تجليات انهيار السلطة الفلسطينية: سيناريو يحدث فعلاً

منذ سنوات يتردد سيناريو انهيار السلطة الفلسطينية في النقاش العام الفلسطيني، وحتّى الإقليمي، نظرًا إلى جملة الأزمات التي تعاني منها السلطة، من بينها أزمتها المالية، الناتجة عن تراجع الدعم الدولي والعربي لموازنتها إلى نسب متواضعة، إضافةً إلى “أزمة المقاصة”، التي أصبحت العصب الأساسي لموازنتها، في ظلّ اقتطاع سلطات الاحتلال المستمر مبالغ كبيرة منها، واحتجازها أحيانًا، وهو أمر يترافق مع سياسة متواصلة للقضم المستمر من صلاحياتها، وتهميشها، وحصر غاية وجودها في كونها “مقاول من الباطن” نيابةً عن الاحتلال.

لذلك؛ لم تتمكّن السلطة من دفع رواتب موظفيها كاملة منذ عام 2019، إلا لأشهر معدودة، أيّ حالةً استثنائيةً، ما يعتبر من أبرز أوجه أزمة السلطة، وهي أزمة ألقت بظلالها على المجتمع الفلسطيني في الضفّة الغربية، وجعلت مصير السلطة موضع تساؤل ونقاش دائم. مع أنّ أزمة السلطة المالية تعد مسألةً روتينيةً منذ نشأتها، فإنّها أخذت مناحي أخرى في ظلّ التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة، بدايةً من تهميش القضية الفلسطينية في السياسة الإقليمية، وموجة “السلام الإبراهيمي” منذ عام 2020، وصولًا إلى قدوم الحكومة الإسرائيلية السابعة والثلاثين في مطلع عام 2023.

فمع تلك الحكومة أصبح سيناريو انهيار السلطة أكثر احتماليةً، بسبب تركيبة الحكومة المتطرفة، وتبوء التيارات الصهيونية والدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش، والكاهانية (عوتسما يهوديت) بزعامة إيتمار بن غفير مناصب حساسةً في الحكومة، تمكّنهم من تطبيق السياسات التي كانوا ينادون بها سابقًا، خصوصًا مع توقيع الاتّفاقيات الائتلافية، التي أظهرت بوضوح برنامج الحكومة.

في ظلّ ذلك ظهرت خطة الحسم لسموتريتش على السطح، بعد أن ظلّت مغمورةً منذ عام 2017، وفي افتراضنا أن تلك الخطة لم تُقرأ فلسطينيًا جيدًا، ولا فهمت أهدافها أيضًا جيدًا، وعليه فإنّه من المهم أن نوضح جوهر فكرة الحسم الذي هو إنهاء وجود الشعب الفلسطيني من حيث كونه شعبًا، وهذا الجوهر قائم على افتراض صهيوني أن “الشعب الفلسطيني” هو اختراع متأخر، إذ يرى سموتريتش في خطته أن “الصراع متأصل بتطور مفهوم “الشعب الفلسطيني”، الذي هو ليس إلّا حركةً مناقضةً للحركة الصهيونية، هذه ماهيته وسبب وجوده، كما أنّ هذا الشعب لم يكن موجودًا قبل نشأة المشروع الصهيوني”.

أما بقية الخطة فهي آليات لتطبيق ذلك الجوهر، وبطبيعة الحال فإنّ تلك الآليات نابعة من اعتبار أنّ خياري الإبادة الجماعية والتهجير (هذا صحيح حتّى السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023) قد لا يمكن تطبيقهما، وإن كان الخيار الثاني هو المفضل والمرغوب صهيونيًا. وفي ضوء أن الهدف الأساسي هو إنهاء وجود الشعب الفلسطيني أو تفكيكه، فقد طرح سموتريتش فكرة إنهاء وجود السلطة، وتحويلها إلى إدارات محلية ذات صبغة حكم عشائري، من دون أيّ هوية جمعية تعبر عن وجود تمثّيل جمعي لذلك الشعب. في السياق ذاته؛ فإنّ مشكلة السلطة الفلسطينية ليست في أنّها “معادية” لإسرائيل، كما يشيع في خطاب المستوطنين، أو أنّها مقصرة في أداء وظيفتها الأمنية، وتحمل أعباء الاحتلال المدنية والإدارية، إنّما في كونها جسم يعبّر عن وجود جماعة بشرية تحمل صفة “شعب”.

كانت السلطة، وما زالت، حتّى في ظل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، ومساعي الضمّ والتهجير الحثيثة في الضفّة الغربية، وحتّى مساعي إنهاء السلطة نفسها، محافظةً على وظيفتها الأمنية وتوابعها، رغم عجزها عن توفير رواتب موظفيها! لكن تنتمي السلطة ضمن التصور الذي يحمله سموتريتش إلى برادايم سياسي آخر، هو “إدارة الصراع”، وقد أوضح أن خطته تهدف إلى إيجاد برادايم سياسي جديد للصراع، هو “الحسم”، الذي لن يكون للسلطة أيّ دور في إطاره.

من المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ خطة سموتريتش ليست سوى اجترار متأخر لرؤية الصهيونية لمستقبل الصراع، وبصورة أكثر رسمية فهي طرح اليمين الصهيوني بشقيه القومي والديني منذ أواخر التسعينيات على أقلّ تقدير. يكفي أن نعرف أن ما جاء به سموتريتش، خصوصًا السياسات والأهداف التي تنادي بها الخطة، هو نفسه برنامج حزب الاتّحاد القومي منذ أن تأسس عام 1999، وهو الحزب الذي أصبح سموتريتش زعيمه قبل أن يتحول إلى الصهيونية الدينية. وهي أيضًا أطروحة ينادي بها المستشرق الصهيوني القذر مردخاي كيدار منذ مطلع الألفية، وهي أيضًا متطابقة تمامًا مع خطة موشيه فايغلين، مؤسس حزب “زهوت”، وغيرها من الخطط والتصورات الصهيونية، التي أجمعت على فكرة إنهاء السلطة، وتحويلها إلى كانتونات/ إدارات/ بانتوستونات/ إمارات، حسب مصطلحات كلّ خطة.

بعد حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، أصبح المشروع الصهيوني أمام فرصة تاريخية حقيقية لتطبيق فكرة الحسم، ليس في ما يتعلق بقطاع غزّة وحده، إنّما في الضفّة الغربية أيضًا، ففكرة الاستمرار بإدارة الصراع أصبحت غير مقبولة بالمطلق إسرائيليًا، وهي إحدى أبرز المثالب التّي وجهت إلى الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة، خصوصًا حكومات بنيامين نتنياهو، الذي كان لصيقًا بفكرة إدارة الصراع طوال سنوات حكمه.

فقد أصبحت العقلية الإسرائيلية مهووسة بفكرة “الحسم”، فبالتوازي مع الإبادة الجماعية ومخططات التهجير في قطاع غزّة، تحدث تحولات عميقة في الضفّة الغربية تشير بوضوح إلى أنّها تهدف إلى تهيئة الأرضية لضمها للسيادة الإسرائيلية وإعادة توزيع السكان فيها، من خلال التهجير الداخلي، خصوصًا من مناطق “ج” و”ب”، نحو مراكز المدن، أي “أ”، التي ستشكل الإدارات المحلية التي يسعى الاحتلال استبدالها بالسلطة الفلسطينية. في هذا الإطار فإنّ تفكيك السلطة، وإنهاء وجودها هي مسألة مفروغ منها إسرائيليًا، وفي تقديرنا فإنّ “النصر المطلق”، الذي يريده الاحتلال، الذي يعني جزئيًا إنهاء القضية الفلسطينية، لن يتم إلّا بضمّ الضفّة وإنهاء السلطة، بطبيعة الحال، على اعتباره ضرورةً لإنهاء الحرب.

مع تصاعد الحديث عن ضرورة إصلاح السلطة وتجديدها في بدايات الحرب، برزت مجموعة من التصورات الإسرائيلية حول معنى هذا التجديد والإصلاح، منها على سبيل المثال ورقة موقف صادرة عن معهد القدس للاستراتيجية والأمن، من إعداد كوبي ميخائيل وغابي سيبوني، في 2023/11/29 بعنوان “عكس الوجهة – من قطاع غزّة إلى الضفّة الغربية”. يوضح فيها الكاتبان الهدف النهائي لمعنى السلطة المتجددة، بأن تتحول إلى “إدارات مدنية”، وليس إدارة واحدة، تشمل تقسيم الضفّة الغربية إلى إدارات منفصلة عدّة، تديرها هيئات تكنوقراط، من دون أيّة صلاحيات سياسية، وبسيطرة أمنية كاملة للاحتلال، وصولاً إلى إنهاء القضية الفلسطينية. وبالتفصيل؛ هناك توصيات بإنهاء “أونروا” والمخيّمات الفلسطينية، وإدخال تغيرات جوهرية على مناهج التعليم الفلسطينية، وغيرها من القضايا التفصيلية، التي تهدف إلى تفكيك الشعب الفلسطيني، وليس السلطة فحسب. هذه الأمور، التي ليست بالضرورة تنفيذًا لمخرجات مراكز سياسات معينة، قد أصبحنا في خضمّها، ونتابع تطوراتها يومًا بيوم.

ما تشهده الضفّة الغربية من تسارع محموم في المشروع الاستيطاني، بجوانبه كلّها، وما يبرز على السطح من أخبار ومداولات حول ترتيبات مع شخصيات عشائرية لإنشاء إمارات/ إدارات في مراكز المدن، إضافةً إلى التهجير الصامت، الذي يحدث في الضفّة، وما يستتبع ذلك من تآكل مستمر في منظومة السلطة الفلسطينية، سواء في ما يتعلق بصلاحياتها، أم سيطرتها المتراجعة على مناطق كانت تخضع لها إداريًا حسب اتّفاق أوسلو، أي مناطق “ب”، أم عدم قدرتها على تشغيل الحكومة تشغيلاً كاملاً، وبدء العام الدراسي وغير ذلك الكثير؛ هي أمور تشير إلى أن سيناريو انهيار السلطة لم يعد أمرًا متوقعًا أو مرتقب الحدوث، بل سيناريو معاش حاليًا، ويسير بالتوازي مع التغيرات الجوهرية التي تجري على الأرض في الضفة الغربية.

من المهمّ الإشارة إلى أنّ “الحسم” قد طبق عكسيًا، ليس كما جاء في ترتيب سموتريتش في خطته، وأهمّية معرفة ذلك تنبع من ضرورة إدراك الواقع المعاش حاليًا، الذي ساهمت السلطة في صناعته. فخطة سموتريتش تقوم على مرحلتين/ مستويين أساسيين، الأول الضمّ الفوري والكامل للضفّة الغربية، وبناء مستوطنات وبنية تحتية ضخمة تجعلها جزءًا من “إسرائيل”، وتشجيع مئات الآلاف من المستوطنين على الانتقال إليها. المستوى الثاني؛ التعامل مع الفلسطينيين في الضفّة الغربية بناءً على الخيارات الثلاثة المطروحة: الهجرة، الإدارات المحلية، الحرب، وهذه الخيارات الثلاثة متزامنة وليست متتابعة. ولكن الخيار الثالث كان موجهًا لمن سيرفض ويقاوم الضمّ والتهجير والتفكيك، أيّ في الوقت الذي تنشغل فيه إسرائيل بضمّ الضفّة الغربية وتفكيكها فإنّها ستنزع للقضاء على أيّة مقاومة فعلية أو ممكنة.

الذي يحدث الآن هو عكس ذلك، فقد ذهبت إسرائيل إلى الحرب في قطاع غزّة والضفّة الغربية، والمنطقة عامةً، للقضاء على من يمكن أن يكونوا عائقًا أمام الضمّ والتهجير، أي حركات المقاومة. وفي ضوء أنّها وصلت إلى مرحلة من تحييد حركات المقاومة وبواعثها، فإنً الطريق قد غدا مفتوحًا أمام حسم الصراع، بما يشمل التهجير والضمّ وتفكيك الضفّة الغربية إلى إدارات على شكل محطات اعتقال مؤقت لحين توفر إمكانية التهجير.

مختصر القول، أنَ سيناريو انهيار السلطة ليس هو الإشكالية بحدّ ذاته، ولو كان انهيارها في ظروف أخرى لربما كان في مصلحة الشعب الفلسطيني، وهي التي شكّلت عبئًا عليه، وذخرًا للاحتلال طوال سنوات وجودها، لكن انهيارها الحاصل حاليًا هو جزء من مشهد تصفية القضية الفلسطينية، وحسم الصراع، وإنهاء الوجود الفلسطيني ماديًا ومعنويًا. وما سيحل بالشعب الفلسطيني عقب ذلك، فنحن نشاهده ونتابعه يوميًا، ويعلن عنه قادة الاحتلال صراحةً وفي مؤتمرات علنية، وفي تقديرنا، فإن الذي يعجز عن منع تهجير تجمع بدوي لا يتجاوز عدد سكانه 150 نسمة، لن يكون قادرًا على منع سيناريوهات أكبر.

نُشرت هذه المادّة على موقع “العربي الجديد” .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى