تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة.. قراءة في المواقف والقدرة على الاستمرارية

أ. سليمان بشارات[1]

في 14 مارس/آذار، كلف الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الدكتور محمد مصطفى بتشكيل الحكومة الفلسطينية 19، بعد قبوله استقالة الحكومة ال18 برئاسة الدكتور محمد اشتيه التي استمرت قرابة 5 أعوام، وسط جدل واسع حول أدائها على المستويين الاقتصادي والسياسي، وعدم قدرتها على تلبية رغبات الشارع الفلسطيني؛ لاسيما في قدرتها على إحداث اختراق بملف المصالحة والوحدة الداخلية والانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال كما وعدت.

إنَّ استقالة حكومة اشتية وتكليف محمد مصطفى بتشكيل حكومة جديدة، قد قفز بنقاشات الفلسطينيين إلى توقيت الإعلان في ظل الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة التي شارفت على نهاية شهرها السادس على التوالي، انطلاقًا من الحاجة الفلسطينية إلى حالة وحدة كما عبر عن ذلك اشتيه في كتاب استقالة حكومته حيث قال: إنّ المرحلة المقبلة “تحتاج إلى ترتيبات سياسية حكومية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التطورات في قطاع غزة، ومحادثات الوحدة الوطنية، والحاجة الملحة إلى تحقيق توافق فلسطيني يستند إلى أساس وطني، ومشاركة واسعة، ووحدة الصف، وبسط السلطة على كامل أرض فلسطين”.

سرعان ما تبدد هذا الأمل الشعبي، بعد أن أعلن عن تكليف مصطفى بتشكيل حكومة تكنوقراط، غالبية شخصياتها بعيدة عن الحياة السياسية، وشُكِلَت دون الانخراط بحوار وطني توافقي، الأمر الذي يطرح سؤالين يحاول التقرير الإجابة عنهما: ما هو مصير الحكومة ال19 وما قدرتها على الاستمرارية في ظل الكثير من العقبات التي تلوح بالأفق؟ وما قدرتها على ملاءمة برنامجها مع الاستحقاقات السياسية الوطنية والدولية؟

مواقف متباينة

ما إن صدر كتاب تكليف الحكومة الجديدة، حتى بدأت الكثير من المواقف بالصعود من قبل الفصائل والقوى الفلسطينية، فقد عبرت كل من حركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الجهاد الإسلامي والمبادرة الوطنية الفلسطينية، في بيان مشترك، أنّ تشكيل حكومة فلسطينية جديدة “دون توافق وطني” يُعمّق الانقسام ويعبر عن “أزمة في قيادة السلطة والفجوة بينها وبين الشعب الفلسطيني وتطلعاته”، وقالت الفصائل إنَّ الأولوية حاليًا “لمواجهة العدوان “الإسرائيلي” وحرب الإبادة والتجويع” التي يشنها الاحتلال على القطاع.

من جهتها، ردت حركة فتح على بيان حماس والفصائل الأخرى، ببيان، استهجنت فيه موقف حركة حماس وباقي الفصائل من الحديث عن “التفرد والانقسام” من قبل الرئيس عباس، وقالت إنَّ “المفصول الحقيقي عن الواقع وعن الشعب الفلسطيني هي قيادة حماس التي لم تشعر حتى هذه اللحظة بحجم الكارثة التي يعيشها شعبنا المظلوم”، إلّا أَنّ  بيان فتح الذي هاجمت به حركة حماس أثار حالة من الجدل داخل أوساط فتح نفسها، وبين طبقة من المثقفين والناشطين السياسيين، كما أظهر الحديث عن إمكانية أن تشكل هذه الحرب فرصة لتقارب وجهات النظر وإمكانية إنهاء الانقسام الممتد منذ ما يزيد عن 17 عاماً، بالأمر غير الواقعي في هذه المحطة، فالأزمة بين الحركتين رغم حرب غزة قد لا تنجح في ردم الصدع بينهما.

من جانبها، طالبت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بحوار توافقي لتشكيل حكومة تستجيب لمتطلبات المرحلة، وفي مقدمتها إنهاء الحرب على غزة وكسر الحصار المفروض عليها، وتأطير العمل المقاوم وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية.

أمَّا على الصعيد الدولي؛ فقد رحب منسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط “تور وينسلاند”، بهذا التكليف، واعتبره “جاء في الوقت المناسب”، كما رحب ممثل الاتحاد الأوروبي لدى دولة فلسطين “ألكسندر ستوتزمان”، بذلك معربًا عن تطلعه إلى العمل بشكل وثيق لمواجهة التحديات الكبيرة المقبلة، وعبرت روسيا، عن أملها بأن تقوم الحكومة الجديدة بمهامها بشكل فعّال في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ذات الإطار رحبت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا والنرويج بهذه الخطوة.

إنَّ اللافت في المواقف الدولية، تصريح الولايات المتحدة الأمريكية الذي جاء على لسان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي “أدريان واتسون” و”حضَّ فيه على تشكيل حكومة إصلاحية في أقرب وقت ممكن”، و أنَّ “الولايات المتحدة تتطلع لأن تتمكن هذه الحكومة الجديدة من تنفيذ السياسات وإجراء إصلاحات ذات مصداقية وفي العمق”، وهو ما قد يُعد تلميحًا في ضرورة الاستجابة للمطالب الأمريكية بما أطلق عليه بـ”السلطة المتجددة” التي تأتي استجابة للمطالب الأمريكية.

وجوه جديدة

لأول مرة تشهد تركيبة الحكومة الفلسطينية تغييرًا شبه كامل، فقد اعتاد الفلسطينيون في السنوات العشرين الماضية على أن يعاد اختيار كثير من الوجوه ويتكرر تكليفها رغم تغيير الحكومات، فعلى سبيل المثال: كانت وزارة المالية والخارجية والشؤون الاجتماعية من الوزارات التي لم يطرأ أي تغيير على أسماء من يتولى حقائبها في الحكومات الثلاث أو الأربع الماضية، بينما جاءت تركيبة الحكومة الجديدة بتغيير كامل الوجوه، إذا ما استثنينا وزير الداخلية الذي لم يمض على تولي حقيبته سوى عامين فقط، الأمر الذي قد يعد تغييرًا ليس فقط في مهام الحكومة، بل أيضًا في النهج وطريقة الاختيار التي اعتمد فيها الترشيح لتولي حقائبها.

يُلاحظ عند التمعن بقائمة الوزراء الجدد، وفقًا لتشكيلة الحكومة بعد أدائها اليمين أمام الرئيس عباس، بأنَّ غالبية الوزراء من خلفيات أكاديمية ومهنية، ولم تنخرط في العمل السياسي المباشر سابقًا، الأمر الذي يعد مغايرًا لما شهدته حكومات التكنوقراط السابقة، التي كانت تضم بين جنباتها شخصيات بارزة في حركة فتح وبعض التيارات اليسارية، فحركة فتح، التي تمثل المرجعية الأساسية للحكومات المتعاقبة، والتي كان لها دور كبير في ترشيح واختيار وزرائها، يبدو أنّها بدأت تفقد هذا التأثير المباشر، وأنّ دائرة الاختيار ربما أصبحت أضيق مما كان عليه بالسابق.

تحديات كبرى

يأتي تشكيل الحكومة ال19، في ظل بيئة مركبة من التحديات التي تحيط بها، الأمر الذي سيجعلها في مهمة محفوفة بالكثير من المخاطر التي ستطرح سؤال جوهري حول قدرتها على الاستمرارية، فإعادة تحليل العمر الزمني للحكومات الفلسطينية المتعاقبة، أظهر أنّها تتأثر بكثير من العوامل والمعطيات والتحديات، وهذا ما قد تواجهه الحكومة الجديدة حيث يمكن أن تتمثل أبرز هذه التحديات في:

المرجعية السياسية الحاضنة: ما زال المجتمع الفلسطيني وتركيبته المجتمعية تحت حالة الاستقطاب السياسي، وتأثير الأحزاب والتنظيمات على سيرورة العمل المؤسسي الرسمي والأهلي، وبالتالي فإنَّ المراهنة على حالة الانفكاك عن هذه المرجعية لن يكون سهلًا في إطار إدارة أية حكومة فلسطينية جديدة، فعلى الرغم من محاولة تقديم نماذج سابقة من هذا الإطار ابتداءً بالحكومة الفلسطينية التي شكلها سلام فياض عقب أحداث الانقسام، مرورًا بحكومة الحمد لله، فإنّها فشلت في تخطي تأثير التنظيمات الفلسطينية خصوصًا حركتي فتح وحماس، وبالعودة إلى حكومتي فياض والحمد لله، ورغم أنهما حظيتا بمباركة من حركة فتح عند تشكليهما، إلا أنّهما أيضًا تعرضتا لانتقادات شديدة من الحركة نفسها فيما بعد، بل ساهمت فتح بشكل أو بآخر على شيطنتهما في أيامهما الأخيرة، وبالتالي فإنّ المراهنة على أنّ الحكومة الجديدة قد تكون بمنأى عن النقد السياسي أو التأثير الحزبي يُعد أمرًا غير واقعي، لا سيما أنّها تأتي في ظل ظروف ميدانية قد تتغير، بما قد تفرضه مجريات الحرب على قطاع غزة، وتبعاتها السياسية فلسطينيًا وإقليميًا وربما دوليًا.

الأزمة الاقتصادية والمالية: ترث حكومة محمد مصطفى أزمة مقاصة مع الاحتلال “الإسرائيلي”، بدأت تتراكم منذ عهد الحكومة الـ 17 مرورًا بالحكومة ال18، وبقاء أزمة جباية أموال المقاصة بذات الشكل، والاقتطاعات “الإسرائيلية” منها يمثل أزمة مرتقبة ستواجهها الحكومة الجديدة، لا سيما أنّ أموال المقاصة تشكل بين 60 – 65 بالمئة من مجمل الدخل للحكومة الفلسطينية، والنسبة المتبقية جبايات ضريبية محلية ومنح خارجية وهي أيضا غير ثابته ومتأرجحة؛ تأثًرا بالأوضاع السياسية والاقتصادية المحلية والدولية، كما أثرت هذه الأزمة على رواتب الموظفين الحكوميين الذين يتقاضون هذه الرواتب، وبسبب تراجع المداخيل المالية، يرث مصطفى أزمة أجور القطاع العام، ما نسبته من 60-80% فقط من رواتبهم منذ نوفمبر2021. يضاف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية المرتبطة بالحرب على غزة وتبعاتها، بعد أن دمر الاحتلال “الإسرائيلي” اقتصاد القطاع.

إدارة قطاع غزة وأفق الوحدة الداخلية: لعلَّ أبرز التحديات التي ستواجهها الحكومة تتمثل في قدرتها على الانخراط في عملية إدارة قطاع غزة ما بعد الحرب، باعتبار أنَّ اليوم التالي للحرب ستكون خاضعة لمظلة سياسية وليس إدارية بحتة، فالمنظور الشعبي والجماهيري الفلسطيني، وكذلك الحال التنظيمات والفصائل لن تتعاطى بإيجابية مع ما قد يكون نموذج عملية فرض لإدارة القطاع من خارج حالة التوافق الوطني الفلسطيني، بل يمكن أن ينظر لأي طرف قد يقدم على هذه الخطوة ضمن تنفيذ الأجندات الأمريكية “الإسرائيلية”، وهذا قد لا تقبله الحكومة على نفسها بأن توسم بأنّها “وكيل” لتنفيذ الرؤية الأمريكية “الإسرائيلية”؛ ولهذا السبب ستكون الحكومة أمام امتحان صعب في هذا الإطار، وقد يحدد مستقبل بقائها، وبالتالي فقدانها لثقة الجمهور والشارع الفلسطيني أو مواجهتها لضغوط كبيرة قد تفضي إلى إزاحتها عن المشهد، ولهذا يتضح أنّ مهمة هذه الحكومة فيما يتعلق بقطاع غزة، ستكون حساسة على المستوى الشامل للحكومة، وعلى المستوى الشخصي للوزراء الذين تتضمنهم، والذين قد ترتبط أسماؤهم بملفات حساسة لا سيما في البعد الوطني المرتبط بالحرب على غزة وما قد ينتج عنها.

أضف إلى ذلك تحدي ملف إعمار غزة: يُشكل واحدًا من أكبر التحديات التي ستواجه الحكومة الجديدة، وذلك من خلال بعدين أساسيين؛ الأول قدرتها على تجنيد أموال الإعمار في ظل استمرارية انغلاق الأفق لمستقبل الحرب، وطبيعة التبعات المترتبة عليها، والمدة الزمانية التي يمكن أن تبقى حاضرة، والثاني قد تتحول أموال الإعمار إلى ما يمكن أن يشبه حالة الابتزاز السياسي؛ ما يعني أنَّ الحكومة ستكون ضمن دائرة الانتقاد الفلسطيني، في أيّ قرارات قد تتخذ بعيدًا عن التوافق الفلسطيني.

المواجهة مع “إسرائيل”: عمدت “إسرائيل” على مدار السنوات الماضية، وفي عهد الحكومتين ال17 وال18 على كسر الكثير من القواعد الأساسية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال، خصوصا مع انتهاك سيادة المدن الفلسطينية الواقعة تحت السيطرة الأمنية والسياسية والإدارية الفلسطينية، وهو ما أظهر الحكومات الفلسطينية السابقة بأنّها فاقدة لقدرتها على توفير أبسط مقومات الحماية للمواطنين الفلسطينيين، خصوصًا في ظل الهجمات التي كان ينفذها المستوطنون بحقهم، وكذلك الأمر صعود ملف رواتب عائلات الأسرى والشهداء للواجهة واستخدامه كورقة ضغط وتبرير للسياسات “الإسرائيلية”، وفي مقابل ذلك تظهر “إسرائيل” الحكومات الفلسطينية المتلاحقة على أنّها ملزمة بتنفيذ ما يرتبط باتفاقيات السلام، وفي توفير الحماية للاحتلال عبر “التنسيق الأمني”؛ الأمر الذي يخلق تحديًا كبيرًا لها ما بين تنصل الاحتلال من الاستحقاقات المطلوبة منه، وما بين محاولة تنفيذ الاستحقاقات الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من أنَّ الحكومة الجديدة ترى في نفسها أنّها حكومة خبراء، وليست حكومة سياسية فإنّها لن تستطيع الهروب من مثل هذه العراقيل التي قد يفرضها الاحتلال، وهو ما قد يخلق حالة مواجهة مع الاحتلال “الإسرائيلي”.

الخلاصة

شكلَّ ضرورة إعادة تشكيل الحكومة الفلسطينية مطلبًا شعبيًا ووطنيًا على مدار السنوات الماضية، وبرزت المطالب وتصاعدت مع بداية الحرب على قطاع غزة نظرًا لضرورة إنشاء حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ وطنية يمكن أن تسند إليها الكثير من المهام، وفي مقدمتها محاولة توفير سبل ومقومات إغاثة وصمود للمواطنين، إلا أنّ تشكيل الحكومة ال19 لم تحظ بالإجماع الفلسطيني، بل تشكلت كحل سعى الرئيس عباس من خلاله إلى تلبية المطالب الدولية؛ بتحقق حالة التجديد والإصلاح في مؤسسات السلطة، وبذات الوقت استطاع أن يشكلها بما يبقي صلاحياتها بين يديه، وهو ما يعني أنّها ستسير وسط حقل من الألغام، الأمر الذي قد يجعل من مستقبلها رهينة لأي تطورات ميدانية أو سياسية فلسطينية أو إقليمية أو دولية، ويجعل منها حكومة أمر واقع قد تتغير وفقًا لتغير هذا الواقع، وهذا من شأنه أن يبقي سقف التوقعات من قبل المواطن الفلسطيني منها محدودًا، باعتبارها قد لا تمتلك الإرادة السياسية الكاملة، إلى جانب الإمكانيات الاقتصادية والقدرة في التأثير على المعادلة المعقدة فلسطينيًا في ظل الحرب وتبعاتها، وكذلك الأمر التبعات السياسية لهذه المرحلة.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى