انعقاد المجلس المركزي.. صحوة الإصلاح أم وصفة التفكيك؟

هيئة التحرير

على مدار يومي 23-24 نيسان/ أبريل 2025، عقد المجلس المركزي الفلسطيني دورته الثانية والثلاثين في مقر الرئاسة الفلسطينية بمدينة رام الله، مصوتاً لصالح استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي رشّحه الرئيس محمود عباس، وحدد له صلاحياته والمهام التي يمكن أن يتولاها، مع إمكانية إعفائه أو قبول استقالته.

تزامن هذا الانعقاد في ظل أجواء مشحونة فلسطينيًا، وانتقادات وُجّهت للمجلس الذي لم ينعقد منذ بداية الحرب على غزة، ورغم ما تتعرض له مخيمات ومدن الضفة من اعتداءات إسرائيلية متواصلة، الأمر الذي دفع العديد من القوى والتنظيمات وبعض أعضاء منظمة التحرير إلى مقاطعة جلسته، فيما لم توجه الدعوة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي للمشاركة.

هنا، يُطرح السؤال المركزي الذي يحاول التقرير أن يجيب عنه، إن كان هذا الانعقاد بهدف الإصلاح الفعلي لمؤسسات منظمة التحرير، واستجابة لمطالب تفعيلها من الداخل الفلسطيني؟ أم استجابة لضغوط ومطالب أطراف عربية وإقليمية ودولية، مما يعني مزيدًا من التفكيك والخلاف الفلسطيني الداخلي، ومزيدًا من التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني؟

 محطّات وقرارات حرجة

تشكّل المجلس المركزي التابع لمنظمة التحرير في كانون الثاني / يناير 1973، أثناء انعقاد الدورة الحادية عشرة للمجلس الوطني لمنظمة التحرير في القاهرة. وشهد المجلس المركزي مراحل من التطوير في الشكل والمهام إلى أن تم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1984 الاستقرار على إطاره المحدد، وتنظيم عمله وصلاحياته ومدته، وبقي بعدها يخضع للتعديلات وفقًا لتطورات الحالة المرتبطة بالقضية الفلسطينية، خصوصًا في أيار/ مايو 1985 بعد ما تعرضت له المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث أعلن المجلس المركزي في ذلك الحين أن منظمة التحرير من واجبها الدفاع عن الوجود الفلسطيني وحمايته، ورفض تهجير الفلسطينيين وتصفية قضيتهم.

منذ ذلك الوقت، أي في عام 1985 وحتى الانعقاد الأخير برام الله في نيسان/ أبريل 2025، عقد المجلس 32 دورة ما بين عواصم عربية مثل تونس وبغداد، وما بين انعقاد على أرض الوطن في غزة ورام الله، ولكنها لم تكن ضمن نسق زماني محدد. فوفقًا لنظامه الأساسي، يفترض أن ينعقد المجلس كل 3 شهور بصورة اعتيادية، إلا أن انعقاد غالبية جلساته كانت غير اعتيادية، أي بدعوة من رئيسه، أو بناء على طلب من اللجنة التنفيذية، حيث كان انعقاده مرتبطًا بتطورات سياسية وميدانية تمر بها القضية الفلسطينية.

شكلت بعض جلسات المجلس محط اهتمام ومتابعة باعتبارها كانت تمهد لمرحلة جديدة. ففي تشرين الأول/ أكتوبر1993، انعقد المجلس في تونس، وأقرَّ اتفاقية أوسلو، وقرر تكليف اللجنة التنفيذية بتشكيل مجلس السلطة الفلسطينية في المرحلة الانتقالية. وفي تموز/ يوليو 2001، ناقش المجلس موضوع إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، لكنه قرر تأجيل الإعلان إلى أجل غير مسمى.

وأقر المجلس في آذار/ مارس2003، استحداث منصب رئيس الوزراء بضغط من الولايات المتحدة وأطراف دولية وعربية، حيث اختير في ذلك الوقت محمود عباس/ أبو مازن أول رئيس وزراء فلسطيني في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات.

وفي دورته الـ31 التي عقدت في شباط/فبراير 2022 في رام الله، قرر المجلس “تعليق الاعتراف بدولة إسرائيل لحين اعترافها بدولة فلسطين”، ووقف التنسيق الأمني معها، إلا أن هذه القرارات لم تخرج لحيز التنفيذ العملي.

ظروف انعقاد الدورة 32

في أعقاب اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة بعد طوفان الأقصى 2023، بدأت تبرز مطالب أمريكية وأوروبية وبعض من الدول العربية، بضرورة إصلاح السلطة الفلسطينية وتطوير أدائها، كواحدة من اشتراطات استمرارية دعمها المالي، فكانت أولى هذه الخطوات إقالة محافظين وسفراء وتعيين آخرين بديلًا عنهم، وتعديل قانون الخدمة المدنية، مما أدى إلى تغييرات تتعلق برواتب وامتيازات لموظفي السلطة، إضافة إلى تعديلات على سن التقاعد في الوظيفة العمومية والقطاع الأمني، وإجراء تغييرات جوهرية في وزارة الصحة، وتنصيب قيادات جديدة لبعض الأجهزة الأمنية، وغيرها من القضايا الجوهرية تحت مسمى “برنامج الإصلاح الحكومي”.

تطورت “الإصلاحات” الفلسطينية إلى الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد مصطفى في آذار/ مارس 2024، بشكل مغاير لما تم التوافق عليه بين الفصائل الفلسطينية في اتفاق بكين، والذي كان يؤسس لحكومة وفاق فلسطيني. وفي شباط/ فبراير2025، أصدر الرئيس عباس مرسوما يلغى القوانين التي بموجبها يتم تحويل الرواتب الشهرية لعائلات الأسرى والشهداء، وإحالتهم إلى المؤسسة الوطنية للتمكين ليصبحوا ضمن الحالات الاجتماعية. فيما أعلن الرئيس محمود عباس خلال مشاركته بالقمة العربية في القاهرة آذار/ مارس 2025، العفو عن المفصولين من حركة فتح، واستحداث منصب نائب رئيس منظمة التحرير، الذي تم ترجمته بشكل فعلي عقب انعقاد المجلس المركزي، حيث اختير القيادي حسين الشيخ لهذا المنصب.

هذه الإرهاصات التي هيأت الظروف لانعقاد المجلس المركزي، مهدت لشكل وطبيعة مخرجاته، وانكفائه على القضايا المرتبطة بما بات يعرف بالإصلاحات، دون أن تعطي مساحة أكبر للتحديات المفروضة على الواقع الفلسطيني نتيجة الممارسات اليومية للاحتلال، وما يقوم به في الضفة الغربية أو حربه على غزة، واعتبار انعقاده استجابة لضغوط أمريكية وإقليمية.

وأعلنت عدد من الفصائل عن مقاطعتها لجلسات المجلس، منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والمبادرة الوطنية الفلسطينية،  فيما انسحبت الجبهة الديمقراطية بعد جلسة الافتتاح. ولم توجه أي دعوة إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي لحضور الجلسة.

شكل خطاب الرئيس عباس أمام المجلس، نقطة جدال كبيرة، بسبب تحميله المقاومة الفلسطينية مسؤولية ما يقوم به الاحتلال على غزة، ومطالبته بتسليم الأسرى الإسرائيليين، وأثار عاصفة من الانتقادات من قبل العديد من القوى والأطراف الفلسطينية.

ووسط هذا الجدال السياسي حول انعقاد المركزي ومخرجاته، برزت نقاشات في الإطار القانوني والدستوري، التي يرى فيها جهاد حرب بمقال له أن هناك عوارًا دستوريا شاب هذه القرارات، فهي لم تُجب على جوهر المسألة المطروحة بما يحقق المصلحة العامة، وبما يمنع تنازع القواعد الدستورية، الأمر الذي يخلق إشكاليات مستقبلية محققة. فقرار استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية رئيس دولة فلسطين، يخلق حالة تنازع للقواعد الدستورية في حال “شغور منصب رئيس الدولة/السلطة الفلسطينية”؛ فتعيين رئيس الدولة وفقًا للإجراءات المعمول بها في النظام القانوني لمنظمة التحرير، يعتمد على قرار من المجلس المركزي، فيما تعيين رئيس السلطة يعتمد على النظام القانوني للسلطة الفلسطينية المنصوص عليه في القانون الأساسي؛ حيث نصت المادة 115 من القانون الأساسي المعدل للعام 2003 (دستور دولة فلسطين)، على أنّه “يعمل بأحكام هذا القانون الأساسي مدة المرحلة الانتقالية، ويمكن تمديد العمل به إلى حين دخول الدستور الجديد للدولة الفلسطينية حيز التنفيذ”.

وفي حال استطاعت حركة فتح تجاوز هذه الأزمة الدستورية، ومحاولة التوفيق بين أركانها، عبر فصل المناصب عن بعضها، فإن الأوضاع ستؤول في حال شغور منصب الرئيس إلى ظهور ثلاثة مناصب: رئيس للسلطة الفلسطينية وهو رئيس المجلس الوطني روحي فتوح وذلك حسب الإعلان الدستوري الذي أُعلن عنه قبل شهرين، ورئيس للجنة التنفيذية رئيس دولة فلسطين وهو حسين الشيخ بناء على قرار المجلس المركزي، إضافة إلى رئيس لحركة فتح وهو نائب رئيس الحركة الحالي محمود العالول، وتفريق هذه المناصب الثلاثة لأول مرة، ربما يُظهر لاحقًا التنازع الفعلي والعملي بين صلاحيات المناصب الثلاثة. هذا في حال شغور منصب الرئيس.

بين الترحيب والانتقاد

في أعقاب انتهاء جلسات المجلس المركزي، واختيار حسين الشيخ لمنصب نائب الرئيس والتصديق عليه من قبل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، صدرت العديد من المواقف مرحبة  وداعمة لهذه “الخطوات الإصلاحية”، ففي بيان للخارجية السعودية اعتبرت أن الخطوة من شأنها “تعزيز العمل السياسي الفلسطيني بما يسهم في جهود استعادة الحقوق الأصيلة للشعب الفلسطيني”. وأكدت الخارجية المصرية “دعمها لهذه الخطوة التي تأتي في سياق جهود السلطة الفلسطينية للإصلاح”.

واعتبرتها الأردن “خطوة إصلاحية هامة ضمن الإجراءات التحديثية التي تتخذها الدولة الفلسطينية”. وتلقى حسين الشيخ، عددًا من الاتصالات الهاتفية من وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، ووزير الخارجية البحريني، ووزير الخارجية المغربي، ووزير الخارجية التركي، عبروا فيها عن دعمهم له بعد توليه منصبه الجديد.

دوليًا، رحب الاتحاد الأوروبي باختيار الشيخ، وقال في بيان له: “هذا التعيين خطوة مهمة في عملية الإصلاح التي تنفذها السلطة الفلسطينية، ويأتي في لحظة حاسمة للشعب الفلسطيني الذي يحتاج إلى مؤسسات قوية وحوكمة رشيدة قادرة على قيادته في هذه الأوقات الصعبة”.

لكن في المقابل، اعتبرت حركة حماس تعيين حسين الشيخ نائبًا للرئيس، خطوةً مستنكرة، واستجابةً لإملاءات خارجية، وتكريسًا لنهج التفرد والإقصاء، بعيدًا عن التوافق الوطني والإرادة الشعبية، ورأت أن هذا التعيين يعكس إصرار القيادة المتنفذة في منظمة التحرير على الاستمرار في تعطيل مؤسساتها.

واعتبرت الجبهة الشعبية استحداث منصب نائب الرئيس يمثل “خطوةً مجتزأه، ولا يمكن أن يكون بديلًا عن الخطوات التي حدّدتها جولات الحوار ومخرجاتها المُكررة، والتي جرى تعطيل تنفيذها أكثر من مرة”. داعية إلى “تشكيل قيادة وطنية موحّدة للمقاومة الشعبية تتبنّى إستراتيجية مواجهة شاملة لسياسات الضم والتهويد ومخططات تفكيك الجغرافيا الوطنية”.

وحذرت المبادرة الوطنية من “إجراء تغييرات وإضافات في عضوية المجلس المركزي، دون إقرارها من المجلس الوطني ودون أي معايير ومرجعيات قانونية، أو إقرار تغييرات هيكلية دون العودة للمجلس الوطني”.

وقالت حركة الجهاد الإسلامي: إن اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية جاء استجابة لضغوط دولية وإقليمية، “لاستحداث منصب نائب مزدوج لرئيس سلطة رام الله، ورئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية”.

خطوة إصلاحية أم مزيد من التفكك؟

أثارت خطوة اختيار نائب الرئيس، النقاش والجدال حول إن كانت ستؤدي إلى إصلاح حقيقي وفعلي للمؤسسات الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، أو إلى مزيد من التباعد في المواقف الفلسطينية في ظل مرحلة معقدة تمر بها القضية الفلسطينية.

ينطلق الفريق المشكك بالأثر الإيجابي لهذه الخطوة من مجموعة مؤشرات يلخصها الدكتور محمد السعيد إدريس؛ أولها أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو من يحدد صلاحيات ومهام صاحب هذا المنصب، وقبول استقالته أو إقالته، وهو ما يعني أن تأثير شخصية ومنصب الرئيس هي المعيار المحدد، والتي يمكن أن تدفع باتجاه إعادة ترتيب أي مرحلة مقبلة انطلاقًا من رؤيته، وهذا يشكل مزيدًا من الفردانية في إدارة الحالة الفلسطينية وهيكليتها التي باتت جميع الصلاحيات فيها مركزة بيد الرئيس نفسه.

التحدي الثاني، وفقًا لما يراه البعض، هو أن استجابة الرئيس لهذه الخطوة  نابعة من الضغوط التي مورست عليه عربيًّا ودوليًّا، وهو ما يعني أن عدم قناعة الأطراف العربية والدولية بالصلاحيات المنوطة بنائبه، يمكن أن تعيد تفعيل ضغوط إضافية لمنح نائب الرئيس صلاحيات أوسع دون أن تقف عند سقف محدد، وهذا بحد ذاته قد يجعل صناعة القرار السياسي الفلسطيني، عرضة لمزيد من التدخل والاستجابة للضغوط التي تمارس بشكل متواصل، وهي شبيهة بالحالة التي مر بها الرئيس الراحل ياسر عرفات عنده حصاره في مقر المقاطعة، والضغوط التي مورست عليه لاستحداث منصب رئيس الوزراء، وإعطائه الصلاحيات الكاملة.

التحدي الثالث هو أن هذا القرار، وإن تم بمصادقة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، إلا أنه يفتقد إلى حالة التوافق الفلسطيني التي تمثل باقي الفصائل والقوى الفلسطينية، ومن بينها حماس والجهاد والجبهتان الشعبية والديمقراطية والمبادرة الوطنية، كما أنها تخرج عن إطار الاتفاقيات التي وقعت فلسطينيًا على مدار 20 عامًا من الحوارات الداخلية، والتي كان آخرها لقاء بكين، الذي مهد لإقامة حكومة توافق وطني فلسطيني، وتفعيل الإطار القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأكد أن الانتخابات هي المسار الذي يمكن من خلاله انتخاب القيادة الفلسطينية بمستوياتها كافة.

أما على صعيد حركة فتح، فيبدو أنها وإن قبلت بهذا الخيار، إلا أن هذا القبول لا يمثل حالة إجماع حقيقية، وبالتالي من الممكن أن يكون لها من التداعيات داخل الحركة نفسها. ما يعني أن الحركة إما أنها قد تدخل في صراعات داخلية، أو تتعرض لمزيد من الانشقاقات الداخلية، وإضعاف البنية التنظيمية على حساب دور الأشخاص.

أما التحدي الأهم في هذه المرحلة، فإنه يتمثل في النظرة الإسرائيلية للكل الفلسطيني الذي بات غير مقبول، فالاحتلال الذي يحاول أن يفرض تصفية كاملة للقضية الفلسطينية، يسعى إلى أن يتخذ من الحرب على غزة فرصة لتصفية القضية الفلسطينية، وفرض واقع ضم للضفة الغربية، فيما ينكفئ الفلسطينيون على الخلافات الداخلية ومبرراتها في هذه المرحلة.

الخلاصة

قد يكون من الصعب الحكم بشكل نهائي على ما قد يترتب على هذه الخطوة، إلا أن التجربة الفلسطينية تشير إلى أن الاستجابة للضغوط الخارجية، من شأنها أن تضعف المناعة الفلسطينية الداخلية، كما أن هذه المرحلة يمكن أن تؤسس لحالة إضعاف لمفهوم التنظيمات والقوى الفلسطينية وتحديدًا حركة فتح، وإعادة تعريف مفهوم القيادة الوطنية التي تتركز صلاحياتها في يد أشخاص بعيدًا عن المؤسسات، بما فيها منظمة التحرير، ودورها الحقيقي والفعال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى