المواقف الغربيّة تجاه حرب الإبادة في غزّة.. نظرة في الاختلافات وحدود الإمكانات
مراد أبو البها
مع انقضاء عام كامل منذ بدء “إسرائيل” حربها على قطاع غزة، وفي ظلّ التقارير الدوليّة التي وثّقت حجم الجريمة بحق المدنيين في القطاع، ومع ممارسة القتل العشوائي على نطاقٍ واسعٍ فيه، وما رافق ذلك من تدميرٍ لكل مرافق الحياة في غزة، شمل مؤسسات حكومية وتعليمية ومرافق صحية ومدنية عامة، ومع غياب أفق التوصل إلى اتفاق وقفٍ لإطلاق النار ينهي معاناة الناس هناك، مع كل ذلك، تبرز أهمية دراسة مواقف الدول الغربية تجاه العدوان على غزة، خاصة وأن محاكم دولية أنشئت تحت رعاية دولية غربية بالأساس، بدأت فعلًا، ومنذ شهور عدة، بالنظر في قضايا مرفوعة على دولة “إسرائيل” وقادتها، تتعلق بانتهاكها الصارخ للقانون الدولي في عدوانها على قطاع غزة، وتندرج في إطار ممارسة جريمة الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين. ناهيك عن تقارير عدة صادرة عن منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة، أو جمعيات تُعنى بحقوق الإنسان، أكدت مرارًا، ومنذ بدايات الحرب، على حدوث انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وممارسة جريمة القتل العشوائي من قبل قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
لا يخفى على متابع مهتم ملاحظة تلك الرعاية الخاصة التي تحصل عليها “إسرائيل” من الغرب عمومًا، وذلك الدعم اللامحدود لدولة الاحتلال من الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. ويبدو واضحًا السياق التاريخي للدعم الغربي لمشروع إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين، وإن تلاقت مصالح المشروع الصهيوني في بداياته مع مصالح بريطانيا آنذاك، ومن خلفها دول الاستعمار الأوروبية، فيما سمي بفكرة “الدولة الحاجزة” في سياق تنظيم تركة الدولة العثمانية حينها، وكذلك إيجاد حل لما اصطلح عليه آنذاك بـ “المشكلة اليهودية”. غير أن بعض التضارب في مصالح “إسرائيل” ومصالح بريطانيا فترة الحرب العالمية الثانية من جهة، وحسن قراءة وتتبع قادة “إسرائيل” لطبيعة المنظومة الدولية المتشكلة في أعقاب تلك الحرب من جهة ثانية، وقدرتهم على بناء علاقاتهم الدولية بالتوجه نحو مد جسور الثقة وصياغة المصالح مع الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، والتي كانت في طريقها لقيادة العالم، وهو ما حدث فعلًا منذ ذلك الوقت، كل ذلك جعل “إسرائيل” تحصل على شبكة من الدعم اللامحدود، والغطاء الخاص من الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، وذلك عبر إنشائها شبكات واسعة من مجموعات الضغط داخل أروقة صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، مكّنت “إسرائيل” من التهرّب دومًا من تنفيذ القرارات الدولية المتعارضة مع مصالحها عبر ضمانها الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الدولي.
فقد تبنّت الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ أربعينيات القرن الماضي، باستثناء حالات قليلة تضاربت فيها المصالح بين الطرفين مثل عدوان عام 1956 على مصر، الموقف الإسرائيلي بشكل كامل، ودافعت عنه بكل السبل في إطار المؤسسات الدولية، وأعطت الغطاء والحماية القانونية لممارسات “إسرائيل” وتعدياتها على القانون الدولي. فقد استخدمت الولايات المتحدة مؤخرًا حق النقد “الفيتو” في مجلس الأمن أكثر من مرة لتعطيل مشاريع قرارات تطالب بوقف إطلاق النار في غزة. وفي إحصائية ترصد عدد مرات استخدام الولايات المتحدة لحق “الفيتو” في مجلس الأمن تاريخيًا، تذكر الدراسة أنها استخدمت هذا الحق 114 مرة حتى نهاية عام 2023، منها 80 مرة لمنع إدانة “إسرائيل”، و34 مرة ضد قوانين تساند حقوق الفلسطينيين. ويبدو واضحًا حجم الدعم الأمريكي العسكري المقدم لدولة الاحتلال تاريخيًا، والذي ازداد فترة حرب “إسرائيل” على قطاع غزة، إذ تلتزم الولايات المتحدة بتقديم دعم عسكري سنوي بقيمة 3.8 مليار دولار بناء على مذكرة تفاهم موقعة بين الطرفين منذ عام 2016 ولمدة عشر سنوات. وأشارت العديد من التقارير إلى تفاصيل متعلقة بحجم وكميات الذخائر التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل، إذ وصل مجموع ما أعلن عنه من مساعدات عسكرية أمريكية قُدمت لدولة الاحتلال منذ قيامها عام 1948 وحتى نهاية عام 2023 بنحو 124.3 مليار دولار. ومن الجدير ذكره في ذات السياق أن ألمانيا هي ثاني أكبر مصدر للسلاح إلى “إسرائيل” بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ظل الدعم العسكري والسياسي الأمريكي اللامحدود لدولة الاحتلال، حاولت الولايات المتحدة أن تجمّل صورتها أمام الرأي العام الدولي، عبر تأكيدها المستمر على جهودٍ كبيرة تبذلها لتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة. وأعلن متحدثوها الرسميون في أكثر من مناسبة أهمية أن تسمح “إسرائيل” بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، غير أنها لم تبذل أي جهود حقيقية لدفع “إسرائيل” لتطبيق ذلك.
وقد ظهر جليًا وفي أكثر من موقف على طول فترة الحرب الممتدة منذ عام، بعضٌ من التناقضات في التوجهات والمسارات التي اتخذتها دول غربية عدة، مع المسار العام الذي سلكته الولايات المتحدة الأمريكية في معالجتها للقضية، وإن كانت الدول الغربية في مجملها قد أدانت هجوم المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر على غلاف غزة، واعتبرته هجومًا إرهابيًا غير شرعي ولا مبررًا، وأعرب كثير من زعماء دول غربية عن تضامنهم المطلق مع “إسرائيل” وحقها المشروع فيما سمي دفاعها عن النفس، وقَدِم كثير منهم إلى دولة الاحتلال في الأيام الأولى بعد هجوم حماس المذكور، للتضامن والدعم والمؤازرة، بل وذهب بعضهم إلى حد اقتراح تشكيل تحالف دولي للقضاء على حماس كما فعل الرئيس الفرنسي أثناء زيارته لدولة الاحتلال. غير أن هجوم “إسرائيل” لاحقًا على غزة واستخدامها المفرط للقوة، وحالة القتل العشوائي للفلسطينيين، وحجم القصف والتدمير المفرط لكل مقومات الحياة في قطاع غزة، وتجويع المدنيين فيها، جعل بعضًا من الدول الغربية تعلن بشكل واضح رفضها لما يجري، وتعتبر أن حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها لا يبرر حجم القتل والتدمير الحاصل في قطاع غزة.
فقد شدّد المفوض الأعلى للشؤون الخارجية والسياسية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، في أكثر من مناسبة، على رفضه المطلق لممارسات “إسرائيل” بحق المدنيين في قطاع غزة. وأشار في حديثه أمام جلسة لمجلس الأمن، إلى أن التجويع بحق المدنيين الفلسطينيين يستخدم كسلاح حرب في قطاع غزة. وشدد على ضرورة إدانة ما يحدث في غزة كما يتم إدانة ما يحدث في أوكرانيا. وأشار إلى تنصل “إسرائيل” من مسؤولياتها القانونية بما يتناقض مع عدد من التقارير الصادرة عن منظمات دولية في ذات السياق. كما شدد على ضرورة بذل ما يكفي من الجهود لتحقيق حل الدولتين. وذهب بوريل إلى أكثر من ذلك عند إعلانه عن جهود أوروبية تهدف إلى فرض عقوبات على وزراء في “إسرائيل” يثيرون الكراهية تجاه الفلسطينيين، ويطرحون أفكارًا تتعارض بوضوح مع القانون الدولي. وأكّد على إدانته المجازر التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق المدنيين في قطاع غزة، وأشار إلى أن العالم لا يمكنه تطبيع الكارثة الإنسانية في غزة.
توجّهات بوريل لا تعبر بشكل مطلق عن الموقف الأوروبي بالكامل، وتبدو متناقضة مع توجهات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، التي قدّمت الدعم الدبلوماسي والاقتصادي لـ “إسرائيل”، ورفعت العلم الإسرائيلي على مبنى اللجنة الأوروبية في بروكسل، وسافرت إلى تل أبيب بعد أسبوع من هجوم السابع من أكتوبر للتعبير عن دعمها لـ “إسرائيل”. وهو الموقف الذي أظهر حجم التناقضات الداخلية في أوروبا نفسها، إذ اعتبر رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشل، أن دعم “فون دير لاين” المطلق لـ “إسرائيل” أضرّ بسمعة الاتحاد الأوروبي.
في حين أشار وزير خارجية فرنسا، في معرض حديثه عن مخاطر شروع “إسرائيل” في هجوم كبير على مدينة رفح، إلى أن الفلسطينيين في قطاع غزة أمام خطر الترحيل القسري، وأن بلاده تعارض رسميًا تنفيذ “إسرائيل” عمليتها في رفح. مشددًا على ضرورة سماح “إسرائيل” بدخول المساعدات الإنسانية للفلسطينيين دون قيد أو شرط. ومؤكدًا على أن فشل إدخال المساعدات يعتبر دليلًا على فشل المجتمع الدولي بشكل كامل. يذكر أن “إسرائيل” لم تأبه للتحذيرات وهاجمت مدينة رفح لاحقًا.
وقد صوت الأعضاء الأوروبيون دائمو العضوية في مجلس الأمن الدولي لصالح مشروع قرار مقدّم إلى المجلس بتاريخ 25/3/2024 من قبل مجموعة الدول غير دائمة العضوية بالمجلس، وعددهم عشرة أعضاء، يدعو إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة خلال شهر رمضان من عام 2024، وقد صوّت لصالح القرار 14 عضوًا من أصل 15 عضوًا هم كامل أعضاء المجلس، في حين امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت لصالح القرار. مع العلم أن “إسرائيل” لم تلتزم بتنفيذ القرار بسبب عدم وجود تدابير تنفيذيّة فيه، إذ صدر القرار تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، ولم يصدر تحت الفصل السابع، ولم تتم الإشارة في القرار إلى تهديد الأمن والسلم الدوليين.
ويظهر اختلاف التوجّهات في إطار المنظومة الغربية بشكل أكثر وضوحًا، في قرارات متقدمة اتخذتها دول أوروبية بتاريخ 28/5/2024 تتعلّق بالاعتراف بدولة فلسطين، إذ أعلنت دول النرويج وإسبانيا وإيرلندا، اعترافها رسميًا بدولة فلسطين، وأشار رئيس وزراء إسبانيا إلى أنّ بلاده لن تعترف بأي تغييرات على حدود عام 1967 دون اتفاق الفلسطينيين والإسرائيليين على ذلك. مشدّدًا على أن اعتراف بلاده بدولة فلسطين يتماشى مع القرارات الأممية، وأن المسار الوحيد للسلام هو حل الدولتين، وقد دعت نائبة رئيس الوزراء الإسباني إلى ضرورة وقف إطلاق النار في غزة، ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب، ووقف الإبادة الجماعية هناك. في حين دعا وزير خارجية إيرلندا “إسرائيل” إلى ضرورة احترام قرارات الدول الديمقراطية ذات السيادة بالاعتراف بدولة فلسطين. كما أشار وزير خارجية النرويج إلى أن هذا الاعتراف يعد نقطة تحول في العلاقات النرويجية الفلسطينية. وبعد يومين من إعلان الدول الأوروبية الثلاثة، أعلنت دولة أوروبية رابعة اعترافها أيضًا بدولة فلسطين، وهي دولة سلوفينيا، كما أعلنت في السياق ذاته دولة مالطا أيضًا عزمها الاعتراف بدولة فلسطين.
سياق الاختلافات في بعض التوجهات داخل المنظومة الغربية في تعاملها مع القضية الفلسطينية عمومًا، والحرب الأخيرة على قطاع غزة خصوصًا، ليس بجديد، إذ تعترف حاليًا بدولة فلسطين 13 دولة من دول الاتحاد الأوربي، والبالغ عددها 27 دولة، منها دول أوروبية اعترفت بدولة فلسطين قبل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهي مالطا وقبرص والتشيك وسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا وبولندا، غير أن دولة السويد فعليًا كانت أول دول الاتحاد التي تعترف بدولة فلسطين عام 2014، ولحقتها دول “النرويج، وإسبانيا، وإيرلندا، وسلوفينيا” خلال العدوان على قطاع غزة بالاعتراف أيضًا بدولة فلسطين، وتجدر الإشارة إلى إعلان دولة بريطانيا وكذلك دولة أستراليا دراستهما فكرة الاعتراف بدولة فلسطين، وكذلك تصريح الرئيس الفرنسي أن الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين ممكن، ولكن بالوقت المناسب.
صوت مجلس الأمن الدولي في الثامن عشر من أبريل لعام 2024، بأغلبية 12 صوتا من أصل 15 هم أعضاء المجلس، على مشروع قرار قدمه المندوب الجزائري ممثلًا عن المجموعة العربية في مجلس الأمن، يدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطين دولة كاملة العضوية بالأمم المتحدة، وكانت فرنسا من ضمن الدول التي صوتت لصالح القرار، في حين امتنعت بريطانيا عن التصويت إلى جانب سويسرا، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو، وعارضت القرار وحدها. معتبرة أن الدولة الفلسطينية يجب أن تبصر النور عبر المفاوضات المباشرة مع “إسرائيل”، وليس عبر الأمم المتحدة.
تبدو بعض التناقضات داخل المنظومة الغربية واضحة في سياقات محددة، إذ إن الدعم اللامحدود الذي تقدمة الولايات المتحدة الأمريكية لدولة الاحتلال، على الصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي، ليست محل إجماع داخل المنظومة الغربية، بل وظهرت أمريكا وحدها في كثير من المواقف بدعمها اللامحدود لدولة الاحتلال. وتظهر الاختلافات في طريقة التعامل مع القضية الفلسطينية بشكل جلي، عبر إعلانات من قبل دول أوروبية مختلفة، ترفض الكثير من الإجراءات التي تنتهجها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، بل وسلكت بعض دول أوروبا اتّجاهات أخرى مغايرة لمسار الولايات المتحدة بشكل علنيّ، من قبيل الاعتراف بدولة فلسطين، ورفض العدوان على الشعب الفلسطيني. كما ظهرت إلى العلن العديد من التصريحات من قبل شخصيات أمميّة داخل المنظومة الغربية مثل المفوّض العام للأونروا، والمديرة التنفيذية لمنظمة اليونيسيف وغيرهم، ترفض القتل والتجويع والاستخدام المفرط للقوة من قبل “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني.
كثير من المواقف الغربية الرافضة بشكل علني لجريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والتي لم تنتهج مسار الولايات المتحدة في تعاملها مع القضية، لم تخرج عن سياق حدود التصريحات والمواقف الرمزية المعنوية، ولم تسلك طريقًا عمليًا لوقف الجريمة في القطاع. ولا يخفى على متابع دارس لبنية النظام الدولي، اختلاف ثقل الدول وحجم تأثيرها على الساحة الدولية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تلعب دور شرطي العالم، غير أن هذا الدور الأمريكي لا يبدو فعالًا بدون دعم المنظومة الغربية من خلفه بشكل كامل. والخلافات في الرؤى داخل المنظومة الغربية نفسها، يمكن أن يكون لها تأثير قوي إذا ما نظّمها وحشدها الطرف المعني بذلك، وهم الفلسطينيون عبر قيادتهم الفاعلة.
إن غياب قيادة سياسية فلسطينية شرعية، ومؤسسة فاعلة تمثل تطلعات الفلسطينيين عن الساحة الدولية، يجعل من الصعب على الفلسطينيين العمل بشكل منهجي ومنظم، ويُبقي هدف حشد المواقف الغربية وغير الغربية، المعارضة للجريمة التي تجري في غزة منذ عام كامل، صعبة المنال. وبذلك يبدو كل جهد يُبذل على الساحة الدولية فرديًا وغير مؤثر. وفي ظل غياب هذه المؤسسة الفلسطينية، والتي يُفترض أن تقود الفلسطينيين بمختلف توجهاتهم، وتحشد الرأي العام الدولي الشعبي والرسمي، ومن داخل المنظومة الغربية نفسها، المتحكمة بالمؤسسات الدولية بشكل فعلي، وذلك عبر عمل منهجي ومنظم، وخطاب رسمي مدروس، تبقى تضحيات الفلسطينيين الكبيرة وشلالات دمائهم، تجري دون قطاف سياسي، أو أمل بمستقبل قريب أفضل ينتظرهم.