تقدير موقف حول التصعيد الإسرائيلي ضد غزة
للمرة الثانية وخلال عشرة أيام يتم إطلاق صاروخ إلى تل أبيب (فجر 25/3/2019) وبغض النظر عن النتيجة الميدانية للقصف فإن الصاروخ أصاب أهدافاً عسكرية وسياسية وخلط أوراق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في وقت حرج للغاية. فالصاروخ سقط تزامناً مع تصاعد الأحداث في السجون الإسرائيلية والاعتداء على الأسرى الفلسطينيين، وكذلك في ساعة إقلاع طائرة نتنياهو إلى الولايات المتحدة للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، كما أنه يأتي في ظل تقارير أمنية عديدة تشير إلى انفجار متوقع للأوضاع في الضفة الغربية، وكون الصاروخ سقط في تل أبيب وليس في غلاف غزة فإنه يعني تدهوراً آخرَ في هيبة الردع الصهيونية أمام المقاومة الفلسطينية.1
كل ما سبق يجعل الخيارات صعبة أمام رئيس الحكومة ووزير الدفاع نتنياهو الذي يتعرض لمنافسة شديدة في الانتخابات القادمة من قبل رئيس أركان الجيش السابق بيني جانتس، فنتنياهو يدرك تماماً أن الحرب الشاملة على غزة ولاعتبارات كثيرة، لن تحل المشكلة ولكنه في المقابل لا يستطيع تجاوز القصف على تل أبيب، كما أن ذريعة إطلاق الصاروخ بالخطأ مرة أخرى لن تكون مقنعة إعلامياً وبالتالي فإن رد نتنياهو كان محدودا في إطار ردة فعل محسوبة لا تؤدي إلى تطورات كبيرة أو تدهور ميداني خطير، وعلى إثر تدخل الوسيط المصري جاء تجديد وقف إطلاق النار،2 الذي يبدو أنه هشٌّ إذ تلاه العديد من أعمال القصف والقصف المتبادل ولكن بوتيرة أقل مما كان متوقعا، لذلك لا يمكن التنبؤ إلى متى سيبقى هذا الاتفاق ساري المفعول. من جهة أخرى فإن فصائل المقاومة في قطاع غزة ليست معنية بالحرب بقدر اهتمامها بتحقيق إنجاز على صعيد تخفيف الحصار وإجراءاته مستغلة اللحظة الانتخابية التي يحتاجها نتنياهو لاستمرار مستقبله السياسي وكحبل نجاة له من تحقيقات الفساد. وأمام هذا التصعيد فإن الحالة الميدانية تبدو أمام العديد من السيناريوهات أبرزها:
-
حرب طاحنة كالتي حدثت عام 2014.
-
تهدئة طويلة الأمد تشمل تغييرا حقيقيا في واقع قطاع غزة المحاصر.
-
استمرار الوضع القائم منذ سنوات، المتمثل في تهدئة هشة أو مؤقته مع استمرار مسيرات العودة وتصعيد متبادل دون الوصول إلى الحرب واحتمال الاشتعال عسكرياً في كل لحظة.
معضلة ما بعد الحرب:
تدور في الأروقة الإسرائيلية تساؤلات عدة، أهمها في حال انتهاء الانتخابات الإسرائيلية، هل سيبقى الحال على ما هو عليه؟ وهل ستتبع إسرائيل نفس سياسة الاستيعاب وعدم الانجرار إلى حرب مفتوحة كما هو قائم حاليا؟
يسود الاعتقاد أن الاحتلال سيسعى إلى استعادة الردع المفقود أمام مقاومة غزة، سواء استمر نتنياهو في رئاسة الحكومة أم جاء شخص آخر، فالردع كان ولا زال أحد أهم أركان العقيدة الأمنية الصهيونية وقد أشار أكثر من مسؤول صهيوني أن خطة للاغتيالات جاهزة وموجودة على سلم أولويات الجيش والشاباك تنتظر القرار للبدء في التنفيذ،3 وهذا بالتأكيد يعني الذهاب إلى حرب مفتوحة كخيار متوقع، لكن هذا الخيار يفتح أسئلة أخرى من قبيل وماذا بعد الحرب؟ ألن نعود إلى النقطة الأولى؟ هل الهدف من الحرب استعادة هيبة الردع أم القضاء على نظام حماس؟ هذه الأسئلة ولاعتبارات أمنية وعسكرية وسياسية داخلية وإقليمية، لا تجد إجابة واضحة عند دولة الاحتلال، وتقدير الموقف تجاهها في غاية الدقة والحساسية نظرا لارتباطه بمعادلات سياسية إقليمية ودولية لا تخص الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي فحسب وإنما ترتبط بشكل وثيق بترتيبات دولية ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية تهدف إلى إعادة رسم المشهد السياسي في المنطقة كلها. ورغم بعض التوقعات التي ترى إمكانية لأن تتدحرج الأحداث إلى مواجهة عنيفة حتمية مع غزة، ولكن من سيجرؤ على حمل لواء ذلك، ف"إسرائيل" تُدرك ثلاثة أمور مهمة على الجبهة الغزية أوّلها، أنّها لا تستطيع الدخول بريا للقطاع وبدون ذلك لا يمكن حسم الحرب، وثانيها، أنّ مفاجآت كبيرة ربما يخفيها قطاع غزة، قد تضع تل أبيب في موقف أكثر إحراجاً، وثالثها، أنّ الحرب تعني العودة إلى ذات النقطة حالياً، الأمر الذي سيجعل الحروب غير ذات قيمة إسرائيلياً، وسيزيد من مساحة تآكل الردع.
أما السيناريو الثاني والذي له مؤيدوه وأنصاره من وزراء وقادة اليمين الصهيوني وهو تخفيف الحصار على غزة بصورة ملموسة مقابل هدنة طويلة نسبياً تسمح للصهاينة بالخلاص من كابوس غزة، وهذا السيناريو وإن بدا يلبي بعض الأهداف الإسرائيلية إلا أنه يحمل تهديدا كبيرا للأمن الصهيوني لأنه يعطي الفرصة للمقاومة الفلسطينية وبالذات لحركة حماس كي تحافظ على منجزاتها وقوتها بل وتعمل على تعزيزها وتطويرها في المستقبل مما قد يشكل خطرا استراتيجيا على دولة الاحتلال.
رغم أن ملف غزة يشكل أزمة حقيقية للاحتلال، وسيناريوهات التعامل معه معقدة إلى حد كبير، إلا أن المشهد السياسي الإسرائيلي، وبالذات المشهد الانتخابي مزدحم بقضايا أخرى ذات أهمية كبيرة بالنسبة للسكان في إسرائيل، فمن خلال متابعة المزاج العام الإسرائيلي حول الملفات الأكثر حضورا في الحملات الانتخابية الإسرائيلية، يتضح أنّ غزة ليست هي العامل المؤثر المركزي في الانتخابات الإسرائيلية، حيث إن غالبية الإسرائيليين ينظرون إلى الوضع الاقتصادي والواقع الاجتماعي الداخلي كأولوية أولى وبعد ذلك تأتي القضايا الأمنية 4، وفي الواقع فهم يرون أنّ اليمين الإسرائيلي أكثر نجاحاً من غيره في هذه الزاوية، بمعنى أن التوتر الأمني يصب في مصلحة نتنياهو وليس العكس، حتى أنّ تآكل قوة الردع التي باتت تُرى بالعين الإسرائيلية بوضوح، لا يتم تحميلها لشخص نتنياهو، بل لمنظومة تتآكل منذ سنوات.
استنادا لما سبق ذكر، فإن الأرجح هو العمل وفق السيناريو الثالث، الذي يتبنى استمرار الوضع القائم، عبر المحافظة على توازن دقيق في الردع والمواجهة، والتوصل إلى تفاهمات محدودة حول التهدئة، لا تعطي صورة نصر أو هزيمة لأي من طرفي الصراع "المقاومة وإسرائيل". والارجح أنّ استراتيجية "إسرائيل" قائمة حاليا على تأخير المواجهة مع غزة قدر المستطاع، وهي وإن كانت تبدو مواجهة حتمية لكن قد لا تكون قريبة، والتي قد تكون نتيجة لترتيبات إقليمية ودولية يعتقد أنها ستكون حاسمة في موضوع القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي.
العديد من الاعتبارات تعزز السيناريو الثالث، فإذا كانت إسرائيل ترغب في الاستمرار في الانقسام الفلسطيني وتعزيز فرص تحوله لانفصال جغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن هذا السيناريو يخدم سياستها هذه، حيث يبقى القطاع محاصرا ومضيقا عليه، وتبقى دولة الاحتلال متفردة بالضفة الغربية والقدس تهود هويتها وتلتهم أرضها، بمعنى أنّ "إسرائيل" ستستمر في سياستها من أجل دفع غزة باتجاه إنتاج حالة سياسية أقرب إلى الإدارة الذاتية، بضمانات دولية وإقليمية، ليتسنى لها وفق رؤيتها ضم التجمعات الاستيطانية الكبرى، وإبقاء السلطة الفلسطينية في إدارات محلية، دون كيان سياسي. إضافة إلى ذلك تحرص الحكومة الإسرائيلية على الحفاظ على أجواء التطبيع العربي غير المسبوقة والتي تطورت خلال الأعوام الأخيرة والتي اعتبرها نتنياهو إنجازا كبيرا قد لا يرغب بإفساده بحرب طاحنة مع قطاع غزة، ناهيك عن أن الجبهة الشمالية التي لا يمكن إغفالها في الحسابات الإسرائيلية، فحرب مدمرة على قطاع غزة قد تقود إلى انفجار جبهة الشمال وقد تشكل فرصة لحزب الله وإيران لتوجيه ضربة لإسرائيل تعيد من خلالها خلط الأوراق في المنطقة وقد تقود إلى تغير المشهد بشكل كامل، الأمر الذي لا يمكن أن يسقط من الحسابات الإسرائيلية.
ختاما، ما زالت "إسرائيل" تتعامل بسياسة إدارة الصراع وليس حسمه، فـ"إسرائيل" تتأثر بأيّ من المتغيرات المحلية والإقليمية، والواقع الأمني يفرض عليها ردات فعل، وفي الوقت الذي كانت فيه قبل عقود صاحبة المبادرة، باتت مؤخراً لاعباً يؤثر ويتأثر، ولا يملك وحده القدرة على تحديد اتجاهات الأحداث بما في ذلك الحربية، خاصة أنّها باتت مؤخرا تواجه مقاومة حقيقية، تستنزف الاحتلال، وأظهرت عورات كبيرة في قوّته الإسرائيلية. لذلك يبدو أن نتنياهو سيبقى مضطرا للإبقاء على العمل على سيناريو الاستيعاب وعدم التصعيد الخطير لأن الذهاب إلى مواجهة شاملة على الأغلب لا يخدمه قبل الانتخابات أو حتى بعدها، وإنما الإبقاء على السيناريو الحالي تصعيد مضبوط وقصف متبادل محسوب.
1 حماس لم تخشَ من إطلاق الصواريخ على منطقة المركز، اليور ليفي، يديعوت أحرنوت، 25/3/2019
2 سبع إصابات من صاروخ وقع على بيت في منطقة هشارون، موقع ماكو، 25/3/2019، https://bit.ly/2JGraw7
3 سبع إصابات من صاروخ وقع على بيت في منطقة هشارون، مصدر سابق، https://bit.ly/2JGraw7
4 قراءة في أبرز إصدارات المراكز البحثية الإسرائيلية خلال العام 2018، عماد أبو عواد، مركز رؤية للتنمية السياسية، 3/15/2019، https://www.vision-pd.org/AR/Articles/Reading_the_worlds_leading_research_centers