تصاعدية الميدان وانعزالية المواقف السياسية الفلسطينية
سليمان بشارات[1]
شهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الحالي 2022، تصاعدًا واضحًا في حجم الاستهداف “الإسرائيلي” للفلسطينيين، إذ ارتقى خلالها ما يقارب 57 شهيدًا، إضافة إلى عشرات المعتقلين ومثلهم عشرات المصابين، فيما تصاعدت اعتداءات المستوطنين وانتهاكاتهم ضد المسجدين الإبراهيمي في الخليل، والأقصى في القدس المحتلة.
يتزامن هذا التصعيد مع ترقب تشكيل حكومة “إسرائيلية” “يمينية” متشددة برئاسة “بينامين نتنياهو”، ومرور الشارع الفلسطيني في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية، وانغلاق الأفق لحلها، حيث يتقاضى الموظف الحكومي للشهر الثاني عشر على التوالي 80% فقط من قيمة راتبه، وفي ظل ذلك، يبرز تساؤل عن المواقف السياسية الرسمية الفلسطينية مما يجري على الأرض؟ وما هي الأسباب أو العوامل التي تحول دون اتخاذ موقف واضح لكسر حالة الاستفراد المستمرة من قبل الاحتلال “الإسرائيلي” بحق الفلسطينيين، وعدم الاكتفاء ببيانات الإدانة والاستنكار؟
تصاعد الاستهداف:
تطبيقًا لسياسة “اليد الخفيفة على الزناد“، صعدت قوات الاحتلال “الإسرائيلي” من استهدافها للفلسطينيين في الشهرين الأخيرين من العام 2022، ففي 29تشرين ثاني/نوفمبر استشهد خمسة فلسطينيين في أقل من 24 ساعة في محافظتي رام الله وجنين، وبعد ذلك بأيام قليلة فقط في 8كانون أول/ديسمبر، استشهد خمسة آخرون في رام الله والخليل، ليبلغ عدد الشهداء الذين ارتقوا خلال شهري نوفمبر ومطلع ديسمبر نحو27 شهيدًا.
شهد شهر أكتوبر/تشرين الأول ارتقاء ثلاثين فلسطينيًا برصاص قوات الاحتلال في الضفة الغربية، بينهم تسعة أطفال، في واحد من أكثر الأشهر دمويةً منذ بداية العام الحالي، ويذكر أنه منذ بداية هذا العام لم يمر شهر دون ارتقاء شهداء، فقد استشهد 6 في كانون الثاني/ يناير، ومثلهم خلال شباط/ فبراير، و17 في آذار/ مارس، و23 ارتقوا خلال نيسان/ ابريل، كما استشهد 10 آخرون في أيار/مايو، و14 في حزيران/ يونيو، و8 خلال تموز/ يوليو و59 في آب/ أغسطس (غالبيتهم في العدوان على قطاع غزة)، و19 في أيلول/ سبتمبر.
شهدت البلدة القديمة في الخليل والمسجد الإبراهيمي اعتداءات واسعة من قبل آلاف المستوطنين، الذين استباحوا الحرم ودنسوه وسط طقوس دينية في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، بذريعة الاحتفال بـ”الأعياد اليهودية”، واعتدوا على الفلسطينيين ومنازلهم وممتلكاتهم ومركباتهم، إذ يعد هذا المشهد خارجاً عن المألوف من حيث أعداد المستوطنين المشاركين، وحجم الاعتداءات التي نُفذت، فيما وثّقت الأوقاف الفلسطينية منع الاحتلال رفع الأذان في الحرم الإبراهيمي سبعة وخمسين مرة خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول فقط.
أمّا في مدينة القدس المحتلة؛ فقد رصد تقرير صادر عن محافظة القدس اقتحام نحو 4148 مستوطنًا باحات المسجد المُبارك بحماية مشددة من قوات الاحتلال “الإسرائيلي” الخاصة، خلال شهر اكتوبر/تشرين الأول، فيما وثق اقتحام قرابة تسعين ألف مستوطن تحت مسمى “سيّاح”، كما نفذ الاحتلال اثنتي عشرة عملية هدم في المحافظة، تسع منها نفذتها آليات الاحتلال، وثلاث عمليات هدم أخرى نُفّذت بشكل قسري بعد إجبار الاحتلال على ذلك، بالإضافة إلى ثلاث عمليات حفر وتجريف، وأصدر الاحتلال اثني عشر قرار إبعاد عن الأقصى والقدس القديمة.
التحذير من نقطة الغليان:
حذرت الأمم المتحدة في ظل الأوضاع المستمرة في الضفة من أنّ الصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني وصل مرةً أخرى إلى نقطة الغليان، وتحدثت مفوضية حقوق الإنسان عن مخاوف من احتمال استئناف عمليات “القتل المستهدف غير القانونية على يد القوات الإسرائيلية” في الضفة، كما حذرت الجامعة العربية من أنّ تصاعد “العنف” منذ مطلع العام الجاري، ينذر بانفجار الأوضاع إن لم “يُلجم الانفلات الإسرائيلي”، مطالبةً بالتدخل لحماية المدنيين في الأراضي المحتلة، ووقف آلة القتل “الإسرائيلية”، كما أدانت قطر بشدة اقتحام مئات المستوطنين المسجد الأقصى، معتبرةً ذلك انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، واستفزازاً لمشاعر المسلمين حول العالم، أمّا وزارة الخارجية الأردنية؛ فقد استنكرت بشدة “حملة التصعيد العسكرية “الإسرائيلية”، التي تنذر بتفجر دوامة جديدة من العنف ، والتي سيدفع الجميع ثمنها”، كذلك حذر البرلمان العربي من أنّ التصعيد “الإسرائيلي” في الضفة من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من “موجات العنف وتفجير الأوضاع، مما يعرض الأمن والسلم في المنطقة للخطر”.
انعزالية الموقف الفلسطيني:
جاءت المواقف الرسمية الفلسطينية أشبه ما تكون منعزلةً عن الواقع واحتياجاته، وكذلك عن المخاوف والتحذيرات التي عبرت عنها المواقف العربية والإقليمية والدولية؛ بسبب استمرارية النهج “الإسرائيلي” في الضفة، وقد جاءت تلك المواقف بشكل موازٍ لتصاعد الانتهاكات “الإسرائيلية”؛ ففي وقت يتطلب فيه أن تكون المواقفٌ على الأرض، ركزت غالبية التصريحات الرسمية على الإدانة والاستنكار، أو مطالبة بعض الأطراف الضغط على الاحتلال لخفض حالة التصعيد، فقد طالبت الرئاسة الفلسطينية الولايات المتحدة “بتدخل لوقف التصعيد “الإسرائيلي” في الضفة”، أمّا رئيس الحكومة محمد اشتيه؛ فقد طالب دول العالم بالتدخل العاجل لوقف ولجم آلة القتل “الإسرائيلية”، ومحاسبة الجناة، إضافةً إلى إرسال فرق حماية دولية من الأمم المتحدة، في ظل تصاعد الهجمة “الإسرائيلية” بحق الشعب الفلسطيني.
يمكن الانطلاق من عدة عوامل؛ في محاولةٍ لفهم السلوك السياسي؛ للمواقف الرسمية الفلسطينية على النحو التالي:
- المكاسب الشخصية مقدمة على الهم الوطني: يُرجع البعض تراجع المواقف السياسية تجاه ما يجري على الأرض إلى خوف الشخصيات السياسية على الامتيازات التي حظيت بها من الاحتلال، من بينها بطاقات الـ VIP والـ BMC، وهو ما يجعل هذه الشخصيات تنخرط بشكل أو بآخر ضمن تهدئة الميدان لا زيادة وتيرته.
- الرضوخ للضغط “الإسرائيلي“: استطاع الاحتلال “الإسرائيلي” إحكام سيطرته على مفاصل الحياة السياسية والميدانية في الضفة الغربية، والتحكم بأموال المقاصة والمنافذ التجارية والاقتصادية، إضافةً إلى حملة الامتيازات التي يقدمها للشخصيات البارزة، كل ذلك جعل من الاحتلال طرفًا مؤثراً في عدم قدرة القيادة السياسية الفلسطينية على التماهي مع المطالب الشعبية، أو الاستجابة إلى التطورات الميدانية، أو القدرة على اتخاذ قرارات يمكن أن يترتب عليها خطوات عقابية “إسرائيلية”، وهذا الأمر برز في عدم القدرة على تطبيق توصيات المجلس المركزي الفلسطيني، سواءً فيما يتعلق بوقف التعامل بالاتفاقيات، أو وقف التنسيق الأمني.
- عدم الرغبة في التصعيد الميداني: تشير كثيرٌ من المعطيات إلى أنّ السلطة الفلسطينية غير معنية بأي شكل من أشكال التصعيد الميداني؛ لخوفها من تحمل مسؤولية أيّ تصعيد محتمل ينتج عن خطابها التصعيدي، خاصةً في ظل تلميحات “إسرائيلية” بين الفترة والأخرى من استهداف الرئيس أبي مازن، والذي يعيد إلى ذكريات القيادة السياسية ما جرى مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وبالتالي ربما هناك خشيةٌ من ذات المصير إذا ما انغُمِسَ بالعمل الميداني، وهذا يلتقي مع ما يطرحه الاحتلال من إمكانية منح السلطة الفلسطينية فرصةً للتعامل مع الواقع، من خلال محاولة استقطاب العناصر المسلحة ضمن الأجهزة الأمنية.
- الحراك السياسي في الظل، وتهيئة المرحلة السياسية المقبلة: هناك من يرى أنّ هناك حراكًا سياسيًا فلسطينيًا في الظل، تقوم عليه بعض أركان القيادة السياسية الفلسطينية، مهمته تهيئة الأجواء لأي متغيرات سياسية أو ميدانية مقبلة، أو في حال غياب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهذا التحرك يبقى بعيدًا عن الخروج إلى العلن حتى لا يتأثر بأي معطيات أخرى، وهذا هو نفس الحراك الذي يحاول منع أيّ تصعيد لمواجهة انتهاكات الاحتلال، وبالتالي هناك سعي لإبقاء حالة الهدوء الميداني، وهذا يتطلب المحافظة على مستوى متدن من المواقف السياسية فلسطينيًا.
- هشاشة البيئة السياسية: يشكل عدم تفعيل المؤسسات التي يقع على كاهلها إعادة إحياء المشروع الوطني الجمعي في الوقت الحالي واحدة من أهم هذه العوامل، فغياب منظمة التحرير ومؤسساتها، وكذلك الانغماس لدى الفصائل والأحزاب في واقع استمرارية الانقسام السياسي، وغياب الروح الديمقراطية في إعادة الانتخابات للمجلس التشريعي، هذه كله يجعل البيئة السياسية الفلسطينية تقف على أعتاب الخوف من الخوض في أي مواجهة مع الاحتلال؛ لأن ذلك من شأنه أن يفقد العديد من الأطراف أو الشخوص الامتيازات التي حصلوا عليها في ظل حالة الهدوء المستمرة.
نتج عن هذه العوامل مظاهر تمثلت في:
- غياب النخب وحضور الشارع: عززت حالة غياب النخب السياسية والفكرية والمجتمعية في الضفة الغربية من حضور البعد الجماهيري الشعبي، وجعلته يتقدم في مواجهته للاعتداءات “الإسرائيلية”، فيما لم تستطع القيادات السياسية اتخاذ خطوات موازية لهذا التقدم، الذي هو نتاج غيابها المسبق عن الشارع، وارتفاع سقف طموح الجماهير، وهذا ربما يفسر أيضًا عدم الاكتراث الشعبي للتصريحات والمواقف الإعلامية للقيادات السياسية، أو انتظار أيٍّ من المواقف السياسية التقليدية التي باتت مفرغة من مضمونها العملي.
- تشوه العلاقة وتناقضاتها: ما بين القيادة السياسية والشارع: جعل القيادة تشعر بحالة انعزال شبه تام، وعدم القدرة على الانسجام مع الاحتياج الفعلي، والاكتفاء بحالة المراقبة من جانب، أو انتظار أي متغيرات على الأرض يمكن لها أن تنعش الثقة للقيادة لقبولها كما كان في السابق.
الخلاصة:
إن استمرارية البيئة السياسية الفلسطينية وفقًا للمعطيات الحالية، من شأنه أن يعزز حالة التغول “الإسرائيلي” تجاه الفلسطينيين، لا سيما أنَّ تركيبة الحكومة “الإسرائيلية” الجديدة تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى الاتجاه نحو فرض خارطة جديدة ميدانيًا، سواءً من خلال تعزيز الوجود الاستيطاني في الضفة، أو إمكانية الذهاب باتجاه خطوات أكثر عدائية فيما يتعلق بالمسجد الأقصى، وبالتالي فإنَّ غياب حالة الحسم في المواقف السياسية الفلسطينية الرسمية، ستكون نتيجته إمّا منح الاحتلال الضوء لمزيد من الخطوات التي ستكون لصالحه، وفي الاتجاه المقابل قد يعزز هذا الأمر الهبة الشعبية الفلسطينية إمّا من خلال تعزيز النمط الحالي من وجود الجماعات المقاومة المتمثلة في كتيبتي جنين وعرين الأسود وغيرها من المسميات، أو الانخراط في جولة تصعيد جديد قد تكون فصائل المقاومة في غزة جزء منها، أضف إلى ذلك، فإن السلطة الفلسطينية يمكن أن تفقد كثيرًا من التأثير الميداني، بحيث يستغل الاحتلال هذا الضعف في سحب مزيد من الصلاحيات وتحويلها إلى إطار خدماتي إداري مفرغ من الشكل السياسي.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله