المواقف الفلسطينية من الحرب الروسية الأوكرانية.. بين منطلقات التأييد والمعارضة
د. إياد أبو زنيط[1]
انشغل العالم منذ شباط الماضي من العام الحالي بالحرب الأوكرانية الروسية التي ما زالت رحاها تدور حتى اللحظة، واختلفت المواقف السياسية الدولية تجاهها، وتعدد النقاش حولها بين من يرى فيها تدخلاً روسياً في الشأن الأوكراني، بل وغزواً غيرَ مشروعٍ، مثل أمريكا وحلفائها ، وبين من يرى فيها خطوة استباقية لصد تمددٍ غربي تجاه روسيا كفنزويلا وكوريا الشمالية وغيرها، وبين دولٍ حاولت تحقيقَ توازنٍ دبلوماسيٍ في مواقفها كالصين.
لم يقف التباين في الرؤى من الحرب الروسية الأوكرانية عند حدود المواقف الرسمية، بل تعداه إلى نقاشٍ منقسم في صفوف النخب والسياسيين عالمياً وعربياً، وكان التباين في المواقف والنقاشات حاضراً فلسطينياً مُتعدد بين من يرى فيه تدخلاً روسياً مُحقاً، بل وموقفاً واضحاً يرفض التمدد الأمريكي في العالم، ويسعى إلى كسر الغطرسة الأمريكية، وبين من يرى فيه اعتداء على سيادةِ دولةٍ مستقلة، ومن يرى في مناصرةِ روسيا تناقضاً فلسطينياً أخلاقياً، لشعبٍ محتل أو نُخب سياسية وثقافية تدعم احتلال بلدٍ من جهة، وتسعى إلى التحرر من الاحتلال من جهةٍ أخرى.
استندت الآراء الفلسطينية تجاه الحرب الأوكرانية الروسية، على عوامل عدة، يتمثل أهمها في خلفيات أصحابها الفكرية والأيديولوجية، والانتماء السياسي لهم، والمواقف المسبقة من روسيا وأمريكا، والتدخلات الروسية في المنطقة، ما يدفع إلى التساؤل حول أسباب الإرباك في المشهد الرسمي والفصائلي والنخبوي من الحرب الروسية الأوكرانية، وكيف احتلت الازدواجية في المواقف بين فلسطين وأكرانيا مساحةً في تكوين تلك المواقف وبلورتها؟
المواقف الرسمية والفصائلية
لم يكن هنالك موقفاً رسمياً واضحاً من السلطة الفلسطينية يُمكن من خلاله استشفاف التأييد أو المعارضة تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، إذا بدا موقفها الرسمي وكأنها تمسك العصا من المنتصف، وتعاطت قيادة السلطة بحذر بخصوص ما يَصدرُ عنها من تصريحات، إذ صرح وزير الخارجية رياض المالكي قائلاً: “لسنا دولة مضطرة لأخذ موقفٍ معين”، وهو نفس الخط الذي سار فيه رئيس الوزراء محمد اشتية، الذي دعا إلى إنهاء الحرب دون الانحياز إلى أي طرف، فيما كان حسين الشيخ أكثرَ استغلالاً للحدث في تصريحاته، حيث دعا المجتمع الدولي إلى التوقف عن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، والتعامل بحزمٍ مع الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذِ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بفلسطين.
في الوقت نفسهِ لم يصدر عن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” مواقف رسميةٍ واضحة من الحرب الروسية الأوكرانية، باستثناء ما صرح به عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق، الذي اعتبر أنَّ أبلغ دروس الحرب انتهاء سيطرةٍ أمريكا كقطبٍ متفردٍ في العالم، وهو انعكاسٌ سلبي على مستقبل الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى فقدان مؤسسات الأمم المتحدة قدرتها على حفظ الأمن والسلم العالميين، في الوقت الذي نفت فيه الحركة على لسان القيادي فيها هشام قاسم أي تصريحات منسوبة إلى رئيس الحركة في إقليم الخارج خالد مشعل، التي زعمت فيها تقاريرٌ عربية أنَّ مشعل دعا بوتين إلى التوقف عن غزوه لأوكرانيا وقتله المدنيين.
بدا موقف حركة فتح على لسان الناطقين باسمها، موقفاً أكثر قدرة على استغلال الحدث في التذكير بالقضية الفلسطينية والاستثمار فيه، إذ صرح الناطق باسمها حسين حمايل، أن الحرب الروسية الأوكرانية، تكشف تخاذلاً مفضوحاً لدول العالم تجاه الشعب الفلسطيني، التي ترفض من جهة ما تُسميه الاحتلال الروسي لأوكرانيا، وتدعم من جهة أخرى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين على مدار عشرات السنوات الماضية، واعتبر من مهازل القدر أن تأتي دولة مصنفة على أنّها دولة فصل عنصري، وترتكب جرائم تجاه الشعب الفلسطيني لتلعب دور الوساطة في الأزمة الروسية الأوكرانية.
أمّا موقف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين؛ فقد كان أكثر وضوحاً في دعمه لروسيا في عملياتها، حيث استنكرت الإجراءات العدوانية لأمريكا تجاه روسيا، مُعتبرةً أنَّ من حق روسيا أن تضمن أمنها القومي، وأن تُدافع عن حريتها واستقلالها السياسي والاقتصادي، وأن تواجه سياسيات التمدد الغربي تجاهها، وفي نفس السياق كان موقف الجبهة الشعبية-القيادة العامة– التي اعتبرت على لسان أمينها العام طلال ناجي، أن ما تتعرض له روسيا هو مؤامرة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف الناتو، مستغلين أوكرانيا في ذلك، مؤكداً على أن موقف الجبهة لا يقبل بتشريد الشعوب، انطلاقاً من الموقف الأخلاقي للشعب الفلسطيني وقواه، ولكنه في نفس اللحظة يرفض استغلال السياسيين شعوبهم لتنفيذ المخططات الأمريكية في العالم، فيما لم تصدر أية تصريحات عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان موقف جبهة النضال الشعبي أكثر وضوحاً في دعم روسيا، إذ عبر أحمد مجدلاني عن دعمٍ صريح لموسكو في مواجهة التوسع الواضح لحلف الناتو، وهو ذات الموقف الذي اتخذه حزب الشعب الفلسطيني على لسان أمينه العام بسام الصالحي، حيث قال: “في الوقت الذي نتضامن فيه مع روسيا ضد سياسات حلف الناتو، فإننا نؤكد الحاجة إلى الحل السلمي للأزمة الأوكرانية بما يخدم مصالح الشعبين الروسي والأوكراني وشعوب العالم واستقراره، ونرفض ازدواجية المعايير التي تحكم سياسات الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأساسي للاحتلال الإسرائيلي والمعطل الأساس لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، عوضاً عن كونها عملت على الدوام لمنع اتخاذ هذه القرارات المتعلق بحقوق شعبنا الفلسطيني”.
مواقف نخبوية وشعبية
تأثر الرأي العام الفلسطيني تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، بمواقف النخب والفصائل، وتباين بين تأييد مُطلقٍ لروسيا، أو تعاطف مع أوكرانيا، حيث يرى الباحث أنّ هنالك نقاط اجتماع ومحاور التقاء، تمثلت في وجود إجماعٍ على تمني ظهور نظام عالميًّ أكثر إنصافاً، في التعامل مع حقوق الشعوب، بصرف النظر عن آلية إيجاده، ما يعني أن الفلسطينيين يشعرون بمعاناة ما يتعرض له الأوكرانيين، في نفس الوقت الذي ينظرون فيه إلى إسرائيل باعتبارها جلاداً، فهم يقفون من جهة في صف الشعوب، ومن جهة أخرى في مواجهة الاحتلال، وهذا ما عبر عنه بيان للملتقى الفلسطيني (منتدى لمثقفين فلسطينيين في الوطن والشتات) حيث رفض الاحتلال الروسي والأمريكي والإسرائيلي، مشدداً على عدم وجود احتلال مقبول ومفهوم، مؤكداً على أن الشعب الفلسطيني ومنذ 74 عاماً، يُعاني من مأساة الاحتلال والاقتلاع واللجوء، وتنكر الأطراف الدولية لحقوقه، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو اليوم يرفض أن يرى ملايين اللاجئين يتركون ديارهم في أوكرانيا، كما حصل مع الفلسطينيين عام 1948م، معتبراً أنّ هذا هو الموقف المبدئي الذي يضع قضية فلسطين في مكانها الطبيعي، قضية حرية وكرامة وعدالة في قلب الضمير العالمي، مع الرفض الواضح دوماً للمعايير المزدوجة في العالم، واستنكارنا لمواقف حكومة أوكرانيا المؤيدة لإسرائيل، إذ إن مأساة اللجوء والاحتلال واحدة في أوكرانيا وفي فلسطين.
دلالات واستنتاجات
يُشكل استعراض المواقف السابقة من الحرب الروسية الأوكرانية، مدعاة حقيقية للخروج بعدد من الدلالات والاستنتاجات والتحليلات التي بُنيت على أساسها تلك المواقف، واتخذت بناءً عليها التصريحات، ومن أهمها:
- ارتبط الموقف الفلسطيني الرسمي، تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، بمجموعةٍ من المحددات، تمحور أهمها حول الخشية الفلسطينية من اعتبارِ أي موقف واضح في دعم روسيا، قد يدفع إلى انقطاع الأموال عن السلطة الفلسطينية أوروبياً، ورُبما أمريكياً، مع أخذها وعوداً سابقة بتجدد الدعم، بالإضافة إلى اتباع سياسة النأي بالنفس عن الخلافات العالمية، وحتى العربية، والتي يُمكن القول أنّها كانت صفة ملازمة لفترة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقناعاته حول عدم الخوض في الصراعات بموقفٍ واضح.
- لم يُجدِ الموقف الفلسطيني الرسمي في استغلال الأزمة، ولم يكن هنالك خطوات حقيقية لتوظيف الصراع الحاصل فلسطينياً مثلما تفعلُ إسرائيل، في توظيفها للحرب من أجل تشجيع الهجرة إليها، فلم يكن هنالك تصريحات ممنهجة، أو حملة دولية تقودها المؤسسة الرسمية الفلسطينية، تسعى من خلالها إلى تنفيذ قواعد القانون الدولي على إسرائيل، كونها دولة احتلال مثلما تطبق على روسيا، علماً أنَّ نُضج الأزمة يُعد فرصة سانحةً لذلك.
- فقدان التركيز في المواقف الرسمية على فضح ممارسات إسرائيل عالمياً، وخاصة في موضوع تزايد الاستيطان الإسرائيلي لاستيعاب اللاجئين الأوكرانيين، وتقديم نفسها كوسيط في الأزمة، حيث لم يصدر عن المؤسسة الرسمية أو حتى الفصائل الفلسطينية، مواقف واضحة تُصدر للعالم تجاه ذلك، وانحصرت التصريحات في الحلقات الداخلية، دون القدرة على تحويلها لمسار ضغطٍ عالمي على إسرائيل.
- ينسحب ما أُسقط على المؤسسة الرسمية الفلسطينية على حركة حماس، التي اتخذت موقفاً غير واضح المعالم من الحرب، أو عدم تبني مبادراتٍ من خلال علاقاتها الدولية والإقليمية لتعزيز مكانة القضية الفلسطينية، ورُبما يعود ذلك للخشية من اتهام الحركة بالإرهاب، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تحقيق مزيدٍ من قبولها الدولي.
- كانت مواقف اليسار الفلسطيني أكثر وضوحاً في الاصطفاف إلى طرف معين، ويعود ذلك إلى الخلفية الأيديولوجية، والارتباطات الإقليمية والعالمية، لتلك القوى بالمعسكر الاشتراكي، الذي يُعد مناصراً مهماً لها، وتأثر الموقف نفسه من الدور الأمريكي في سوريا.
- تأثر الرأي العام الفلسطيني بالتدخل العسكري الروسي الخشن في سوريا، حيث رُصدت مواقف معارضة لروسيا بنيت على استحضار الدور الروسي في قصف المدن والتجمعات السورية.
- تشكل رأي عام فلسطيني ناضج تجاه الحرب الأوكرانية الروسية، استطاع فرض نفسه باعتباره مميزاً ما بين رفض انتهاك حقوق الشعوب واحتلالها بالقوة، ورفضه بنفس الطريقة لاحتلال إسرائيل له كشعب، أُفقد بالقوة أرضه وحقه في تقرير مصيره، وكان تأثيره جيداً من خلال ما طرحه على وسائل التواصل العالمية، حول رؤيته للأحداث، وربما استطاع التأثير أكثر من المواقف الفلسطينية الرسمية، وهو ما يُعيدنا مرةً أُخرى إلى ضرورة التركيز على استغلال الدبلوماسية الشعبية في مخاطبة الشعوب.
الخلاصة
يتأثر المجتمع الفلسطيني بالأحداث عالمياً بغض الطرف عن مكانها، وخاصة تلك المتعلقة منها بقضايا الحرب والسلام؛ يعود ذلك إلى كونه شعباً محتلاً، يتعاطى بشكل لافتٍ مع الأزمات، ويحتل النقاش حولها مساحةً مهمة، وهو ما يعني حضوره في التفكير والتحليل، وقد احتلت الحرب الروسية الأوكرانية، مساحةً كبيرة شغلت تفكيره في الآونة الأخيرة، أثبت من خلالها قدرته على المفاضلة الذكية والفرز للتطورات العالمية وتأثيرها عليه، فبدا أكثر بُعداً عن الالتقاء مع طرفٍ دون تحليل، وهو ما يتجلى في حضور الفكرة الأخلاقية من الحرب الروسية الأوكرانية، ونقاشها عميقاً، مع محاولة استغلالها لتعزيز مكانة قضيته، وكسب تعاطف أخلاقي معه، والتذكير بحقوقه.
[1] – أستاذ جامعي، وباحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله