تراجع الذهب عالميًا وانعكاساته على الاقتصاد الفلسطيني
شهدت أسواق الذهب عالميًا حالة من التراجع في الشهور الأخيرة من العام الحالي 2022 بعدما وصل إلى قمة سعره في العامين 2020 و2021، ليطرح مجموعة من التساؤلات حول هذا السلوك في قيمته بالسوق العالمي، وطبيعة العوامل المؤثرة في سعره بهذا التوقيت وانعكاساتها.
يحاول مركز رؤية للتنمية السياسية، اسطنبول، ومن خلال خبراء اقتصاديين، البحث عن إجابة لمجموعة من الأسئلة تتمثل في إن كانت الحرب الروسية – الأوكرانية هي المسبب الرئيس لانخفاض أسعار الذهب، أم أن هذا الانخفاض متوقع خلال فترة التعافي التي يمر بها الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا؟ وإلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا الانخفاض عالميًا خلال الفترات القادمة؟ وما طبيعة تأثر الاقتصاد الفلسطيني بهذا الانخفاض، وبالتالي انعكاسه على نسبة الطلب عليه محليًا؟ وكيف يمكن أن يتعامل الفلسطينيون مع ذلك؟ وما هي قدرة سلطة النقد على الاحتفاظ باحتياطيّ كافٍ من الذهب في حال ازداد الطلب عليه؟
يمكن تلخيص أبرز الاستنتاجات على آراء الخبراء بالتالي:
- يعزى تراجع سعر الذهب في الأسواق العالمية لعدّة عوامل، يجمع الخبراء على أن ارتفاع سعر صرف الدولار نتاج رفع نسبة الفائدة هو العامل الأهم والأساس.
- تأتي الحرب الأوكرانية الروسية وتداعياتها بالمرتبة الثانية من العوامل الهامة في تغيير سعر الذهب.
- تشير التوقعات إلى احتمالات استمرار انخفاض الذهب خلال الفترة الحالية؛ نتاج استمرار رفع الفائدة على الدولار من قبل البنك المركزي الأمريكي.
- احتمالات تأثر الاقتصاد الفلسطيني بنزول سعر الذهب قليلة جدًا، لعدة اعتبارات من بينها: التعامل مع الذهب لحاجة ادخاريّة وليست تجاريّة. .
- لا تحتفظ سلطة النقد الفلسطينية بالذهب كاحتياطي؛ لأنها لا تمارس السياسة النقدية، وإذا كان هناك تراكم من الذهب لدى سلطة النقد فهو يتمثل بما يعرف بالاحتياطي الإلزامي، الذي تودعه البنوك لدى سلطة النقد فقط.
وفيما يلي النص الكامل لمشاركات الخبراء:
د. هازرول ايزوان شهيري، خبير اقتصادي ورئيس برنامج بكالوريوس الاقتصاد في الجامعة الوطنية في ماليزيا
غالبًا ما تتشكل علاقة عكسية بين سعر الذهب ونمو الاقتصاد؛ فخلال الازدهار الاقتصادي يمكن أن نشهد انخفاضًا في سعر الذهب عالميًا. ولكن خلال فترة الركود سيبحث الناس عن الأصول الآمنة مثل الذهب، وبالتالي يرتفع سعره. وهذا هو السبب الكامن خلف ارتفاع أسعاره عالميًا خلال جائحة كورونا في العامين السابقين، حيث إن الذهب كغيره من السلع، يخضع للعرض والطلب.
من جهة أخرى، تعتبر فترة ما بعد الجائحة فترة انتعاش للاقتصاد، إذ يبحث الناس عن المزيد من الأصول عالية المخاطر التي من شأنها أن توفر عائدًا أعلى (مثل الدولار)، وهذا هو سبب التراجع الحالي لسعر الذهب في جميع أنحاء العالم.
د. نصر عبد الكريم، أستاذ الاقتصاد الجامعة العربية الأمريكية.
باعتقادي أن هناك تقاطعًا بين مجموعة من العوامل التي أدت إلى هذا الانخفاض المتتابع لأسعار الذهب عالميًا، فقد شكلت الحرب الأوكرانية الروسية، بداية اندلاعها، هاجسًا قويًا، باعتبار روسيا من الدول المنتجة للذهب، وإمكانية أن تنزلق هذه الحرب إلى حالة أوسع عالميًا، وعندما بدأت الحالة تهدأ بدأت درجات المخاطر تقل، وبالتالي انخفضت أسواق المضاربات التي شجعت على نزول الذهب. إضافةً إلى تزايد صعود الدولار بسبب ارتفاع أسعار الفائدة؛ ممّا دفع المستثمرين للذهاب إلى الدولار كونه سيصبح جاذبًا أكثر ويمنح عائدًا عاليًا، وبالتالي يفتح شهية المستثمرين. عدا عن أن الذهب كان يمثّل الملاذ الأكثر أمنا في جائحة كورونا، بينما الآن أصبح الدولار هو الملاذ.
ممّا سبق، يتّضح أنّ الذهب متّجه إلى التراجع والانخفاض إلى مستويات أدنى ممّا وصل إليه، خاصّة في ظل استمرار ارتفاع الفائدة على الدولار، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية.
أمّا حول مدى تأثير ذلك على الاقتصاد الفلسطيني، فأعتقد أن اقتصادنا مرتبط أكثر بالسوق الإسرائيلي منه بالأسواق العالمية، بمعنى أن ّطبيعة التأثير والتأثر تأخذ منحنى مختلفًا من أي أسواق أخرى، كون الذهب في فلسطين مرتبطًا بالسلوكيات وبالاحتياج وليس بالسوق، وهناك قلة فقط من النخبة من يرتبط الذهب عندها بالحالة الاستثمارية، من خلال شراء الأونصات وإعادة بيعها فيما بعد. وهذا ما يشكل الاختلاف ما بين الحالة الفلسطينية والعالمية في مفهوم التجارة بالذهب، فالسوق الفلسطيني يعتمد على الذهب المُصنّع وليس السبائك.
لم تفصح سلطة النقد الفلسطينية إن كان لديها رؤية حول مفهوم وجود الاحتياطي من الذهب، وفي حال لجوئها لهذا الأمر، فسيكون في إطار ضمان الودائع، ما يعني عدم وجود مفهوم الاحتياطي من الذهب الداعم للعملة؛ لعدم وجود العملة الخاصة أساسًا.
د. بكر اشتيه، أستاذ الاقتصاد بجامعة النجاح الوطنية، عضو الأمانة العامة لاتحاد الاقتصاديين الفلسطينيين.
المتعارف عليه أن هناك علاقة عكسية ما بين سعر صرف الدولار، وأسعار الذهب، فكلما ارتفع سعر صرف الدولار انخفض الذهب، لأنهما الخياران اللذان يعتمد عليهما المستثمرون عالميًا. بالتالي، في حال ارتفاع الدولار كما يحدث الآن، فإن شهية المستثمرين تنفتح بشكل أكبر على الدولار أكثر من الذهب، وبالتالي الذهاب لعملية تسييل الذهب، بمعنى تحويله إلى سيولة نقدية من خلال البيع وشراء الدولار الذي يمكن أن يحقق مرابح في هذا الوقت. باعتقادي هذا هو السبب الرئيس لانخفاض الذهب؛ كون العالم لديه فائض من العملة النقدية التي تكدست في ظل جائحة كورونا، وأحدثت حالة التضخم، وللتخلص منها بدأت عمليات المعالجة من خلال رفع أسعار الفائدة للاحتياطي النقدي الفدرالي الأمريكي، وبالتالي فإن الارتفاع بأسعار الدولار يمثل حالة صحية وعلاج لمشكلة التضخم.
وإذا ما استمرت السياسات المالية الأمريكية في رفع أسعار الفائدة حتى نهاية السنة، فإننا سنشهد مزيدًا من الارتفاع على سعر صرف الدولار وهو ما يقابله انخفاض سعر الذهب، وبذات الوقت لا نستطيع تحديد إن كان الأمر سيستمر على ما هو عليه، باعتبار أن السياسات المالية للولايات المتحدة الأمريكية حتى اللحظة غير واضحة الاتجاه في العام المقبل.
أمّا الأثر فلسطينيًا، فلن يكون ظاهرًا كثيرًا، باعتبار أن الذهب يعتمد على حالة ادخارية وليست تجارية، ولهذا السبب يمكن أن نقسم قطاع سوق الذهب في فلسطين إلى قسمين؛ الأول: قطاع مقتني الذهب، وهو هنا في غالبه اقتناء إما نتيجة فائض نقدي، وبالتالي من يشتريه غير مضطر لبيعه الآن، ويمكن أن يبقى عنده لفترات طويلة يعود من خلالها ارتفاع سعره، فلا يخسر فيه. القسم الثاني: تجار الذهب، وهم أصحاب محال الصياغة، البائعين وهم الأكثر كسبًا ومنفعة؛ كون نسبة الإقبال على الشراء ستكون أعلى من المرحلة السابقة، لأن انخفاض الأسعار يشجع الناس على الشراء وبالتالي يُكسب التجار.
أما ما يتعلق بسلطة النقد الفلسطينية، فباعتقادي أننا لم نصل لمرحلة الترف النقدي فلسطينيًا الذي يمكّن سلطة النقد من شراء احتياطي من الذهب؛ لأن الضائقة المالية الموجودة فلسطينيًا لن تسمح بهذا الشيء.
د. عمر عبد الرازق، وزير المالية السابق، وأستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية.
يعتبر الذهب أصلًا استثماريًا وليس بالسلعة العادية، وعليه فإنه يتنافس في الأسواق العالمية في عمليات المضاربة المالية مع العملات الصعبة والأسهم والسندات، إضافة إلى تنافسه مع النفط الذي يعتبره الكثيرون أصلا استثماريًا. وعند محاولة قراءة العوامل المؤثرة في انخفاض سعر الذهب يتطلب استحضار عدة نقاط:
- حالة عدم اليقين التي تعيشها الأسواق المالية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، ما أدى إلى ارتفاع الإقبال على الذهب وارتفاع سعره. في المقابل التدهور الاقتصادي العالمي الذي في العادة يؤدي إلى انخفاض الطلب بسبب انخفاض الدخل، وبالتالي انخفاض سعر الذهب.
- تفاوت التراجع الاقتصادي والتباطؤ في الاقتصاد الأمريكي أعطى ميزة نسبية للمضاربة على الدولار بعيدًا عن الذهب والعملات الصعبة الأخرى (اليورو والين والإسترليني)، كما أنّ ارتفاع سعر النفط الناجم عن الحرب وتبعاتها أدى إلى إقبال المضاربين على النفط، وابتعادهم عن الذهب ولو قليلًا.
- لجوء بعض الحكومات إلى بيع بعض احتياطيها من الذهب؛ لتمويل التزاماتها تجاه الحرب والاستعداد للقادم، وتمويل العجز الناجم عن زيادة النفقات العامة بسبب الحرب، وبالتالي زيادة المعروض من الذهب وانخفاض سعره.
- ارتفاع سعر الذهب في السنوات الماضية جعل الاستثمار في التنقيب عن الذهب واستخراجه أكثر جدوى، الأمر الذي شجع الإنتاج وأدى إلى ارتفاع المعروض، وهو ما أدى لعملية عكسية بانخفاض السعر فيما بعد.
وبالتالي، فإن ّاستمرارية انخفاض سعر الذهب تعتمد على تطورات الحرب واتساعها من عدمه، وعلى التطورات الاقتصادية ومدى عمق الأزمة الاقتصادية وعمق الركود الاقتصادي الحالي.
فيما يتعلق بتأثير ذلك على الاقتصاد الفلسطيني، قد يكون من الصعب إعطاء جواب تفصيلي بهذا الاتجاه؛ لحاجتنا إلى بيانات هي بالأساس غير متاحة حاليًا، ولكن أعتقد أن الطلب على الذهب تراجع في السنتين السابقتين بسبب ارتفاع سعره، لكن خلال هذه الفترة قد نشهد إقبالًا أكبر عليه؛ لأن الذهب في الأراضي الفلسطينية يستخدم كأصل حافظ للقيمة وليس للمضاربة، ويلجأ إليه الفلسطينيون (ببيعه للحصول على سيولة) في حالات الحصار والتراجع الاقتصادي فقط، أي عند الحاجة. كما أن السوق الفلسطيني غير منتج للذهب، وحصة الذهب في الثروة الفلسطينية بشكل عام قليلة وليست ذات بال، لهذا يبقى التأثير في تغيرات السعر محدودًا جدًا.
قد نشهد زيادة في الطلب على الذهب فلسطينيًا خلال المرحلة المقبل، لكن ليس بدرجة كبيرة، حيث إن الدخل الفلسطيني حاليًا ضعف نتاج سياسات الاحتلال، وبسبب الأوضاع الاقتصادية العالمية.
سلطة النقد الفلسطينية لا تحتفظ بالذهب كاحتياطي؛ لأنها لا تمارس السياسة النقدية، حيث إنها بحسب اتفاق باريس لا تبلغ درجة البنك المركزي، ومهمتها الرئيسة الرقابة على البنوك والتأكد من أنها تلتزم بالقوانين المحلية والدولية في أدائها، والمحافظة على كفاءة الجهاز المصرفي. إذا كان هناك تراكم من الذهب لدى سلطة النقد فإنه يتمثل بما يعرف بالاحتياطي الإلزامي الذي تودعه البنوك لدى سلطة النقد فقط.
د. قاسم عوض، محاضر في كلية الأعمال والاقتصاد، جامعة القدس.
لا أعتقد أن الحرب هي السبب في انخفاض أسعار الذهب، فعادة ما ترتفع أسعار الذهب في الحروب. الحقيقة أن سعر الذهب انخفض لسببين، الأول هو التعافي بعد الكورونا، أما السبب الأكثر أهمية فيتمثل بحالة تاريخية أن هناك ميلًا لارتفاع الأسعار باستمرار كل ١٠ إلى ١٥ سنة، وهو ما يدفع كبار المستثمرين إلى عملية تدخُّل مباشِرة تجعلهم يتحكمون بسعر البيع ضمن نطاقات معينة.
يعتبر الذهب في فلسطين موروثًا اجتماعيًا، ويُحتفظ به للأزمات، وكملاذ أخير عند انعدام توفر السيولة. ومن المعروف أن السلطة الفلسطينية لا تسيطر على سوق الذهب، وتحكمها به قليل، وهناك خلاف جوهري حول الموقف من الذهب فلسطينيًا، هل هو نقد ويعامل معاملة النقد أم سلعة يتحكم بها العرض والطلب؟.
أما فيما يتعلق بسلطة النقد، فهي لا تمتلك رصيدًا من العملات سوى محتجزات البنوك، ورغبتها في استبدال الدولار بالذهب أو عملة أخرى مسألة ليست واضحة، وأشك أن يكون هناك سياسة أو رؤية واضحة لهذا الموضوع، فهذا قرار سيادي لا أعتقد أن سلطة النقد لديها القدرة على اتخاذه في ظل عدم ملكيتها لأي عملة. وسيبقى السوق الفلسطيني تواقًا لاقتناء الذهب والاحتماء به.
باعتقادي أن الاتجاه العام لسعر الذهب هو صعود مستمر مع محطات موسمية فيها تراجع مؤقت كل ١٠ -١٥ سنة تقريبًا، ولذلك سوف يعود سعر الذهب للصعود ربما مع بداية العام القادم، وذلك بسبب التضخم وانخفاض القيمة الشرائية لجميع العملات الرئيسة.
د. رابح مرار، مدير البحوث في معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).
لا أعتقد أن الحرب الروسية الأوكرانية هي السبب في انخفاض سعر الذهب، بل على العكس، فإن اندلاعها عمل على رفع سعره، وإنما السبب الرئيس أن البنوك المركزية في العالم رفعت نسب الفوائد، وهناك علاقة عكسية ما بين رفع نسبة الفائدة وسعر الذهب. وبالتالي فإن استمرار انخفاض سعر الذهب سيعتمد على توجهات البنوك المركزية للمرحلة المقبلة، وبالأخص الفدرالي الأمريكي الذي سيكون لديه اجتماع في نوفمبر وديسمبر المقبلين، وبناء عليه تتضح إلى أي حد ستكون نسبة الفائدة، فأي نزول للذهب الآن يُعتبر فرصة للشراء.
أمّا تأثير انخفاض الذهب على الاقتصاد الفلسطيني، فباعتقادي لا تأثير له عليه، ولكن قد يزداد الطلب على شرائه، وهذا ما يجعل باعة الذهب يرفعون أسعار البيع بفارق 100 دولار تقريبًا عن سعر البيع الأساس. ونلمس في هذه المرحلة إقبالًا كبيرًا على شراء الذهب من قبل المواطنين.
أما فيما يتعلق بسلطة النقد الفلسطينية، فمن المفترض أنّها تعمل كبنك مركزي، وبالتالي يجب أن يكون جزء من احتياطها من الذهب. هذا وفقًا لرؤية السياسات النقدية، وكوننا لا نمتلك عملة خاصة بنا، فإنّ الاحتياطي سيكون ضمن العملات الرسمية الأخرى، ويتوجب أن يكون جزء من هذا الاحتياطي ذهبًا، على أن يكون بطريقة حذرة جدًا؛ كون الذهب أداة أو عملة لا تعطي مردودًا كباقي العملات.