تفاعلات الجماهير الغربية مع قضية فلسطين خلال حرب “طوفان الأقصى” 2023

حسام شاكر[1]

لتنزيل التقرير

مثّل خريف وشتاء 2023 موسماً تفاعلياً غير مسبوق في زخمه مع قضية فلسطين في البيئات الغربية، بالنظر إلى طبيعة الحدث وتفاعلاته وطول أمده، فعلى مستوى الحدث، تعلّق الأمر ابتداءً بعملية كبرى نفّذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ثمّ بحرب هي الأطول من نوعها شنّها جيش الاحتلال على قطاع غزة، تخلّلتها مشاهد وحشية مرئية، حملت مواصفات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب المركّبة.

تميّز هذا الحدث بمساندة عسكرية وسياسية ودعائية من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية للجانب الإسرائيلي، إلى حدّ الشراكة النسبية متعدِّدة المستويات في تدبير مهام عملياتية وتفعيل جسور جوية وتحريك أساطيل إلى المنطقة، بينما صعدت موجة تنديد جماهيرية بالعدوان على قطاع غزة في العديد من البيئات الغربية. فما طبيعة التفاعلات الجماهيرية في البيئات الغربية مع الحدث وما التحوّلات التي تنطوي عليها و/أو قد تفضي إليها؟ وكيف يمكن تصنيف التفاعلات الجماهيرية والشعبية والاتجاهات الشعبية والجماهيرية والنخبوية ممّا يجري؟ وكيف تستجيب السياسات والمواقف الرسمية في الدول الغربية لمواقف الاعتراض والتنديد الموجّهة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه والانحياز إليه؟

7 أكتوبر وتداعياته غربيا

جرى تقديم هجوم المقاومة الفلسطينية ضدّ أهداف الاحتلال الإسرائيلي يوم السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، في عموم المنصّات السياسية والإعلامية الغربية المركزية، في قالب الحدث الصادم المُؤسِّس لما بعده، والدفع باتجاه إلزام بالإدانة الصارمة بأقصى العبارات بحقّ ما نُعِت بـ”الاعتداء الإرهابي المروِّع[A1] “[2]، وقد هيمنت هذه السردية على الفضاء العام في البيئات الغربية خلال الأيّام الأولى على الأقلّ، وكانت تلك توطئة تبريرية لشنّ عدوان وحشي على قطاع غزة بصفة فورية، اتّخذ طابع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتخلّلته وفرة من جرائم الحرب المروِّعة المرئية للعالم أجمع، حيث جرى من جانب دعاية الاحتلال والمنصّات السياسية والإعلامية الغربية المركزية تزييف مشهد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فسرعان ما غابت مشاهد اقتحام قواعد الاحتلال وثكناته عن التغطيات والتعليقات الإعلامية والسياسية الغربية، وجرى حصر الاهتمام بجمهور الحفل الموسيقي ومشاهد السيارات المدنية المستهدفة والمنازل المحترقة ثمّ المزاعم الملفّقة عن اقتراف أعمال وحشية في المستوطنات.

من الواضح أنّ إنتاج مفعول الصدمة على هذا النحو الذي يحاكي مفعول صدمة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 أربك جهات وشخصيّات كانت معروفة بمواقفها المناهضة للاحتلال، إلى حدّ استدرجها إلى التنديد بالمقاومة الفلسطينية وتقمُّص سردية الاحتلال بشأن حدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول التي لم يقع تمحيصها، وكان لذلك تأثيره الكابح للتحذيرات من العدوان الواسع على قطاع غزة الذي أقدم عليه جيش الاحتلال في اليوم ذاته.

واجهت المظاهرات التي تحرّكت في بعض العواصم والمدن الغربية في الأيّام الأولى للعدوان على قطاع غزة ضغوطاً معنوية وإعلامية وأمنية شديدة[3][A2] ، على وقع سردية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول كما قُدِّمت في المنصّات الإعلامية والسياسية الغربية، لكنّ هذه التحرّكات الجماهيرية التي بدت مُحاصَرة في الأيام القليلة الأولى، تمكّنت بجرأة من فرض ذاتها والتحوُّل إلى حالة جماهيرية عارمة، مع فروق واضحة أو نسبية في السِّمات والزخم ومدى التنوُّع في المنخرطين فيها بين بيئة وأخرى عبر البلدان الغربية.[4]

فرضت السلطات في بعض الدول والأقاليم الأوروبية قيوداً على التظاهر وأشكال التعبير [A3] ومضامينه ضدّ العدوان على قطاع غزة، إلى درجة الحظر الشامل في بعض المناطق أحياناً[5]، لكنّ ذلك لم يمنع الحالة الجماهيرية من أن تفرض ذاتها في هيئة موجة عالمية، ثمّ تراجعت بعض السلطات عن قرارات حظر التظاهر، مثلاً في فرنسا وبعض الولايات الألمانية، كما أنّ محاولة الحظر التي سعت إليها وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان أفضت إلى إقالتها من منصبها يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، ما مثّل انكساراً واضحاً لمسعى تقييد التعبير المؤيِّد للشعب الفلسطيني في المملكة المتحدة.

ما الذي تغيّر في تفاعل الجماهير الغربية؟

إنّ الانشغال العامّ، المكثّف والمطوّل هذه المرّة بصفة غير مسبوقة بتطوّرات فلسطين، على النحو الذي جرى في خريف وشتاء 2023، مثّل فرصة استثنائية للتفاعل مع قضية فلسطين، بل ولإعادة اكتشافها ولمراجعة بعض التصوّرات والمواقف منها لدى أوساط ونخب وقوى وتجمّعات وعموم الجمهور.

تطوّرت خلال الربع الأخير من عام 2023 – أي حتى وقت إعداد هذا التقرير – موجة تضامنية عارمة مع فلسطين في المستويات الجماهيرية وفي التواصل الشبكي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعبّرت أوساط ونخب عن مواقف جماعية وفردية مضادّة للاحتلال والعدوان ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني، وصعدت أدوار لبعض الأوساط والشخصيات اليهودية المناهضة للصهيونية في البلدان الغربية. أخذت هذه التفاعلات بُعديْن رئيسيْن؛ ضد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب عموماً أو بصفة جزئية، لأسباب إنسانية و/أو تضامنية؛ وتأييد قضية فلسطين وحريّة شعبها ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي وسياساته وممارساته. قد تكتفي بعض المواقف والتعبيرات التضامنية بالبُعد الأوّل، من قبيل ما صدر عن أوساط إنسانية وطبية مثلاً، وقد تشتمل على البُعدَيْن معاً.

لئن بقي من سِمات الحالة التضامنية مع الشعب الفلسطيني في البيئات الغربية تحاشيها في عموم المشهد، التصريح بمساندة المقاومة الفلسطينية، قياساً ببيئات أخرى عربية وإسلامية ولاتينية وإفريقية وآسيوية – لأسباب قانونية وسياسية وإعلامية على الأرجح – إلاّ أنّ تعبيرات تأييد النضال الفلسطيني شهدت منحى تصاعدياً في بيئات غربية، وإن اتّخذت منحى رمزياً أو إيحائياً في معظم الحالات، كما تمدّدت شعارات تجاوزت حدود الخطابات التقليدية للتجمّعات التضامنية والحقوقية الناشطة خلال ثلاثين سنة خلت بعد إبرام اتفاق أوسلو، من قبيل المناداة بـ”مقاطعة إسرائيل” إجمالاً، و”فلسطين حرّة من النهر إلى البحر”.

في المقابل سعت قيادة الاحتلال الإسرائيلي وأذرعها الدعائية، وكذلك حكومات وسلطات ومسؤولون وسياسيون في بيئات غربية، إلى ذمّ التعبيرات المؤيِّدة للشعب الفلسطيني وفرض قيود عليها والترهيب من عواقبها، والمبالغة في تصنيفها على أنها “عداء للسامية” أو اعتبارها تُحرِّض على “تدمير إسرائيل، والإبادة الجماعية للشعب اليهودي”، حسب المزاعم. تعاظمت موجة الذمّ والتشهير والترهيب في بعض البيئات الغربية إلى حدّ طارد مواقف مبدئية عبّرت عنها شخصيات ومؤثِّرون وتجمّعات ناشطة في المجتمع المدني والحياة العامّة[A4] .[6]

تحوّلات في مضامين الخطاب وتعبيراته

برزت شعارات وهتافات وتعبيرات بصرية داعمة لقضية فلسطين ونضال شعبها، من قبيل شعار “فلسطين حُرّة من النهر إلى البحر[A5] ” ضمن الهتافات الجماهيرية المعولمة خلال هذا الموسم[7]، وظهر هذا الشعار في بعض الميادين الغربية خلال عدوان مايو/ أيار 2021 على قطاع غزة (معركة “سيف القدس” في تسمية المقاومة الفلسطينية/ عملية “حارس الأسوار” في تسمية جيش الاحتلال)، لكنّه حقّق رواجاً واسعاً بدءاً من خريف 2023. جرى التصدٍّي لهذا الشعار تحديداً بمحاولات تحريض مناوئة، وفرضت السلطات في بعض الدول قيوداً عليه حتى أنّه كان سبباً في التضييق على العديد من المظاهرات أو حظرها أو إيقاع مخالفات على مُنتظمين فيها علاوة على التشهير بالتحركات الجماهيرية التي ترفعه أو تردِّده. لكنّ الشعار تكرّس واتّسع حضوره في تحرّكات التضامن العالمي أسبوعاً بعد أسبوع بمنطوقه الإنجليزي From the river to the sea, Palestine will be free على نحو يشير إلى تطوّر نوعي في الخطاب الداعم لقضية فلسطين.

كما طوّرت جماعات يهودية ناشطة مضامين خطاب موجّهة ضدّ محاولات استغلال ذكرى فظائع النازية في تبرير حرب الإبادة التي تستهدف الشعب الفلسطيني؛ فعلى منوال شعار “ليس مرّة أخرى” أو NEVER AGAIN الذي برز منذ أواسط القرن العشرين لنبذ أيّة فرصة لعودة النازية والفاشية وأعمال الإبادة، نحتت تجمّعات يهودية مناهضة للاحتلال في الولايات المتحدة ودول غربية شعاراً جديداً هو “ليس مرّة أخرى لأيّ كان” أو NEVER AGAIN FOR ANYONE في رسالة مضادّة لاستعمال ذاكرة ضحايا الماضي النازي والفاشي في أوروبا بصفة احتكارية وانتقائية وأحيانًا لتبرير حملة إبادة غزة، من خلال استدعاء “الهولوكوست” ضمن خطاب دعم العدوان. دشّن هذا التطوّر في الخطاب ناشطون يهود مع شركائهم إذ رفعوا أصواتهم منذ بدء العدوان بشعارات: “ليس باسمنا” Not in our names! “لا إبادة باسمنا” أوNO GENOCIDE IN OUR NAMES!.

من التحوّلات اللافتة للانتباه في المواقف والخطابات، تبنِّي الحركة البيئية الشبابية الأبرز في العالم موقفاً داعماً للشعب الفلسطيني ومناهضاً للاحتلال والإبادة، حيث أدمجت حركة “جُمَع لأجل المستقبل” Fridays for Future مطالب وشعارات داعمة للشعب الفلسطيني ضمن تحرّكاتها، ودعت جماهيرها الشابّة إلى التظاهر لأجل غزة وحرية فلسطين، ونحتت الحركة شعاراً جديداً هو “لا عدالة مناخية فوق أرض محتلّة” أو بالإنجليزية No Climate Justice on Occupied Land وهو ما يُعدّ تطوّراً نوعياً في الخطاب وخروجاً على التقاليد الانعزالية ضمن مجال الاشتغال الذي يغلب على تشكيلات المجتمع المدني والحركات الجماهيرية في البيئات الغربية.

كما برزت في غضون ذلك رمزيّات بصرية جديدة، منها رمزية شريحة البطيخ، تعبيراً عن تقدير الهوية الفلسطينية بالنظر إلى ألوانه الموافقة لألوان العلم الفلسطيني الذي جرت محاولات للتضييق على رفعه، ورمزية أكفان الطفولة التي تُعبِّر عن ضحايا الإبادة، مع ملاحظة أنّ الكفن تعبير بصري مستجدّ بالنسبة للتقاليد الأوروبية والغربية قياساً بالتوابيت، كما برزت رمزية الطائرة الورقية المُستوحاة من نصّ شعري بالإنجليزية نشره الأكاديمي والأديب الفلسطيني دكتور رفعت العرعير الذي اغتاله جيش الاحتلال في غزة خلال العدوان، يحمل صعود هذه الرمزيات البصرية في الفضاء العالمي دلالات عن مدى اتساع الموجة الجماهيرية وتفاعلها السريع مع التطوّرات علاوة على محاولة الالتفاف على بعض القيود المفروضة على التعبير.

تطوّر أشكال التعبير الجماهيري

أمّا على صعيد أشكال التعبير الجماهيري فقد تواصلت المظاهرات والتجمّعات والنشاطات في العديد من البلدان الغربية واتّخذت منحى مستمرّاً و/أو تصاعدياً. كما تطوّرت تحرّكات ذات طابع نوعي في أشكالها ومواقعها ومضامينها، منها نشاطات كبرى أو نموذجية في بعض المدن والمواقع ذات القيمة الرمزية، مثل: تمثال الحرية بنيويورك، ومرافق الكونغرس، ومقارّ الاتحاد الأوروبي، ومدينة غرنيكا الإسبانية التي ترمز إلى ويلات الحرب والدمار.

برزت في غضون ذلك تحركات ميدانية جريئة من قبيل فعاليات الجلوس أرضاً SIT-IN أو التمدُّد أرضاً في وضعية موات DIE-IN في الميادين ومرافق عامّة مثل محطات القطار والأسواق، واحتلال فروع لسلاسل متاجر ومطاعم ومقاهٍ أمريكية متهمة بالانحياز للاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة الجارية، والاعتصام مقابل مصانع أسلحة وذخائر متعاقدة مع الاحتلال، وتوجيه أنظار الجمهور في “عيد الميلاد” إلى خطورة العدوان على قطاع غزة عبر فعاليات في مراكز تسوّق ومرافق حيوية، علاوة على تعطيل حركة السير لفرض إغلاقات تنبِّه إلى خطورة الإبادة الجارية، من قبيل سدّ جسور حيوية في الولايات المتحدة من جانب ناشطين يهود مناهضين للصهيونية، كما انطلقت دعوات إضراب عامّة أو قطاعية.

شملت بعض الاعتراضات الجماهيرية والفردية على السياسات الداعمة للاحتلال والعدوان مطاردة مسؤولين بارزين في الأماكن العامّة ومساءلتهم بتعبيرات لاذعة بحضور التصوير الشبكي ورفع هتافات تندِّد بالإبادة وتناصر فلسطين في حضورهم.

الأدوار والتفاعلات مع القضية الفلسطينية

تتعدّد مراكز القوى والتأثير في مشهد الآراء والمواقف والتفاعلات نحو قضية فلسطين، ويبقى للحدث مركزيّته في هذا الشأن بما يستثيره من تأثيرات واستقطابات وردود أفعال، تمثّل الحدث في عدوان على الشعب الفلسطيني امتدّ عبر الربع الأخير من سنة 2023 ومرشّح للاستمرار في السنة التالية، وفظائع مرئية اقترفها جيش الاحتلال في الميدان الغزِّي، وصمود الشعب الفلسطيني الأخّاذ رغم حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وعدم انكسار شوكة المقاومة الفلسطينية، وجملة التطوّرات على الأرض. كما تمثّل الحدث في ما عُدّ لحظة مُؤسِّسة؛ هو هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول على أهداف الاحتلال. لا تتشكّل الآراء والمواقف والتفاعلات بصفة موضوعية، بطبيعة الحال، فهي تتأثّر باتجاهات التناول والتعليق والتأويل/ إساءة التأويل عبر وسطاء السياسة والإعلام وقادة الرأي، وبمضامين الدعاية والتأثيرات المضلِّلة أيضاً.

الأدوار والتفاعلات الداعمة لقضية فلسطين:

من أبرز الأدوار التي يُشار إليها في جهود مناهضة الاحتلال والعدوان في البيئات الغربية:

  • نشاطات ومبادرات قامت بها تجمّعات فلسطينية وعربية ومسلمة بصفة مستقلّة أو بالتعاون والشراكة مع جهات أخرى.
  • مبادرات وناشطون في المجتمع المدني والتجمّعات الشبابية: من قبيل ائتلافات التضامن مع فلسطين في عدد من الدول والأقاليم والمدن، وتحرّكات قامت بها اتحادات نقابية، ومبادرات من جانب هيئات قطاعية وأوساط مهنية وثقافية وفنية.
  • تجمّعات وتشكيلات يهودية مناهضة للصهيونية: تتمثّل أبرز الأطراف اليهودية الناشطة ضدّ الاحتلال والعدوان في حركات وتجمّعات يهودية جديدة من أجيال متعدِّدة تنشط تحت شعار “ليس باسمنا” Not in our names ومنها مثلاً مجموعة “مسنّون يهود لأجل حرية فلسطينية” Jewish Elders for Palestinian Freedom. كما تنشط منظمات وتجمّعات متجذِّرة مثل “صوت يهودي للسلام” Jewish Voice for Peace المعادية للصهيونية التي تشكّلت خلال أحداث “انتفاضة الأقصى” (2000-2005)، علاوة على حضور مستقرّ لجماعات دينية تقليدية معادية للصهيونية أبرزها “ناطوري كارتا”.
  • حركات العدالة الإثنية Racial justice movements المناهضة للعنصرية والتمييز خاصة في أمريكا الشمالية.
  • منظمات وتجمّعات حقوقية وإنسانية وبيئية، منها على سبيل المثال فعاليات نظّمتها العفو الدولية Amnesty International مثل فعالية الأكفان مقابل البيت الأبيض يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، وفعالية الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال Save the Children التي استخدمت تقنية الإسقاط الضوئي على مقارّ الاتحاد الأوروبي في بروكسل للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار قبيل انعقاد قمّة أوروبية يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، وسلسلة التحركات المشتركة التي أطلقتها أبرز المؤسسات الحقوقية والخيرية والإنسانية في أستراليا، وإعلان الحركة البيئية الشبابية الأبرز عالمياً “جُمَع لأجل المستقبل” Fridays for Future عن إدراج مناصرة قضية فلسطين ضمن أولويّاتها ودعوتها إلى فعاليات جماهيرية في هذا الاتجاه، وقد أحدثت هذه الخطوة تحديداً انزعاجاً واضحاً من جانب داعمي الاحتلال في البلدان الأوروبية، خاصة في ألمانيا.[8]
  • بعض القوى السياسية في البيئات الغربية، مثل أحزاب ومنظمات يسارية ونقابات عمّالية، ومحسوبين على ما يُعرَف بـ”التيار الديمقراطي التقدمي” في الولايات المتحدة.
  • منصّات شبكية وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي وبعضها يتبع مؤسسات مجتمع مدني وتجمعات وتشكيلات ولجان ناشطة من التصنيفات سابقة الذكر.

الأدوار والتفاعلات الداعمة للاحتلال وعدوانه:

  • المواقف التي عبّر عنها معظم قادة الدول والحكومات والقيادات السياسية والحزبية من الوسط السياسي وأطرافه في البلدان الغربية، التي وفّرت دعماً صريحاً أو ضمنياً للعدوان على قطاع غزة خاصة من جانب العواصم التي أعلنت عن دعم ومساندة متعددة الأشكال للجانب الإسرائيلي، ثمّ طرأ تراجع واضح أو نسبي على بعض هذه المواقف مع استمرار العدوان وتعاظُم الفظائع المرئية التي يقترفها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة واتساع الموجة الجماهيرية المندِّدة بذلك في البلدان الغربية، وبرزت في الاتجاه الناقد لجرائم الحرب الإسرائيلية والمنادي بوقف إطلاق النار مواقف إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا ومالطا والنرويج، ومواقف فرنسا نسبياً.
  • دعاية الاحتلال وتلقّفها وتبنِّي سرديّاتها ومزاعمها في البيئات الغربية من جانب أبرز منصّات السياسة والإعلام، وصناعة التشويه والتحريض الداعمة للاحتلال و/أو المرتبطة بدعايته، بما تشتمل عليه من منظمات وتشكيلات وحملات ومنصّات شبكية وحسابات في مواقع التواصل وتحيُّزات إعلامية وفاعلين في النقاشات العامة.
  • القوى العنصرية والمضادّة للتنوّع الثقافي والمناهضة للعرب والمسلمين.
  • بعض مجموعات اليسار الصهيونية والداعمة للاحتلال، من قبيل النسخ الألمانية والنمساوية من حركة “أنتيفا” مثلاً بخلاف توجّهات الحركة في بيئات غربية أخرى.

مظاهر المشهد الغربي وتطوّراته

1- كان للمبالغة في إظهار الاحتلال في موقع الضحية، ومحاولة أنسنة جيشه ومستوطنيه، بمقتضى سردية السابع من أكتوبر/ تشرين أول المحبوكة، تأثيرات عكسية محتملة لدى بعض الأوساط والجماهير؛ فمن جانب وقع شدّ انتباه الجمهور إلى الميدان الغزِّي وتحفيز الانشغال بالتطوّرات، على نحو لم يخدم موقف الاحتلال ودعايته الساذجة مع استمرار العدوان، ومن جانب آخر بدا التناقض جسيماً بين منحى الأنسنة والرفعة الأخلاقية وواقع الخطاب والسلوك من جانب الاحتلال، بصفة أربكت سرديات دعم العدوان على قطاع غزة.

2- تطوّرت في الواقع الغربي والعالمي صناعة تشويه وتحريض داعمة للاحتلال و/أو مرتبطة بدعايته، صعد تأثير هذه “الصناعة” من خلال الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وقد صعّدت من انهماكها في مطاردة المدافعين عن الحقوق والعدالة في فلسطين، وتتجنّد هذه الصناعة للتشهير بخصومها، وبالتالي الضغط على فرص حضورهم وصعودهم في مجالات الحياة المختلفة، ولها تأثيرات في ردع فرص التعبير الحرّ عن الرأي، وتتشكّل هذه الصناعة من وفرة من الفاعلين في المجتمع المدني ومؤسسات الرصد والتشهير ومنصّات شبكية مختصّة بذلك.

3 – تصاعَدَ منحى الدعم المتبادل بين “صناعة الإسلاموفوبيا” وجهود التشهير بمناهضي الاحتلال والعدوان، ومن مظاهر ذلك أنّ معظم التيّارات العنصرية وأحزاب اليمين المتطرف التي تناهض المسلمين تتبنّى موقفاً مؤيِّداً بشكل جارف للعدوان على الشعب الفلسطيني[9]، وأنّ دعاية الاحتلال الموجّهة إلى العالم الغربي تستدعي مقولات “الخطر الإسلامي” على أوروبا والغرب بصفة صريحة و/أو إيحائية كما يأتي في تعبيرات لفظية وبصرية متعدِّدة.[10]

4- تشبّعت العديد من المواقف والاصطفافات المتعلِّقة بحدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ثمّ بالعدوان الحربي على قطاع غزة، بالمواقف التقليدية من قضايا سياسية واجتماعية وثقافية؛ فعلى سبيل المثال، مال مناهضو الهجرة واللجوء في أوروبا، والمعادون للإسلام والمسلمين، إلى تأييد العدوان على قطاع غزة بصفة جارفة وإن لم يقتصر ذلك عليهم، فقد اشترك معهم في ذلك سياسون ونخب من أطياف أخرى تتناقض معهم تقليدياً، على أنّ المواقف الداعمة للعدوان على غزة تغاضت عن أنّ حملة التطهير العرقي (كان) من شأنها، أن تتسبّب بتهجير قسري لأعداد غفيرة من الفلسطينيين نحو أوروبا وهو ما ترفضه القوى والأوساط اليمينية المتطرِّفة.

5 – رغم أنّ جمهور ما يُعرَف بـ”التيّار الديمقراطي التقدُّمي” في الولايات المتحدة يتبنّى عادة مواقف مناهضة للاحتلال الإسرائيلي، فإنّ مواقف إدارة بايدن أوقعت هذا التيّار في حرج، فهو من ناخبي الإدارة الأمريكية الحالية لكنّه يعارض سياستها الداعمة للعدوان على قطاع غزة. على أنّ نوّاب هذا التيار في الكونغرس لم يُظهِروا تماسُكاً ضدّ التحرّكات الداعمة للاحتلال في بعض المواقف، كما تجلّى مثلاً في التصويت الإجماعي في الحزب الديمقراطي لصالح قرار مجلس النواب يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 الذي صنّف معاداة الصهيونية ومناهضة كيان الاحتلال عداءً للسامية، باستثناء تحفُّظ النائب رشيدة طليب على القرار، بينما جاء الصوت الوحيد الذي عارض القرار من نائب جمهوري.

6 – كشفت التطوّرات عن فجوة واضحة بين تحرّكات الجماهير وتفاعلات المنصّات الشبكية وبعض التجمّعات في المجتمع المدني من جانب، ومواقف النخب السياسية والإعلامية في الوسط المجتمعي (Mainstream) من جانب آخر. من شأن هذا أن يعزِّز الاستنتاج بوجود انفصام بين النخبة والشارع، وبأنّ توجّهات النخب والواقع السياسي ومستويات صناعة القرار بشأن السياسات الخارجية تحديداً لا تستجيب لتحرّكات الميادين وآراء الجمهور والمضامين الشبكية ضد العدوان، وقد يُنظَر إلى هذه التحرّكات عندما تتعلّق بالسياسات الخارجية على أنها صادرة عن أوساط ناشطة أو فئات إثنية معيّنة وليست ممثلة لعموم الشعب، وتكتسب هذه الملاحظة أهمية زائدة في أوروبا القارِّية، من خلال الميْل الواضح في بعض البيئات الأوروبية إلى تصنيف التحرُّكات الجماهيرية ضد العدوان خلال الأسابيع الأولى على أنها “مظاهرات فلسطينية” ابتداء، ثمّ مع تعاظمها واتساعها صار يُشار إليها أحياناً على أنها مظاهرات يقوم بها “مهاجرون” و”لاجئون” و”مسلمون”، رغم أنّ ذلك لا يعبِّر عن الواقع غالباً، وأنها تشير إلى وجود “مجتمعات موازية”، وهو تعبير ذو دلالة إقصائية.

7 – برزت موجة اعتراضات داخلية وأخرى معلنة على نهج الانحياز للاحتلال الإسرائيلي وعدوانه على قطاع غزة الذي تتبعه حكومات ومؤسسات عامّة وأخرى إعلامية وثقافية في بلدان غربية. سُجِّلت، على سبيل المثال، اعتراضات من هذا النوع في مؤسسات تتبع الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والحكومة الهولندية من خلال رفع عرائض وتنظيم نشاطات وتقديم استقالات، لكنّ الحكومات والإدارات المعنية لم تعبِّر عن استجابة للمطالب والاعتراضات المعلنة في هذه التحرُّكات على الأغلب.

8 – سجّلت جماعات يهودية مناهضة للصهيونية والاحتلال الإسرائيلي حضوراً غير مسبوق في حجمه وزخمه ونوعيّته خلال حرب خريف وشتاء 2023، حيث برزت أدوار هذه الجماعات من خلال نشاطات ميدانية جريئة تواصلت بلا هوادة، بدءاً من احتلال مبنى يتبع الكونغرس الأمريكي يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول، وصولاً إلى فرض إغلاق جماهيري على جسور حيوية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال عيد الأنوار “حانوكا” في النصف الأول من ديسمبر/ كانون الأول. صنعت هذه التشكيلات الجماهيرية أحداثاً ميدانية متميِّزة في الشكل والرسائل، مثلاً عندما تخيّرت أماكن التظاهر وأشكاله بصفة فعّالة، مثلاً داخل مرافق تتبع الكونغرس الأمريكي، ومقابل البيت الأبيض، وحول تمثال الحرية بنيويورك، وقدّم أكاديميون وناشطون يهود مرافعات صارمة ضدّ حملة إبادة الشعب الفلسطيني في غزة من خلال منصّات إعلامية وشبكية وجماهيرية.

9 – يُلاحَظ أنّ بعض المنظمات والجمعيات والمراكز المسلمة والعربية في البيئات الأوروبية لم تعبِّر عن مواقف واضحة أو فاعلة أو تحاشت – من الناحية الرسمية على الأقلّ – الانخراط في موجة المظاهرات والفعاليات المنددة بالإبادة، بل إنّ بعض قياداتها عبّر عن مواقف غير منسجمة مع آراء جمهورها فرضخت لإملاءات إدانة المقاومة الفلسطينية بالتعبيرات النمطية الرائجة، على نحو أثار جدلاً محلياً[11]، مع ملاحظة التحسُّن النسبي الذي طرأ على بعض التعبيرات والمواقف لاحقاً. يُفهَم هذا التطوّر على أنّه جاء تحت وطأة حالة الضغط السياسي والإعلامي والأمني على الوجود المسلم والعربي بإصدار مواقف كهذه خلال الأيام والأسابيع الأولى للعدوان، ولوحظ مثل هذا من جانب بعض السياسيين من أصول عربية ومسلمة في بلدان أوروبية وغربية، خاصة بعد حدث السابع من أكتوبر/ تشرين أول، على أنّ بعضهم اكتفى بإدانة الحدث في البدء.

10 – برزت لدى المنحازين إلى الاحتلال والعدوان خشية واضحة من تأثير قادة رأي بارزين على اتجاهات الجمهور، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بتحوّل شخصيات بارزة تحظى بتقدير واسع إلى تأييد الحقوق الفلسطينية، من قبيل الناشطة البيئية الأبرز عالمياً غريتا تورنبرغ، التي تُعدّ رمزاً ملهماً لجيل الشباب في البلدان الغربية وحول العالم في سنّ المدرسة والجامعة. عبّرت حملة الذمّ والشيْطنة التي استهدفت تورنبرغ عن خشية من تمدّد الموجة الجماهيرية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني وصعود حالة التحوّل في المزاج الجماهيري إلى أوساط النخب والمؤثِّرين واكتسابها شرعية شعبية متزايدة ضاغطة على السياسات والمواقف الداعمة للاحتلال وسياساته واعتداءاته.

11 – كان من تفاعلات حرب خريف وشتاء 2023 تنامي اتجاهات التقييد والحظر على خلفية مناهضة الاحتلال الإسرائيلي، وشهدت بيئات أوروبية توسُّعاً في مساعي التضييق على حريّة التعبير والتظاهر من جانب السلطات خاصّة خلال أسابيع الحرب الأولى، وحُظرت مظاهرات في ألمانيا والنمسا وفرنسا مثلاً، وأفضت محاولات التقييد والحظر في البيئة البريطانية إلى الإطاحة بوزيرة الداخلية المقرّبة من الاحتلال الإسرائيلي، كما فُرِضت قيود في بعض الحالات على إظهار التعبيرات الثقافية والوطنية الفلسطينية. وانطلقت في ألمانيا تحذيرات للمتظاهرين ضد حرب الإبادة من إجراءات عقابية قد تمسّ بفرصهم في الحصول على اللجوء والإقامة والجنسية، وأعلنت السلطات في ألمانيا عن حظر مجموعة شبابية فلسطينية ناشطة[12]، وشنّت حملة مداهمات واسعة بحقّ شخصيات وناشطين فلسطينيين في المجتمع المدني ضدّ الاحتلال، كما أوقعت السلطات مخالفات على متظاهرين في عدد من البلدان الأوروبية بدعوى انتهاك قيود التظاهر والتعبير. وفي الولايات المتحدة اعتمد مجلس النواب قراراً غير مسبوق يعتبر مناهضة الصهيونية ودولة الاحتلال “عداءً للسامية”، ومن شأن ذلك أن يتسبّب بمزيد من التضييق على فرص التعبير في الواقع الأمريكي، بينما انطلقت موجة ضغط متعددة المستويات على الجامعات لإرغامها على حظر نشاطات مناهضة الاحتلال، وقد مسّ الأمر أبرز الجامعات الأمريكية تتقدّمها هارفارد.

12 – تأهّل ناشطون أفراد لمناجزة مواقف وسياسات ومنصّات ومؤسسات من خلال حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وأتاح ذلك فضاءً بديلاً عندما اقتصرت المنصّات السياسية ووسائل الإعلام على رواية محدّدة منحازة إلى الاحتلال والعدوان، حتى أنّ ناشطين شبكيين أحرزوا صعوداً قياسياً في المتابعات خلال أيّام معدودة من بدء الحرب، لأنّهم تصدّوْا لدعاية العدوان وفنّدوها أو أظهروا تهافتها.

13 – تميّزت حرب خريف وشتاء 2023 بكثافة غير مسبوقة في دعاية التضليل الداعمة للاحتلال وعدوانه، وتولّت منصّات وجهات إعلامية وحسابات شبكية وتعليقات إعلامية تفنيد هذه المزاعم المحبوكة واستعملت أدوات التحقُّق والتثبّت في مواجهتها. على أنّ الجانب الأعرض في التفاعل النقدي مع مضامين دعاية الاحتلال جاء من جانب الجمهور الذي مال إلى التهكّم على سذاجة الادعاءات التي دفع بها قادة الاحتلال والمعبِّرون عن دبلوماسيّته في الهيئات الدولية والمتحدِّثون باسم جيشه. وإذ شهدت حرب خريف وشتاء 2023 تطوُّراً ملحوظاً في تفنيد مزاعم دعاية الاحتلال، فإنّ هذا جاء في الأساس ردّ فعل على ضراوة الحملة الدعائية الداعمة للعدوان بدءاً من أيّامه الأولى، والتلقّف الواسع الذي حظيت به من منصّات السياسة والإعلام في الدول الغربية، رغم التزييف والافتعال التي تخللت تلك المزاعم، مع الاستفادة من تطوّر خبرات التحقُّق والتثبّت وبعض التقنيات المساعدة في ذلك. وبينما انطلقت المزاعم الدعائية بصفة مركزية، اتِّساقاً مع طبيعة منظومة الاحتلال الدعائية، فإنّ جهود التفنيد والردّ جاءت بصفة تفاعلية لا مركزية، وهو ما يمثِّل امتيازاً للجانب الفلسطيني في صراع الروايات.

14 – سجّلت تطوّرات حرب خريف وشتاء 2023 تأثيرات في المجال الثقافي والقيمي، من خلال صورة الإنسان الفلسطيني وهويّته الثقافية والأبعاد القيمية للحدث من جانب، وصورة الاحتلال ومجتمعه الاستيطاني العسكري ودلالات السياسات التقليدية الداعمة له. إنّ إدراك صمود الشعب الفلسطيني، الذي بدا لأوساط من الجمهور فريداً واستثنائياً وخارج نطاق التوقّعات المُسبقة لمجتمعات الحاضر؛ أحدث وقعاً خاصّاً لدى تلك الأوساط، وحفّز إعادة اكتشاف أبعاد قيمية وثقافية ودينية للمجتمع الفلسطيني بهويته العربية الإسلامية. في المقابل، فإنّ انكشاف تأثيرات مرئية ذات طابع وحشي لسياسات ومواقف يصنعها قادة دول ديمقراطية، أحدث وقعاً مزعزعاً لدى أوساط من الجماهير الغربية هالتها فظائع غزة ولم تسلِّم بالرواية الرسمية المعتمدة، وحرّكت تساؤلات عن خلفيّات المواقف المناهضة للسياسات الغربية في عالم الجنوب.

تصنيف الخطابات والمواقف:

تمايزت الخطابات والمواقف في البلدان الغربية من تطوّرات حرب خريف وشتاء 2023 على النحو التالي، الذي يتّضح في مضامين المواقف والمطالب والتعليقات، والمصطلحات المستخدمة، ووتيرة التعبير عن مواقف معيّنة، والشحنة العاطفية التي تتخلّلها أحياناً:

الخط الأوّل: إدانة شديدة شديدة اللهجة للهجوم الذي شنّته المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول على أهداف الاحتلال، وتبرير متواصل للعدوان على الشعب الفلسطيني والانحياز الواضح إلى الاحتلال بدرجة أو بأخرى، إلى حدّ التحريض ضد المتضامنين مع الشعب الفلسطيني أحياناً. وقد يُكتفى في هذا المقام باستنكار “عنف المستوطنين” في الضفة الغربية، لكن مع تحاشي أية إدانة لسلوك جنود الاحتلال في قطاع غزة أو في الضفة. تعبِّر مواقف الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والنمسا وتشيكيا، على سبيل المثال، عن هذا الخط.

الخط الثاني: إدانة هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (عملية “طوفان الأقصى”)، وتبرير العدوان على قطاع غزة، مع بعض التحفّظات أو الاستدراكات أحياناً. وقد يُستنكر في هذا السياق “عنف المستوطنين” في الضفة الغربية وتجاهُل سلوك جيش الاحتلال. ويعبِّر موقف هولندا، مثلاً، عن هذا الخطّ إلى حدّ ما.

الخط الثالث: إدانة هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وإظهار دعم عام للمبرِّرات المزعومة للعدوان على غزة، لكن مع إظهار قلق متزايد وانزعاج مما يقترفه الجيش الإسرائيلي، علاوة على استنكار “عنف المستوطنين” في الضفة الغربية. يعبِّر موقف فرنسا، على سبيل المثال، عن هذا الخط.

عبّرت معظم النخبة السياسية والشخصيات العامّة في البيئات الغربية عن الخطوط الثلاثة سابقة الذكر.

الخط الرابع: إدانة هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ومعارضة العدوان على قطاع غزة، أو الوقوف الواضح ضدّه بدرجة أو بأخرى، حيث عبّرت عن هذا الخط حكومات وشخصيات رسمية في إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا ومالطا واسكتلندا، علاوة على شخصيات وأوساط تُعدّ تقليدياً مناهضة للاحتلال الإسرائيلي ومتضامنة مع الشعب الفلسطيني لكنّها تتحاشى إظهار أي تضامن مع المقاومة الفلسطينية أو تتجنّب إصدار مواقف سياسية قد تُحسَب تأييداً لحركة “حماس” المصنّفة في الدول الغربية على أنّها “منظمة إرهابية”، ويمكن اعتبار موقف النائب في الكونغرس إلهان عمر تعبيراً عن هذا الخط.

الخط الخامس: تجنُّب إدانة هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من جانب، وتقديم توضيحات تحمِّل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية ذلك بالنظر إلى أسبقية الاحتلال والعدوان والحصار على الشعب الفلسطيني، ثمّ الوقوف الواضح ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه على غزة. وقد عبّرت عن هذا الخط معظم التجمّعات والأوساط التي انخرطت في فعاليات جماهيرية ضد العدوان منذ أيّامه الأولى، والعديد من المجموعات والشخصيات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، مثل المعارضة الإيرلندية (حزب “شين فين” وجمهوره) وشخصيات من أمثلتها المفكِّر الأمريكي اليهودي نورمن فنلكستين.

أنماط معارضة العدوان وإبداء التضامن

يتّضح أنّ معارضة العدوان والاحتلال، أو إبداء التضامن مع الشعب الفلسطيني لا يتّخذ نمطاً واحداً في البيئات الغربية، فالخطابات والمواقف تتعدّد على النحو التالي:

1 – الاعتراض على بعض جرائم الحرب التي يقترفها جيش الاحتلال، لكن دون إظهار معارضة واضحة أو صارمة للاحتلال ذاته.

2 – مناهضة الاحتلال مبدئياً، والاعتراض على سياساته واعتداءاته عموماً.

3 – مناهضة الاحتلال وسياساته واعتداءاته، وإظهار التضامن مع الشعب الفلسطيني، لكن من موقع الضحية وحسب.

4 – مناهضة الاحتلال وسياساته واعتداءاته وإظهار التضامن مع الشعب الفلسطيني، وإبداء التأييد و/أو التفهّم لنضاله ومقاومته المشروعة للاحتلال.

خلاصة واستنتاجات

تشهد العديد من البيئات الغربية صعوداً ملحوظاً أو جارفاً، في تعبيرات تأييد حقوق الشعب الفلسطيني ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي وحملة الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب في قطاع غزة خلال الربع الأخير من عام 2023، ويبدو هذا المنحى مرشّحاً لمزيد من التصاعد والزخم والتكتُّل مع استمرار العدوان، ومن شأنه أن يرتدّ بمزيد من الانتقادات والاعتراضات على السياسات الداعمة للاحتلال وحربه العدوانية، وجدير بالملاحظة أنّ التفاعلات الجارية ذات تأثيرات تتخطّى الانشغال بالأحداث، إلى منحى متعاظِم من المُساءلة السياسية والمبدئية والمراجعة القيمية والثقافية وإعادة اكتشاف قضايا وملفّات ذات صلة.

إنّ اتساع موجة التنديد بعدوان الاحتلال على الشعب الفلسطيني وجرائم الحرب البشعة التي يقترفها في قطاع غزة، يمثِّل متغيِّراً ضاغطاً على السياسات الغربية المنحازة إلى الاحتلال وعدوانه، مع التبايُن في ذلك بين بيئة غربية وأخرى.

بالرغم من التأثيرات المتعدِّدة التي تحرزها هذه التحرّكات الجماهيرية والقطاعية والتعبيرات الشبكية والثقافية الناقدة، إلاّ أنها لا تتأهّل وحدها لإحداث تغييرات جوهرية في الأمد القريب في السياسات الخارجية المعتمدة أو في مواقف الدول الغربية من قضية فلسطين ومن دعم كيان الاحتلال تحديداً، لكن من شأنها، مع عوامل ومُتغيِّرات أخرى، أن تُحَفِّز تغييرات نسبية في المواقف والتعبيرات السياسية. وبينما تميل توجّهات السياسة الخارجية للدول الغربية إلى الثبات بصفة تقليدية؛ فإنّ المعبِّرين عن هذه السياسة قد يحرصون على إظهار مواءمات شكلية وإبداء تغييرات جزئية ونسبية في مواقفهم وتعبيراتهم على نحو يحاول امتصاص انتقادات الجمهور واعتراضاته، حتى دون أن يمسّ ذلك جوهر الموقف السياسي في إطاره العامّ.


[1]  كاتب ومحلل في الشؤون الأوروبية والدولية

[2] Condemning Hamas’ terrorism should not be controversial: UK at the UN General Assembly. Press Release 27 October 2023.
https://www.gov.uk/government/news/condemning-hamas-terrorism-should-not-be-controversial-uk-at-the-un-general-assembly

British institutions must condemn Hamas terrorism. The Telegraph. 12 October 2023. 
https://www.telegraph.co.uk/opinion/2023/10/12/british-institutions-must-condemn-hamas-terrorism/

We should speak in one voice to condemn the despicable attack on Israel by Hamas. European People’s Party group, European Parliament, October 2023.
https://m.youtube.com/watch?v=T87lpuHVMAs

[3]  رفضت السلطات المحلية في عدد من الدول الأوروبية ترخيص طلبات تظاهر ضد العدوان على قطاع غزة، وجرى تبرير ذلك أحياناً بحجّة “معاداة السامية”، واضطرّ المتقدِّمون ببعض الطلبات إلى اللجوء إلى القضاء الذي أبطل الحظر أحياناً كما جرى على سبيل المثال في فرانكفورت مراراً. وفي هامبورغ حظرت السلطات المحلية التظاهر ضد العدوان إلى أن رفع القضاء هذا الحظر الشامل الذي امتدّ قرابة شهرين بعد دعاوى تلقّاها مع إبقاء إمكانية الحظر الانتقائي. وطوردت مظاهرات وتجمّعات جماهيرية ضد العدوان بردود فعل سياسية وإعلامية وشبكية من قبيل “تأييد الإرهاب والدعوة إلى تدمير دولة إسرائيل”.

[4]  يُلاحَظ مثلاً أن الفعاليات الجماهيرية في بعض البلدان والأقاليم ضمّت أغلبية من العرب والمسلمين بينما كانت بدت تنوُّعاً في بلدان وأقاليم أخرى، وبرز حضور الناشطين اليهود في بعض الفعاليات الجماهيرية النوعية في الولايات المتحدة، وتميّزت بعض العواصم والمدن بكثافة عددية قياسية في المظاهرات، مثل لندن وباريس وبعض المدن الاسكندنافية، وشهدت بلداناً ومناطق فعاليات جماهيرية نوعية من قبيل تكرار فعاليات الجلوس أرضاً في محطات الهولندية وأخرى على منوالها في بلدان أخرى.

[5] Many European nations ban pro-Palestine rallies despite right to freedom of expression
Anadolu Press Agency. 18. November 2023
https://www.aa.com.tr/en/europe/many-european-nations-ban-pro-palestine-rallies-despite-right-to-freedom-of-expression/3057875#

In France, Freedom of Speech Flouted and Repressed. Laurent Bonnefoy, OrientXXI, 17 November 2023.
https://orientxxi.info/magazine/in-france-freedom-of-speech-flouted-and-repressed,6883

وعن المحظورات في المظاهرات المؤيدة لفلسطين في ألمانيا انظر مثلا 
https://www.mdr.de/nachrichten/deutschland/politik/pro-palaestina-demonstration-verboten-illegal-100~amp.html

[6]  تعبِّر ردود الفعل الشديدة في فرنسا ضد لاعب كرة القدم الفرنسي البارز كريم بنزيما بسبب تعاطفه مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عن هذا المنحى. انظر مثلاً:

بنزيما في مرمى سياسيين فرنسيين بعد تعاطفه مع غزة، وكالة الأناضول، 20 أكتوبر 2023.

https://www.aa.com.tr/ar/الدول-العربية/بنزيما-في-مرمى-سياسيين-فرنسيين-بعد-تعاطفه-مع-غزة/3027163

ورصد الصحفي تيموثي بيلا في “واشنطن بوست” وقوع حالات إقالة من العمل خلال الأيام الأولى من العدوان مسّت أمريكيين لأنهم عبّروا عن انتقادات للاحتلال الإسرائيلي

Online posts about Israel-Gaza war are costing some people their jobs. Timothy Bella, Washington Post, 12 October 2023.
https://www.washingtonpost.com/world/2023/10/12/israel-gaza-war-social-media-job-firings/

[7] On the history, meaning, and power of “From the River To the Sea”. Elliott Colla, Monoweiss, 16 November 2023.
https://mondoweiss.net/2023/11/on-the-history-meaning-and-power-of-from-the-river-to-the-sea/

[8]  تجلّى ذلك في ذمّ إعلامي جارف لزعيمة هذه الحركة البيئية، الشابّة السويدية الشهيرة غريتا تورنبرغ، وإبراز ذلك على الأغلفة وفي صدارة التغطيات، وقد بلغ الذمّ حدّ الشيطنة في حسابات مواقع التواصل الاجتماعي الداعمة للاحتلال.

[9]  انظر مثلاً: حسام شاكر، اليمين الأوروبي المتطرف في صدارة “أصدقاء إسرائيل”، مقال، TRTعربي، 11 يونيو/ حزيران 2019.

https://www.trtarabi.com/opinion/اليمين-الأوروبي-المتطرف-في-صدارة-أصدقاء-إسرائيل-18736

[10]  من قبيل تعبيرات “الحضارة” و”التمدّن” و”الخير” و”النور”، في مواجهة “الوحشية” و”الظلام” و”الشرّ”، أو كما تجلّى في مقاطع وتصاميم دعائية توحي بأنّ الاحتلال هو السدّ المنيع في الدفاع عن أوروبا في وجه الإسلام/ التطرّف الإسلامي.

[11]  كما جرى بعد تصريحات أدلى بها رئيس “المجلس المركزي للمسلمين” ZMD في ألمانيا أيمن مزيك للمحطة الألمانية العامة الأولى ARD يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول

http://youtu.be/1R12sqkcCAM

وعميد “مسجد باريس” شمس الدين حفيظ لمحطة “بي إف إم” BFM  التلفزيونية يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول.
https://x.com/bfmtv/status/1717473101103895016?s=48&t=YWsvUxFu-Kr0fC7lzr2I9Q

[12]  أعلنت وزيرة الخارجية الألمانية يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 عن حظر منظمة “صامدون” بالإضافة إلى حظر حركة “حماس” في ألمانيا مع إجراءات متعددة مترتبة على ذلك.

https://www.zdf.de/nachrichten/politik/deutschland/faeser-verbot-samidoun-hamas-100.html


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى