انعكاسات العدوان “الإسرائيلي” على التعليم الجامعي الفلسطيني
د. إياد أبو زنيط[1]
شنت “إسرائيل” منذ السابع من أكتوبر/2023 حرباً مدمرةً على قطاع غزة، استهدفت فيها كل البنى التحتية والمؤسسات في القطاع، في إطار حرب ممنهجة اتُبع فيها النيل من كل المؤسسات العاملة، من مستشفياتٍ ومؤسسات إغاثة، وكان من أبرز ما استُهدف بشكل لافت المؤسسات التعليمية، بما فيها المدارس والجامعات، مبررة ذلك باعتبارها أماكن للعمل المقاوم، حيث تعرضت للقصف أو السرقة، أو حُوِلت لمراكز اعتقال في بعض الأحيان، ولم يقف الأمر عند مباني المؤسسات، بل اغتالت “إسرائيل” كذلك عشرات العلماء الفلسطينيين في غزة، وتوقفت المسيرة التعليمية كما الحياة منذ اليوم الأول للعدوان، ما انعكس بشكل واضحٍ على العملية التعليمية برمتها.
كما تشوشت العملية التعليمية في الضفة الغربية، وشابها التقطع المستمر والدمج ما بين أنماط التعليم الإلكتروني والوجاهي، حيث تأثرت بشكل سلبي لافت بإجراءات الاحتلال وإغلاقاته للقرى والمدن الفلسطينية، فتراجعت نسب التسجيل في الجامعات، وتأثرت جودة التعليم.
يناقش هذا التقرير ما تعرضت له العملية التعليمية في قطاع غزة والضفة الغربية إثر عدوان “إسرائيل” المستمر، مفترضاً أنّ التعليم قطاع مستهدف “إسرائيلياً”، ويجري تدميره بشكل ممنهج، حتى قبل الحرب الأخيرة.
تدمير التعليم… بيانات وإحصائيات:
استشهد ما يقرب من 6050 طالباً وطالبة، وأصيب 10 آلاف و219 بجروح منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر في قطاع غزة والضفة الغربية، حسب بيانٍ أصدرته وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية حول تداعيات الحرب “الإسرائيلية” على القطاع التعليمي، وذكرت أنّ عدد الطلبة الذين قضوا في قطاع غزة منذ بداية الحرب وصل إلى أكثر من 5994 شهيداً و9890 جريحاً، فيما استشهد في الضفة الغربية 56 طالباً وأصيب 329 آخرون، إضافة إلى اعتقال 105 من ِقبَل جيش الاحتلال “الإسرائيلي”، كما استشهد 3 رؤساء جامعات، وما يزيد على 100 أُستاذ وعميد جامعي، منهم الدكتور سفيان التايه رئيس الجامعة الإسلامية، الحامل لدرجة الأُستاذية في الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية، وعضو اليونسكو لعلوم الفلك والفيزياء، والدكتور محمد شبير أستاذ علم الفيروسات والمناعة في الجامعة ورئيسها سابقًا، والدكتور رفعت العرعير أُستاذ الأدب الإنجليزي، والذي شكّل نشاطه على مواقع التواصل باللغة الإنجليزية مصدراً من مصادر مواجهة الحرب “الإسرائيلية” على القطاع، وغيرهم العديد من العلماء البارزين.
إلى جانب الاغتيالات، فقد دُمِرت كامل الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة، وهي: الجامعة الإسلامية والإسراء وفلسطين والأقصى والأزهر وكلية الرباط وغيرهم، إمّا تدميراً كاملاً أو جزئياً، فيما نال القصف ما يزيد عن 318 مدرسة، وتحول ما تبقى إلى مراكز إيواءٍ للاجئين، وقد عمل هذا كله على توقف العملية التعليمية لما يزيد عن 880 ألف طالبٍ وطالبة. إضافة إلى ذلك، دُمِرت المكتبات ودور النشر التي تضم في جنباتها مراجع علمية وكتب ومؤلفات قديمة ومخطوطات، وسُرقة مجموعة من القطع الأثرية فيها، وتحديداً من جامعة الإسراء، بحيث وصل مجموع ما سُرق 3000 قطعة أثرية ومخطوطة.
في الضفة الغربية والقدس، استباح الاحتلال المؤسسات التعليمية، مما أدى إلى توقف التعليم الوجاهي في كافة مؤسسات التعليم العالي البالغ عددها 34 مؤسسة، وتحوله إلى التعليم الإلكتروني، باستثناء بعض المساقات العلمية، نتيجةً للإغلاقات والتضييقات على الطلبة والاقتحامات التي تعرضت لها عدد من الجامعات، كجامعة الخليل وبيرزيت وفلسطين التقنية وغيرهم.
إبادة تعليمية… وكيٌ للوعي:
حسب تقرير للأمم المتحدة، فإنّ للهجمات القاسية المستمرة على البنية التحتية التعليمية في غزة تأثيراً مدمراً طويل الأمد على حقوق السكان الأساسية في التعلم والتعبير عن أنفسهم بحرية، ما يحرم أجيالاً من الفلسطينيين من مستقبلهم، إذ تُشير الإبادة التعليمية التي استخدمتها “إسرائيل” إلى ذلك، فضلاً عن اعتقال أو احتجاز أو قتل المعلمين والطلاب والموظفين، وتدمير البنى التحتية للتعليم، فالهجمات “الإسرائيلية” تُمثل نمطاً ممنهجاً من العنف يهدف إلى تفكيك أسس المجتمع الفلسطيني، فتدمير الجامعات والمدارس واقتحامها وحصارها يمثل قتلاً للطموح والآمال والمستقبل.
لا يُعَدُ تدمير الاحتلال للمؤسسات التعليمية في غزة والضفة وليدَ هذه الحرب، بل هو في ذروته منذ عام 2011، حيث بات التعليم يُشكل أحد هواجس الاحتلال، فقد عمل على محاربة المناهج التعليمية الفلسطينية في القدس تحديدًا، ومارس حملة دعائية ضد المناهج التعليمية للتربية والتعليم الفلسطينية نفسها، مدّعياً أنّها مناهج إرهابية تدعو إلى الكراهية ومعاداة السامية، ولا تلتزم قيم التسامح أو تقبل الآخر، وقد سبق وأن وضع الاحتلال في هذا الإطار خطته التي أعلنها ما بين عام 2018-2023، لتحقيق هدفه الرئيس، وهو أسرلة التعليم، فقد قرر اختراق المنظومة التعليمية عبر مناهج التربية والتعليم، لنزع الصفة الاحتلالية الاستعمارية عنها، وخاض حروباً عدة على هذا الأساس في المحافل الدولية ضد المناهج الفلسطينية، أدت إلى تجميد المساعدات الأمريكية، ومن ثم مساعدات الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تُخصص لهذه المناهج.
يأتي هذا التدمير للتعليم وبنيته باعتباره من مرتكزات الهوية والوجود الفلسطينيين، في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني، فلم يكن التعليم يوماً بمنأى عن استراتيجياتها الاستعمارية الاستيطانية الهادفة إلى محو الفلسطينيين وروايتهم وتاريخهم، وإخضاع من يبقى منهم، وتحويلهم إلى رعايا في الدولة الاستعمارية، لتتمكن من استكمال مشروعها في السيطرة على الأرض ونزع الصفة الاستعمارية عنه وتطبيعه، حيث يصف “سانتوس” محاولات تدمير معرفة وثقافة الشعوب المضطهدة والمستعمرة “بالإبادة المعرفية” (epistemicide)، التي كانت أحد شروط عمليات “الإبادة الجماعية” (genocide) في المشاريع الاستعمارية الكبرى، لذلك، وعلى مر الأجيال التي تعاقبت منذ نكبة عام 1948، انتهجت “إسرائيل” مختلف وسائل التدمير والتعطيل والشرذمة في استهدافها لقطاع التعليم بمكوناته كافة.
تعاظمٌ للركود الاقتصادي… تراجع في نسب الالتحاق بالجامعات:
يُعتبر الوضع في قطاع غزة مأساوياً من الناحية الاقتصادية، فلم يقف الأمر عند تدمير الجامعات، بل أصبح التفكير بالحصول على قوت اليوم أو مياهٍ نظيفة هو الشغل الشاغل للغزيين، والحال في الضفة الغربية تفاقم سوءاً من الناحية الاقتصادية، فمن جهة تعطل الفلسطينيون العاملون داخل الخط الأخطر، حيث منع ما يقرب من 150 ألف عامل فلسطيني من الالتحاق بأعمالهم، ومن جهة أخرى أصبح عدم انتظام رواتب القطاع الحكومي الذي كان يُعاني أصلاً من عدم الانتظام أمراً بارزاً في الحالة الفلسطينية، وهو ما جعل الوضع الاقتصادي يزداد تردياً، ومن جهة ثالثة ألقى ذلك بظلاله على منشآت القطاع الخاص التي تعتمد بدورها على محركَين أساسيين في الشارع الفلسطيني، ممثلين بالعامل والموظف، ما جعل الأزمة مركبة فعلاً، وتزايدت بذلك نسب الركود الاقتصادي.
ذكرت منظمة العمل الدولية في إحصائية لها أنّ نسبة البطالة في الضفة الغربية تأثراً بالحرب على غزة، وارتفعت إلى 40 بالمئة، بينما كانت النسبة قبل الحرب 14 بالمئة، ويبدو أنَّ “إسرائيل” تمارس سياسة “التفقير والتجويع” للشعب الفلسطيني عامة، ولأهل غزة والضفة العربية خصوصاً، لاستكمال مخططها التهجيري.
كل ما سبق ألقى بظلاله على القطاع التعليمي الذي لا يُمكن فصله عن الواقع الاقتصادي، فتراجعت نسب التسجيل في الجامعات، لا سيما الجامعات الخاصة، واضطرت الجامعات إلى استخدام التدريس الإلكتروني عوضاً عن الوجاهي، ليس فقط بسبب إغلاقات الاحتلال، بل بسبب الظروف الاقتصادية، وهو ما انعكس سلباً على جودة العملية التعليمية برمتها.
الآثار المستقبلية لاستهداف القطاع التعليمي:
تزداد المشكلة تفاقماً من خلال المعطيات السابقة، والتي تدلل على تدهور واقع الحق في التعليم والتعليم العالي، خاصةً مع حالة التراجع المستمرة في مؤشرات التعليم بسبب سنوات الحصار التي بلغت 17 عاماً على قطاع غزة، فالجامعات كانت تُعاني من مشاكل مختلفة مثل تقادم الأجهزة أو غيابها التام، وتواجه أيضًا مشاكل تشغيلية ترتبط بشكل رئيسي بانقطاع التيار الكهربائي، ومع التدمير الممنهج الذي تعرض له القطاع التعليمي في الحرب الأخيرة، فضلاً عن ما تعرض له الطلبة من صدمات نفسية واجتماعية، وظروف اقتصادية صعبة ستؤثر على التحصيل العلمي ونسب الالتحاق بالجامعات.
من الآثار طويلة المدى التي قد يتسبب بها الانقطاع المتواصل عن التعليم هو زيادة نسبة الفاقد التعليمي، إذ تشير الدراسات إلى أنّ إغلاق المدارس والجامعات قد يؤدي إلى فقدان التعلم وانخفاض مستوياته لدى الطلبة، كما قد يؤدي أيضاً إلى ارتفاع نسب العزوف عن التعليم، وكلما طال إغلاق المؤسسات التعليمية زاد الفاقد التعليمي، وارتفعت احتمالات تسرب الطلبة، وزادت المشكلة تعقيداً، وخصوصاً فيما يتعلق بطلبة الثانوية العامة الذين لم يلتحقوا بالدراسة سوى شهر واحد أو أقل، والذين من المفترض أن يكونوا على أعتاب الالتحاق بالجامعات.
فضلاً عن ذلك، فإن تكلفة إعادة بناء القطاع التعليمي ستكون مرتفعة الثمنفوفقًا لصندوق النقد الدولي، فإن خسائر قطاع التعليم في قطاع غزة جراء الهدم والتدمير وتضرر 70% من المدارس والجامعات فيها تفوق 720 مليون دولار، في حين يُقدِر الأورومتوسطي أنّ الخسائر المادية التي لحقت بالجامعات جراء التدمير لوحده تفوق حد 200 مليون دولار.
إصرار على التعليم ومبادرات جامعية لإنقاذه:
برزت نماذج عدة توضح إصرار الفلسطينيين على مواجهة ما يتعرض له القطاع التعليمي، سواءً في غزة أو الضفة، كمبادرات التعليم الشعبي، وخاصة في غزة، وبالنظر إلى التدخلات السياساتية والرسمية، فإن المستوى الكبير من الأضرار التي لحقت بالطلبة والكوادر التعليمية والإدارية، والدمار الذي لحق بالمرافق التعليمية، تتطلب العودة إلى التعليم بناءً وتنفيذاً لآليات عاجلة قصيرة المدى تحقق الوصول إلى التعليم، وأُخرى على المدى الأطول لإعادة بناء نظام تعليم فاعل، على أن يتم العمل بهذه الآليات بالتوازي.
فيما يتعلق بالتدخلات العاجلة/ الطارئة، فقد طُرِحت مبادرات عدة من جامعات مختلفة في الضفة الغربية، كمبادرة جامعة النجاح بالشراكة مع اتحاد الجماعات المتوسطية وصندوق دعم الطالب الفلسطيني، لتمكين طلبة غزة من استكمال تعليمهم الجامعي إلكترونياً باعتبارهم طلبة زائرين، دون أن يتحمل الطالب أو جامعته أية تكاليف مادية، وكذلك مبادرة جامعة بيرزيت “إعادة الأمل”، والتي اعتمدت على ثلاثة محاور للتدخل: أولاً، البنية التحتية والتعاضد المؤسساتي، من خلال بناء الشراكات مع جامعات القطاع، وقيادة ائتلاف جامعات فلسطينية وعربية وعالمية لدعم وإعادة بناء الجامعات في قطاع غزة، وثانياً، التعليم الجامعي بالاتفاق مع جامعات القطاع، وتوفير الكادر التربوي من جامعة بيرزيت من ناحية، وبناء البنية التحتية لجعل التعليم عن بُعد لطلبة القطاع ممكناً من ناحية أخرى، على أن يكون التعليم ملتزماً بمحددات الجودة الأكاديمية، وبالتعاون مع أكاديميين من جامعات القطاع، بالتزامن مع التدريب الأكاديمي والإشراف على مشروعات ورسائل وأطروحات التخرج، وثالثاً، البحث التحويلي: من خلال الشراكات بين باحثي جامعة بيرزيت والجامعات العالمية وباحثي الجامعات في القطاع للقيام بدراسات تساند عملية إعادة الاعمار وإزالة آثار الحرب الهمجية، وفي ذات السياق أتت مبادرة جامعة القدس المفتوحة “كلنا غزة”، لاستكمال التعليم الجامعي مجاناً بما يُتاح من أدوات وما يتوفر من تكنولوجيا.
من جهته، بحث مجلس عام اتحاد رؤساء الجامعات كيفية إغاثة القطاع التعليمي في قطاع غزة، مقرراً أنَّ الخطة الإسعافية لقطاع التعليم العالي في غزة تشمل في مرحلتها الأولى إعادة تفعيل العملية التعليمية ضمن جهد إغاثي، خاصةً من خلال مبادرة وزارة التربية والتعليم بتسجيل طلبة قطاع غزة في مؤسسات التعليم العالي في الضفة الغربية طلبة زائرين.
خاتمة:
يشكل استهداف القطاع التعليمي الفلسطيني أحد الأهداف الرئيسة للاحتلال، ومن شواهد ذلك التدمير المستمر للبنى التعليمية في قطاع غزة والضفة الغربية، ومحاولة التدخل في فرض مناهج تتناسب وسياسية الاحتلال، وتحويل المسألة إلى قضية دولية، فضلاً عن استهداف المفكرين والعلماء الفلسطينيين البارزين، وحملات الاعتقال والاقتحامات التي تتعرض لها الجامعات، وما يلحق بالطلبة الفلسطينيين من تنكيل وأذى على حواجز التنقل، في سياسة واضحة على أنّ التجهيل وكي الوعي وبناء أجيال فلسطينية غير متعلمة ذوو أهمية احتلالية، ورغم ذلك، يُصر الفلسطينيون على مواصلة المسيرة التعليمية، سواءً في قطاع غزة المحاصر منذ 17 عاماً أو الضفة الغربية التي تواجه معضلة الاحتلال يومياً، ومن هنا جاءت المبادرات المختلفة لإغاثة قطاع التعليم وتكاتف الجهود في سبيل إنجاح ذلك، ما يوضح حجم المواجهة بين العقل الفلسطيني والاحتلال.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله