءً انتخابية، وبدأت تظهر التوترات المختلفة على السطح بقوة أكبر، مما يعني بالضرورة تأثّر الجيش بهذه التطورات، لاسيما تشكيل الاحتياط.
كشف استطلاع أجراه معهد القدس للاستراتيجية والأمن، أنّ هناك توافقًا بين قوات الاحتياط والجمهور على أهميته، حيث سُئل المشاركون في الاستطلاع: هل سيكون الجيش قادرًا على الفوز في حرب واسعة النطاق بدون نظام الاحتياط؟”؛ فأجاب 80% بالنفي، وبالرغم من هذه القناعة، فلا زال الاحتياط يعاني من إشكاليات خطيرة كشفت عواقبها حرب غزة، أهمها تقليص أعداده، وإجراء تغييرات سلبية في هيكليته وتنظيمه، مع تآكل كفاءة وحداته، وتراجع استعدادها لخوض الحرب، والاهتزاز في الثقة بقيادته، إضافة للتغيير المستمر في التركيبة البشرية لوحداته القتالية، التي تشكّل حجر الزاوية في تشكيل الاحتياط برمّته، مما أدّى للإضرار بتماسكه.
مشاكلات الاحتياط:
بعد مرور ثمانية أشهر على اندلاع حرب غزة، ما زال جنود الاحتياط يصدرون تحذيراتهم بشأن سلسلة من المشاكل التي يواجهونها خلال عملياتهم العدوانية، من أهمها نقص العتاد، واستخدام خوذات من حقبة “السور الواقي” عام 2002، ونقص معدّات الحماية، واستخدام بنادق قديمة من دون منظار، مع بطئ في المشتريات العسكرية، أي أنهم يخدمون في غزة دون توفر وسائل حماية مناسبة، ومن جملة الأضرار والمشكلات التي يواجهونها ما يلي:
- تم استدعاء العديد من جنود الاحتياط في وقت قصير للعودة إلى ساحة المعركة دون تقديم أي مساعدة لعائلاتهم في الجبهة الداخلية، التي اضطرت مرة أخرى لتدبّر أمرها بدونهم، مما دفع قادة ألوية الاحتياط للتحذير من دور ذلك في إيجاد مشكلة التحفيز لدى الالتحاق بالخدمة العسكرية، وينتقدون أسلوب تخطيط القوى البشرية في جيش الاحتلال، مما خفض من مستوى الموثوقية بسبب عدم الاهتمام بعائلاتهم عقب التحاقهم بساحة القتال في غزة، وعدم إنشاء مركز خاص لمساعدتهم، مما يجعل الجنود في الميدان أقل ارتياحًا؛ لأنه لا يوجد هناك من يعتني بأُسرهم.
- لا يخفي جنود الاحتياط حجم الصعوبات الكثيرة التي يواجهونها على صعيد الجبهة الداخلية، لاسيما رعاية البيت والأسرة في غيابهم، وهي تعيش تحت وقع الإنذارات والصواريخ المتساقطة، بجانب الضائقة الاقتصادية، في ظل انقطاعهم عن العمل بسبب التحاقهم في صفوف الجيش، وما يعنيه ذلك من تراكم الصعوبات في منزل العائلة، وتراجع قدرة التحمّل، مما قد يسرّع في “انحناء” ظهر “الإسرائيليين”، ويجعله أقرب من الوقت المتوقع، وهذا بدوره قد يضغط على المستوى السياسي لإنهاء الحرب، رغم ما يبديه من عناد لافت.
- حدثت قفزة في الشكاوى المقدمة من جنود الاحتياط بسبب تراجع مستويات البنية التحتية والظروف المعيشية في قواعد الجيش التي يخدمون فيها، بجانب النقص في المعدات القتالية، والسترات، والزي الرسمي، والمعدات الشتوية، والخيام، وقلّة المراحيض، ونقص المياه، وتراجع عدد الوجبات في الوقت المناسب، وأحياناً تقديم طعام فاسد، تسبب في تسمم غذائي لبعض الجنود في عدة مناسبات، مما وجّه جملة انتقادات حادة لشعبة اللوجستيات في الجيش لمعالجة جميع أوجه القصور التي ظهرت بالفعل بعد فترة وجيزة من الحرب.
- وجود نسبة عالية ممن يخدمون في تشكيل الاحتياط من الطلاب الجامعيين، وقد أرجأت الجامعات المختلفة بدء العام الدراسي، ويتوقع الجنود العائدون من القتال أن يتم دعمهم وإيجاد حلول شخصية لكل واحد منهم، بحيث تكون الحلول متاحة وعملية، فضلًا عن الطلاب الذين يدرسون في الخارج، حيث تستمر الدراسة كالمعتاد هناك، لكنهم استقلّوا طائرة، وجاءوا إلى دولة الاحتلال، وبعد انتهاء استدعائهم في صفوف الاحتياط، يريد بعضهم استكمال دراسته في الجامعات المحلية، وآخرون يفضّلون العودة للخارج، مما يتطلب تقديم حلول مالية لهم في المقام الأول.
- ضرر يتعلق بالجانب الاقتصادي، فالاقتصاد “الإسرائيلي”، وأرباب العمل، والشركات المستقلة، كلها تضرّرت بشدة بسبب تكلفة الحرب نفسها، وما أسفر عن ذلك من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بسبب عدم وجود عدد كبير من العمال في صفوف الاحتياط، ومثل هذه الأضرار ستجعل من الصعب على العديد من جنود الاحتياط، خاصة ذوي الرواتب المنخفضة، وزوجاتهم، من الالتحاق بالعمل بانتظام، ما يعني أنهم سيتأثرون مالياً بشكل مباشر.
- تهرب المتدينين من الخدمة العسكرية، حيث بدا غريبًا أنه في الوقت الذي تستنفر فيه دولة الاحتلال جيش الاحتياط للانخراط في حربها الدموية ضد غزة، فإنها تُعفي المتدينين من الالتحاق بالخدمة العسكرية في صفوف الجيش لاعتبارات حزبية وسياسية داخلية، وفقا لما أقرّه “الكنيست” بأغلبية 63 مؤيدًا مقابل 57 معارضًا، مما دفع مقاتلي جيش الاحتياط لاعتبار ذلك “طعنة في ظهورهم”، وهاجموا قرار الحكومة الذي اعتبروه يزيد من القطيعة والغربة بين من يحمل العبء للدفاع عن الدولة، وبين من يراوغ، ويستنزف مواردها دون التطوع لحمايتها، مما يكشف بشكل خطير عن حالة من عدم المساواة بين يهودي ويهودي.
لم يتردد جنود الاحتياط في وصف هذا القانون الجديد بأنه “خيانة” من قِبل حكومة لا تعتبر جنود الاحتياط سوى “مرتزقة”، غرزت في ظهورهم سكيناً، بعد أن أرسلتهم للقتال في غزة، وأعفت أشقاءهم اليهود من ذات المهمة، لا لشيء إلّا للبقاء في السلطة، والحفاظ على الائتلاف الحاكم، ما لا يمكن للرأي العام “الإسرائيلي” أن يتسامح معها، حيث تجرأت الحكومة على تجاوزه.
- ربط “الإسرائيليون” بين الأزمة القائمة في جيش الاحتياط، وبين الاتجاه الذاهب نحو تراجع ثقتهم في الجيش برمّته، لأنّ جنود الاحتياط وعائلاتهم لم يعودوا يقدمون تلك المساهمة المطلوبة والمرجوة في تضامن وقوة المجتمع “الإسرائيلي”، خاصة وأنّ خدمة الاحتياط تجمع كل شرائحه، وتعتبر جسراً بينه وبين الجيش، وهي بمثابة عنصر حاسم في حصانة الدولة في الحياة الروتينية عمومًا، وخصوصاً في حالة الطوارئ والحرب، لاسيما مع تزايد التهديدات، لكنّ المفاجأة أتت في حرب غزة الجارية بعدما شاعت في أوساط الاحتلال قناعات غريبة، مفادها أنه لن تكون هناك حروب كبرى، وأنّ اتخاذ القرار بتعبئة قوة ساحقة ليس له أهمية، على اعتبار أنه لن تكون هناك حاجة لذلك.
استشراف متشائم:
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أجرى رئيس الأركان الأسبق “شاؤول موفاز” سلسلة من المناقشات حول قضايا المجتمع العسكري، تحت عنوان “هل الدولة كلها جيش؟”، وعقب توافقات من عدد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والعسكريين النظاميين والاحتياط والباحثين والأكاديميين لمناقشة انعكاسات الاتجاهات الاستراتيجية والاجتماعية على مستقبل جيش الاحتياط، ووصفهم للوضع السائد بـ”الأزمة”، مقارنة بمن تحدثوا عن تحدٍ أو مشكلة يجب إيجاد حلّ لها، على خلفية عدد من الحروب والعدوانات التي شنّها جيش الاحتلال في عدد من الساحات الفلسطينية والعربية، مما كان له تأثير عميق على مستقبل جيش الاحتياط.
في مرحلة ما قبل اندلاع حرب غزة الحالية، سادت في أوساط جيش الاحتلال قناعات جديدة، مفادها حصول تغيرات في خريطة التهديدات على الدولة، وتراجع في مسألة التهديد الوجودي بالذات، مما قلّل من ضرورة تعبئة كل “الإسرائيليين” في صفوف الاحتياط، لاسيما مع الميل المتزايد في المجتمع “الإسرائيلي” نحو المادية والفردية، وعدم التوافق والخلافات السياسية المحيطة بالخدمة العسكرية، إلى انخفاض الانخراط في الوحدات الاحتياطية، فيما دفعت القيود الاقتصادية لتقليص حادّ إضافي في هذه المسألة، وتجدر الإشارة أنّ مدقق وزارة الحرب أعدّ أواخر 2021 تقريرًا شديد اللهجة، انتقد بشدّة حالة وحدات الاحتياط في الذراع البرية لجيش الاحتلال، لاسيما مستويات تدريبهم، وانخفاض نطاقها وتراجع جودتها بشكل ملحوظ، مما ألحق الضرر بقدرتها على خوض الحرب، نتيجة فرض عبء الخدمة الاحتياطية على عدد سكاني متناقص من “الإسرائيليين”.
أسفر كل ذلك عن أزمة ناشئة جسّدت خطراً ذا حجم مختلف، إلى درجة انتشار فهم جديد مفاده أنّ ضرورة تشكيل الاحتياط على الأرض أمر مشكوك فيه، ونتج مع مرور الوقت إلى تراجع الدافع، وتآكل الالتزام بالقدوم للخدمة الاحتياطية، وبالتالي انخفاض مشاركة “الإسرائيليين” من بين الطبقات العليا، بينما ستزداد حصة الطبقة الوسطى، مما ساهم في تقويض أسس هيكل الاحتياط بأكمله، لأنه بات يقتصر على ذوي الاحتياجات الاقتصادية، أو من يتبنّون أيديولوجية صهيونية دينية استيطانية.
يتعزز هذا التخوف “الإسرائيلي” مع تزايد التقديرات بشأن اندلاع حروب تدور على عدة ساحات، وفي وقت واحد، بما في ذلك في الداخل “الإسرائيلي”، وفي مثل هذا الواقع، ليس ترتيب القوات غير كاف فحسب، بل حتى تعبئتها، وتنقلها بين الساحات قد يواجه صعوبات كبيرة، مما يطرح السؤال حول السيناريوهات المطلوبة لتوفير احتياجات الرد العملياتي الشامل، وتتضمن تلقائياً تجنيد قوة احتياطية كبيرة ومدربة، علمًا أنّ مثل هذا السيناريو لا يمكن أن يعتمد فقط على القوة النظامية والرد التكنولوجي، بل سيتطلب استخدام وحدات الاحتياط، التي سيُطلب منها المشاركة في الهجمات على عدد من الجبهات في وقت واحد، أو الردّ على ذات الجبهات، لأنه لا يمكن للجيش أن يعتمد فقط على إطلاق نار منهجي مبني على معلومات استخباراتية دقيقة، على اعتبار أنه في ظل الظروف التي قد تتطور، سيكون العمل البري السريع في عمق التضاريس الجغرافية عنصرًا أساسيًا في الاستجابة، وهذا ما حصل في غزة، وقد ينتقل إلى لبنان.
الخاتمة:
إن تعامل الاحتلال مع المزيد من الساحات القتالية يتطلب منه تخصيص قوات إضافية، لأنّ الجيش النظامي لن يكون قادرًا على توفير الردود المطلوبة، وسيكون من الضروري دمج نظام الاحتياط في مثل هذه الحرب واسعة النطاق، ولأنّ الجيش في وضعه الحالي، خاصة بعد التخفيضات الكبيرة في قوات الاحتياط في السنوات الأخيرة، أصغر بكثير بالنسبة لنطاق المهام المطلوبة.
إنّ الحاجة الماسة لقوات احتياطية مؤهلة، باعتبارها جزء لا يتجزأ من الردّ العملياتي، تتطلب تغيير الاتجاه السائد في السنوات الأخيرة، بحيث تكون هناك حاجة لنظام احتياطي مدرّب في حالة حدوث سيناريوهات غير متوقعة، ومن دون إنذار استراتيجي، لأنّ حرب غزة 2023-2024 أوضحت مدى خطورة التهديد الداخلي، لأنها حملت سيناريوهات غير محتملة على صعيد الجبهة الداخلية، حتى وجد جيش الاحتلال نفسه في وضع احتاج فيه للعديد من قوات الاحتياط للرد على السيناريوهات التي جلبت انقلاباً جذريا في مفهومه للأمن القومي.