تأثير خطة الإصلاح القضائي على اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي
رغد عزام1
وسط عاصفة من الاحتجاجات والمظاهرات العارمة التي شهدها الاحتلال الإسرائيلي خلال الفترة الماضية، بعد نية حكومة نتنياهو إجراء تعديلات قضائية تشمل تقليص صلاحيات المحكمة العليا وتمكين البرلمان من نقض قراراتها، أصبح السوق الإسرائيلي عرضة للتذبذبات الاقتصادية بعد أن ساده حالة من عدم اليقين، مما دفع جملة من المستثمرين للهروب باستثماراتهم ورؤوس أموالهم لتفادي المخاطر الاقتصادية المتوقعة. يأتي ذلك في ظل الترقب الحذر من احتمالية اختلال قاعدة الفصل الديمقراطي بين السلطات، و تنامي الخوف من تداعيات سلسلة القوانين الجديدة، التي ستتم المصادقة عليها لاحقا من قِبل حكومة نتنياهو، على نزاهة السلطة القضائية. ولا يكاد يخفى على أحد التبعات الناتجة عن زعزعة الاستقرار السياسي والأمني وتضاؤل ثقة الشعب بحكومته وارتفاع وتيرة السخط العام، على الحالة الاقتصادية في أي بلد وعلى ثقة المستثمرين المحليين والأجانب. إذ تشير العديد من الدراسات([1]) إلى أن الحوكمة الاقتصادية بما يشمل السيطرة على مؤشرات الفساد هي أحد أهم ركائز التنمية الاقتصادية ومن الشروط الرئيسية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
وتسعى هذه الإصلاحات لإجراء تغييرات جذرية في هيكلية السلطة القضائية من خلال الحد من صلاحيات المحكمة العليا وتشريع قانون “فقرة التغلب”، والتي تقضي بتقويض قرارات المحكمة العليا فيما يتعلق بإلغاء قوانين للكنيست أو للحكومة أو للمؤسسة الأمنية والعسكرية، من خلال تصويت أغلبية عادية في الكنيست (61 عضوا) على قرارات المحكمة. كذلك تهدف الإصلاحات إلى تمكين الحكومة والأحزاب السياسية من التحكم في تحديد أعضاء لجنة اختيار القضاة، على أن تكون اللجنة مكونة من أعضاء سياسيين من الأحزاب دون إشراك أيٍ من القضاة في عضويتها. و تقضي القرارات بالحد من صلاحيات المستشاريين القضائيين للحكومة ولمختلف وزارات الدولة، وبالتالي فإن كل وزير له صلاحية تعيين وإقالة المستشار القضائي في وزارته.
يعتمد الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير على الاستثمارات الأجنبية والتي بلغت حوالي 114.30 مليار دولار في عام 2022([2]). ويتربع على عرش هذه الاستثمارات قطاع الهايتك (التكنولوجيا الفائقة) الذي يشكل أحد أهم مصارد الدخل الأجنبي لدى الاحتلال وهو محرك النمو الأساسي للاقتصاد الإسرائيلي، فقد هددت شركات الهايتك بسحب استثماراتها الحالية لدى الاحتلال وأقدمت بعضها على الانسحاب فعليا([3]). تجدر الإشارة هنا إلى أنه في عام 2021 بلغ ناتج قطاعات الهايتك 237 مليار شيكل (حوالي 65 مليار دولار بالأسعار الجارية)، ومثلت حصتها النسبية من إجمالي الناتج المحلي للاحتلال الإسرائيلي حوالي 15.3%. علاوة على ذلك، تجاوزت صادرات هذا القطاع عتبة النصف من إجمالي صادرات الاحتلال لتبلغ 54٪ وتشكل حوالي 67 مليار دولار، فيما تشكل نسبة العاملين في قطاع الهايتك خلال ذات العام 10.4% من إجمالي القوى العاملة لدى الاحتلال الإسرائيلي([4]). ما يعني أن الإجراءات المتسرعة لحكومة نتنياهو والتي ستقوض استقلال القضاء وتستخدمه لأغراض سياسية قد تكلف خسائر مادية هائلة على المدى المتوسط والبعيد.
وبالتالي فإن الإيرادات المتوقعة للاقتصاد الإسرائيلي ستتأثر بشكل مباشر في حال استمرت وتيرة التوتر الأمني والسياسي، وسينعكس ذلك على نموه. وهذا ما حذرت منه “شيرا غرينبرغ”، كبيرة الخبراء الاقتصاديين في وزارة المالية لدى حكومة الاحتلال، معتبرةً أن إقرار القوانين الجديدة سيشكل “عامل خطر” على نمو الاقتصاد. وفي وقتٍ سابق، تحدثت قناة N12 العبرية في تقرير لها بأن عدد من شركات الاستثمار تلقت مزيدا من الاستفسارات مؤخرا من مستثمرين حول إمكانية تحويل استثماراتهم إلى الخارج وفتح حسابات مصرفية في مكان آخر بعيدا عن هذه المخاطر([5])، فمع أن الإصلاحات القانونية لم تدخل حيز التنفيذ بعد ولم يتم إقرار أي قانون جديد، إلا أن التغيرات بدأت تظهر على سوق الأموال الإسرائيلية، وهذا ما تعكسه البورصة الإسرائيلية والتي أظهرت استجابة سريعة للأخبار، فبمجرد الإعلان عن نية البرلمان المصادقة على التشريعات الجديدة انخفض سوق الأسهم بنسبة 2.5% إلى 3% ([6]).
وفي حال تمكنت حكومة نتنياهو من تمرير التشريع دون تمكن المعارضة من إسقاطه فستزيد سيطرة أعضاء البرلمان على قرارات المحكمة العليا، وبالتالي فإنه من المتوقع أن تنعكس تبعات ذلك على التصنيف الائتماني لدولة الاحتلال، بحيث يعتمد التصنيف الائتماني بين الدول على مدى استقلال البنك المركزي والنظام القضائي والضوابط التي تحد من تفرد السلطة باتخاذ القرارات. وعلى الرغم من أن تصنيف الاعتماد المصرفي الحالي لدولة الاحتلال مستقر ومُشجع للاستثمار، إلا أن التغيرات القضائية ستكون ضارة بالتقييمات وستخفض من جدارته الائتمانية وسيكون لها تأثير كبير على تكاليف الاقتراض في البلاد، عدا عن تضرر مكانتها عالمياً كمركز مستقر للاستثمار. وفي هذا السياق قام باحثين في “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” بالبحث في تبعات وعواقب هذه الإصلاحات من خلال مشاهدات مماثلة في دول أخرى أجرت تعديلات وإصلاحات قضائية مشابهة تم فيها تقليص المراجعة القضائية وأصبحت فيها الحكومات تتمتع بكامل القوة، وقد دلل الباحثين على انخفاض التصنيف الائتماني لهنغاريا وبولندا بعد أن أقرّتا إصلاحات تستهدف الجهاز القضائي، ولم تتمكنا بعدها من رفع مؤشر التصنيف الائتماني لديهما، وأردف الباحثان بأن الفرق هو أن بولندا وهنغاريا هم أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن التأثير عليهما يكون محدود ويحد من قدرتهما على تقويض النظام الديمقراطي واستقلال المؤسسات، أما حكومة الاحتلال فهي تتحرك دون وجود إطار خارجي يضمن مكانتها الاقتصادية واعتمادها الدولي، ما يدل على أن المخاطر ستكون أكبر([7]).
وتتوالى التحذيرات من خبراء ومختصين إسرائيليين ودوليين من عاقبة الخطوة التي ستقدم عليها الحكومة بعد المصادقة عليها في الكنيست، فقد حذر المعهد المالي الإمريكي JPMorgan من خطورة هذه الخطوة على الاستثمار الأجنبي لدى الاحتلال، والتي بدورها ستقلل من احتمالية ضخ أموال المستثمرين في السوق الإسرائيلي وستدفع رؤوس الأموال للمغادرة وإيجاد ملاذ آخر آمن للاستثمار. وقد كتب أكثر من 50 خبيرا واقتصاديا بارزا في جامعات أمريكية رسالة إلى رئيس وزراء حكومة الاحتلال، مفادها أن النمو الاقتصادي الإسرائيلي سيتضرر في حال تمت إعادة هيكلة السلطة القضائية[8]. وفي 14 فبراير المنصرم اجتمع وزير المالية الإسرائيلي برؤساء البنوك الإسرائيلية المحلية والأجنبية، وقد حذر رؤساء البنوك خلال الاجتماع – الذي وصفته صحيفة يدعوت أحرنوت بالمتوتر- من توقع بداية أزمة ستُضعف الشيكل أمام العملات الأخرى وستُسبب تراجعاً في سوق الأسهم، حيث اتسمت أسعار الصرف بتقلبات عالية خلال الفترة الماضية. وقد حذروا خلال الاجتماع من أن تدفق الأموال نحو الخارج أصبح بوتيرة متسارعة خلال الفترة القليلة الماضية. مؤخرا، وخلال اجتماع الكنيست الإسرائيلي ليلة 20 فيراير، طلب وزير الخارجية الإسرائيلي من وزير المالية التدخل في أنشطة بنك إسرائيل ووقف رفع أسعار الفائدة في ضوء اعتدال التضخم، في حين رد محافظ بنك إسرائيل البروفيسور أمير يارون بأن “التضخم لم يهدأ على الإطلاق، ومحاولات التدخل في اقتصاد السوق قد تضر باقتصاد ’إسرائيل’ ويجب الحفاظ على استقلاله”([8]).
بناءً على ما سبق، فإن تسارع وتيرة تطور الأزمة داخل الكيان المحتل باتت واضحة، وستتجلى عواقب هذه الأزمة سلبًا على نمو الاقتصاد الإسرائيلي بمختلف مكوناته ما لم يتم التوصل لمسار للتسوية بين الحكومة والأحزاب المعارضة. فعلى الرغم من النمو الملفت الذي شهده الاقتصاد الإسرائيلي خلال عام 2022، والذي بلغ حوالي 6.5% بحسب آخر بيانات لمكتب الإحصاء الإسرائيلي، إلا أن التقلبات السياسية والتوتر الأمني الذين تسببت بهم قرارات الحكومة اليمينية المتطرفة سيشكلون عوامل ضغط على الأداء الاقتصادي.
([1]) انظر/ي: Blackburn, K., Bose, N., & Haque, M. E. (2006). The incidence and persistence of corruption in economic development. Journal of Economic Dynamics and control, 30(12), 2447-2467.
Dreher, A., & Herzfeld, T. (2005). The economic costs of corruption: A survey and new evidence. Available at SSRN 734184.
([2]) Trading Economics. (2022). Israel Foreign Direct Investment. https://tradingeconomics.com/israel/foreign-direct-investment
([3]) مثل شركة Papaya Global التي تنتشر خدماتها في أكثر من 140 دولة ومن أهم عملائها شركات Intel و Microsoft و Toyota و Wix.
([4]) هيئة الابتكار الإسرائيلية، سلسلة تقارير الابتكار، تقرير حالة إسرائيل للتكنولوجيا الفائقة لعام 2022، https://innovationisrael.org.il/en/reportchapter/part-israeli-high-tech-2022-situation-report
( 5) بارون، إيليت، “في ظل الإصلاح القانوني: الإسرائيليون مهتمون بتحويل الاستثمارات إلى الخارج”، 15 فبراير، 2023،
https://www.mako.co.il/news-money/2023_q1/Article-65d780fc2ef4681027.htm?Partner=searchResults
([7]) Frenkel, Jacob, & Flug, Karnit. (2023). The Proposed “Reform” of the Judicial System Poses Risk to the Israeli Economy. The Israel Democracy Institute. https://en.idi.org.il/articles/47542
([8]) The Times of Israel. Bankers said to warn Smotrich judicial shakeup already causing economic fallout. 14 February, 2023. https://www.timesofisrael.com/bankers-said-to-warn-smotrich-judicial-plan-already-causing-economic-fallout/
[9]) ) مارسيانو، كيرين مارسيانو، “باللغتين الإنجليزية والعبرية: خلال التصويت في الكنيست، وزير المالية سموتريش ضد وزير الخارجية كوهين”، 21 فبراير، 2023، https://www.mako.co.il/news-politics/2022_q3/Article-b08988583a17681026.htm?sCh=7bd56f39402f1810&pId=173193421&partner=lobby
(1) د.رغد عزام : باحث في مركز رؤية للتنمية السياسية، مختصة في شؤون الاقتصاد الفلسطيني، وآثار المقاطعة الاقتصادية على الاقتصاد الفلسطيني.