المواقف الغربية من الحرب “الإسرائيلية” على غزة: بين الانقسام الأوروبي والتشدد الأمريكي البريطاني
[1]علي حسن أبو رزق
شهدت المواقف الغربية في عمومها منذ اللحظات الأولى للحرب “الإسرائيلية” المدمرة على قطاع غزة، دعمًا لحرب الإبادة التي شنتها “تل أبيب” على القطاع بعد عملية السابع من أكتوبر، وهي الهجوم الفلسطيني الأكبر من نوعه في تاريخ الصراع ضد المواقع العسكرية “الإسرائيلية” في مستوطنات غلاف غزة، حيث كان الموقف الغربي عمومًا داعمًا وبقوة لهذه الحرب، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي، قبل أن ترتكب قوات الاحتلال “الإسرائيلي” مجازر بشعة ضد المدنيين في قطاع غزة، وتجعل الكلفة الأكبر لهذه الحرب من النساء والأطفال، فمنذ الأسبوع الأول للحرب وعلى مدى ثمانية أسابيع متواصلة، كانت نسبة النساء والأطفال تتراوح بين 70-75% من الضحايا الفلسطينيين.
ساهمت بشاعة المجازر واستهداف المدنيين والتدمير الممنهج للبنية التحتية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس في تحول وتغير في المواقف الشعبية والمواقف في بعض الدول الأوروبية، حيث أظهرت استطلاعات للرأي في الولايات المتحدة الأمريكية تراجع الدعم الشعبي الأمريكي للعدوان، وخصوصًا لدى جيل الشباب، وأكدت نتيجة استطلاع لمعهد “جالوب” العالمي خلال نوفمبر 2023، تراجع الدعم الأمريكي الشعبي للعدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، وتنامي التعاطف مع الشعب الفلسطيني بشكل كبير، ففي فئة الشباب الأمريكي مثلا، فإنّ 67% من الشباب هم مع وقف العدوان العسكري بشكل فوري، مقابل%33 فقط، وهذا يمكن أن ينسحب على معظم الدول الأوروبية التي شهدت عواصمها مظاهرات ضخمة وغير مسبوقة دعمًا للقضية الفلسطينية، ولوقف الحرب “الإسرائيلية” المدمرة على غزة، وهذا كان مخالفًا للمواقف الرسمية لعدد من الدول، فشهدنا اصطفافًا أمريكيًا بريطانيًا حادًا مع الاحتلال، وانقسامًا أوروبيًا ما بين داعم بشكل مطلق للاحتلال ورافض لوقف إطلاق النار كألمانيا، ودول داعمة لوقف إطلاق النار وإقامة دولة فلسطينية مثل إسبانيا وبلجيكا.
الموقف الأمريكي البريطاني الرسمي:
إنّ الموقف الأمريكي الرسمي من الحرب على قطاع غزة تعدى حدود التواطؤ بكثير كما الحروب الماضية التي شنتها “إسرائيل” على قطاع غزة، ليصبح الموقف الرسمي الأمريكي ليس داعمًا فقط، بل مشاركًا ومنخرطًا، فحرب السابع من أكتوبر أو “طوفان الأقصى” شهدت مشاركة فاعلة للولايات المتحدة ضد الشعب الفلسطيني بآلتها الدعائية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، لدرجة يمكن وصفها بأن الولايات المتحدة باتت أياديها ملطخة بدماء الفلسطينيين في قطاع غزة، فمن زيارة الرئيس الأمريكي شخصيًا للتعبير عن الدعم ل”إسرائيل” ومشاركته في اجتماع مجلس الحرب، إلى أربع زيارات قام بها وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” ل”إسرائيل” والمنطقة، إلى الدعم الدعائي الذي قام به “بايدن” شخصيًا، وتصديقه كذبة قطع رؤوس الأطفال، وتشكيكه بأرقام الشهداء الفلسطينيين، وتبنيه كذبة اغتصاب النساء على أيدي عناصر حماس يوم السابع من أكتوبر، والدعم العسكري اللامحدود، وإرسال مدمرات إلى منطقة المتوسط، وتسيير جسر جوي من طائرات الشحن العسكرية التي جلبت آلاف الصواريخ والقنابل ومختلف أنواع الذخيرة، والأهم، مشاركة مستشارين عسكريين خلال الحرب، وتقارير عن مشاركة قوات “دلتا” النخبوية والمختصة بتحرير الرهائن في الجيش الأمريكي، إلى الدعم الاقتصادي وطلب دعم مادي بقيمة مائة مليار دولار ل”تل أبيب” وكييف، إلى الدعم الأمني وتسيير طائرات استطلاع ضخمة فوق سماء غزة.
مع ذلك، وبعد شهرين أو أكثر قليلًا من الحرب، أطلق الرئيس بايدن تصريحات عبّر فيها عن أنّ “إسرائيل” بدأت تفقد الدعم الدولي، ودعا فيها إلى ضرورة تغيير حكومة “نتنياهو”، وكشفت التصريحات أنّ هناك تحولًا بدأ يظهر في الموقف الأمريكي الرسمي، بسبب قرب موسم الانتخابات الأمريكية، وحاجة الديمقراطيين لقطاع الشباب (الرافضين للحرب) لخوض الحملات الانتخابية التطوعية، وتضرر ما أسماه “المركزية الأخلاقية” للولايات المتحدة في العالم، إلّا أنّ هذه التصريحات لم يتم ترجمتها حتى الآن إلى دعوة صريحة وضاغطة لوقف إطلاق النار في غزة، وخرجت تسريبات سابقة عبر الإعلام الأمريكي بأنّ دعم واشنطن ل”تل أبيب” كان مرتبطًا بمحدد زمني، فتارة تسرب قنوات أمريكية أنّ “إسرائيل” أمامها شهر، وتارة أخرى تقول أنّ أمامها أسبوعين، قبل تمديد المحدد الزمني أكثر من مرة، لمساعدة “إسرائيل” في تحقيق منجز عسكري على الأرض، رغم حقيقة أنّ التمديد الزمني يعني ارتكاب مزيد من المجازر، ومن المهم الإشارة إلى أنّ الموقف الأمريكي الأخير جاء بعد قرار الهيئات الإسلامية في الولايات المتحدة الامتناع عن التصويت في الولايات المتأرجحة للحزب الديمقراطي، وخصوصًا ولاية “ميتشيجان”.
يمكن القول أنه وبالرغم من الأصوات الرافضة داخل الإدارة الأمريكية لحرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة، والاستقالات المعدودة في هذا الجانب، فإنّ الموقف الأمريكي الرسمي ما زال داعمًا لاستمرار الحرب، وإن كان بوتيرة أقل مما سبق، لدرجة أن يقف وزير الدفاع الأمريكي ويقول بالحرف: “وقف إطلاق النار يعني انتصار حماس، لن نسمح لحماس بالانتصار،” وتصريح وزير الخارجية “بلينكن” الذي قال في أكثر من موضع إنه لا يوجد دلائل على أنّ “إسرائيل” تقوم باستهداف المدنيين بشكل متعمد، ليجعل موقف الولايات المتحدة أبعد من مجرد داعم، بل منخرط في حلف دولي يسعى لإبادة الفلسطينيين في قطاع غزة.
في سياق فهم دوافع الموقف الأمريكي فإنّ ما يجري في حرب غزة من دعم غير مسبوق جعل تفسير العلاقة الأمريكية “الإسرائيلية” أبعد بكثير من مجرد لوبي صهيوني يتحكم في القرار الأمريكي، ف”إسرائيل أثبتت أنها جزء لا يتجزأ من الكيان الاستعماري الغربي، إذ إنّ المصلحة الاستراتيجية ل”إسرائيل” مرتبطة بشكل وثيق بمصلحة الولايات المتحدة، ما يعني أنّ أيّ تراجع ل”إسرائيل” يعني تراجعًا للمشروع والنفوذ الأمريكي الغربي في المنطقة ككل، فقد أظهرت هذه المعركة أنّ أمريكا هي “إسرائيل”، و”إسرائيل” هي أمريكا، وهو ما ظهر جليًا في تقديم كل أنواع المساعدات والدعم والتبرير السياسي لجرائم الإبادة، وإصرار الولايات المتحدة على استخدام حق النقض لرفض قرار وقف ملزم لإطلاق النار في غزة في مجلس الأمن، كما أنّ هناك تقدير موقف تصرّ عليه الولايات المتحدة رغم فداحته، وهو أنّ الضغط على “إسرائيل” لإعطاء الفلسطينيين ولو جزءا من حقوقهم سيرفع من أسهم الفلسطينيين، باعتباره نصرًا لحماس، بالرغم من أنّ هكذا تنازلات من الجانب “الإسرائيلي” تدفع في اتجاه تعزيز استقرار المنطقة، ما يخدم المصلحة الأمريكية على المستوى المتوسط والاستراتيجي بعيد المدى، ولكنها دائما تريد واشنطن تحقيق الأهداف قصيرة المدى لرسم صورة انتصار يرضي الغرور والغطرسة “الإسرائيلية”.
أمّا فيما يخصّ تجنُّد عدد من المسئولين في الإدارة الأمريكية والكونجرس للدفاع بشكل صارخ عن “إسرائيل”، فهذا يمكن تفسيره بدعم اللوبي الصهيوني لأعضاء وقيادات الحزب الديمقراطي على وجه الخصوص، حيث أنّ نحو 60% من تمويل الحملات الانتخابية للحزب الديمقراطي، ونحو 30% في الحزب الجمهوري تأتي من متبرعين يهود، بالرغم من أنّ نسبة السكان اليهود في الولايات المتحدة لا تتجاوز الاثنين بالمائة، ولهذا تجد كثيرًا من السياسيين الكبار في العالم الغربي يرهنون مستقبلهم السياسي بإرضاء اللوبي الصهيوني، والتسابق في تقديم أوراق الاعتماد لديه، والأمثلة على ذلك لا تكاد تُحصر.
أمّا فيما يتعلق بالموقف البريطاني؛ فقد جاء متماهيًا إلى حد كبير مع الموقف الأمريكي منذ اليوم الأول للحرب، فمن الدعم السياسي للحرب “الإسرائيلية” المدمرة على غزة، إلى الدعم الإعلامي وتبني قنوات الإعلام الرسمية وخصوصًا النسخة الإنجليزية للBBC لرواية الاحتلال فيما يخص جرائمه، لا سيما جرائم المستشفيات، مرورًا بتوافق حزبيْ المحافظين والعمال على نفس الموقف فيما يخص “إسرائيل”، ورفض التصويت على قرار برلماني يدعو إلى وقف تام لإطلاق النار، إلى الدعم البريطاني العسكري وتسيير قوافل شحن عسكرية وطبية ل”إسرائيل”، فضلًا عن الدعم الأمني وإرسال طائرات مسيرة ذات أغراض تجسس إلى أجواء غزة للمساعدة في البحث عن المحتجزين “الإسرائيليين”، وخصوصًا الجنود.
يساهم التفسير السابق للموقف الأمريكي المشارك في الحرب والداعم للكيان بشكل كبير في فهم الموقف البريطاني، إذ لا تتعامل لندن مع الحرب في منطقة الشرق الأوسط باعتبارها تهديدًا لاستقراره، وهي التي كانت أحدى أهم القوى المهيمنة عليه حتى وقت قريب، ولا باعتبارها دولة ذات إرث امبراطوري حكم ثلثي العالم، بل وكما الولايات المتحدة بالضبط، ترى “إسرائيل” على أنها جزء من العالم الأبيض المتفوق، وأنها خير ممثل للحضارة الغربية في منطقة الشرق الأوسط، لأنه، كما يصفونها، واحة للديمقراطية في منطقة تعاني لعقود من آتون الفقر والتخلف والرجعية والاستبداد، ولذلك تجد بريطانيا، كما الكثير من الدول الغربية التي تدعم قوة احتلال ك”إسرائيل”، تقوم بهذا وفقًا للتصور الذي يقول أنه رغم حقيقة أنّ “إسرائيل” قوّة احتلال واستعمار إحلالي قاهرة ومنتهكة للقانون الدولي على الدوام، فإنّها تكون دائمًا في موقف الدفاع عن النفس، وإنّ أيّ رد “إسرائيلي” عدواني سواء أكان عسكرياً أو أمنياً ومهما كان قاسياً ووحشياً يُعدّ “تصرفًا مقبولا طالما أنّ ذلك يساهم في فكرة بقاء “إسرائيل” جاثمة ومحققة لمصالح الغرب في المنطقة”.
الموقف الألماني الرسمي:
يكمن تصنيف الدول الداعمة بالكلية ل”إسرائيل” في هذه الحرب في مقياس الدعوة لوقف إطلاق النار، فهناك دول تعاطت بإيجابية مع هذا الموقف الإنساني، وهناك دول التزمت الحياد، وهناك دول، كألمانيا مثلا، انتهجت سياسة عدائية ضد الشعب الفلسطيني منذ اليوم الأول للحرب، وكانت أكثر عدائية من أيّ وقت مضى فيما يخص هذا القرار، فالمنطقي أنّ رفض الدعوات لوقف إطلاق النار يأتي من “تل أبيب”، إلّا أنّ هذه الحرب كشفت أنّ القرار يأتي من ثلاث عواصم عالمية، واشنطن ولندن وبرلين، ناهيك عن الدعم العسكري واللوجستي والاستخباري والإعلامي الذي قررته ألمانيا ل”إسرائيل”، ومنع المظاهرات الاحتجاجية الداعمة للحق الفلسطيني، بل وقمعها بطريقة سافرة، لدرجة أنّ المتابع قد يظن أنّ مشاهد القمع للمتظاهرين في برلين وفرانكفورت وشتوتجارت قادمة من عواصم دول العالم الثالث، ويرجع هذا الموقف الألماني إلى العوامل الآتية:
- عقدة تاريخية لدى ألمانيا، نشأت من مفهوم الفرادة، وهو مفهوم تحدث عنه الكثير من الأكاديميين في الجامعات الغربية، باعتبار أنّ “الهولوكوست” هو حدث تاريخي متفرد، لم يحدث مثله، لا بفظاعته ولا بحجمه ولا انتشاره في التاريخ.
- الارتباط التاريخي ما بين الاستعمار والصهيونية، وحقيقة أنّ النازية التي سعت لتصفية القارة الأوروبية من اليهود بالقتل والتشريد، فإنها عملت أيضًا على دعم الهجرة إلى فلسطين، وهذا ما يفسر الموقف الألماني الداعم بشكل كبير للكيان “الإسرائيلي” بعد الحرب العالمية الثانية، باعتباره كيانًا غربيًا بروتستانتيًا استعماريًا أبيضًا، وما يساهم أيضًا في تأكيد وجهة النظر التي تقول أنّه كان هناك تعاونًا وثيقًا في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية بين ألمانيا والمنظمات الصهيونية في دعم الهجرة إلى فلسطين.
- إنّ أحد أهم الأسباب وراء الموقف الألماني المعادي هو تزايد قوة اللوبي الصهيوني في ألمانيا، والذي شهد تزايدًا كبيرًا داخل الساحة الألمانية خلال العقود الثلاثة الماضية، في المجتمع المدني على وجه الخصوص، وظهر ذلك بشكل واضح وجلي في وسائل الإعلام والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية.
- كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن تقارب ألماني – أمريكي غير مسبوق، بسبب ضعف القيادة الألمانية الحالية ودعمها التوجهات الأمريكية بامتياز، وتجنبها سلوك أيّ مسار يخالف التوجهات الأمريكية منذ بدء الحرب، مما أظهر برلين بصورة أقل استقلالية وقيادية للاتحاد الأوروبي مقارنة مع عهد “أنجيلا ميركل.
- تضع ألمانيا المحدد الاقتصادي كأولوية عند رسم سياستها الخارجية، وقد رأت في الموقف العربي والإسلامي الباهت والضعيف أحيانًا والمتواطئ أحيانًا أخرى، ما لا يترتب عليه وجود أيّ تكلفة اقتصادية وسياسية إذا مضت في دعمها الأعمى ل”إسرائيل” خلال هذه الحرب المدمرة.
الموقف الفرنسي، من الدعم الأعمى ل”إسرائيل” إلى التوازن:
أعلنت فرنسا في بداية الحرب عن دعمها اللامحدود وغير المشروط ل”إسرائيل فيما يسمى حقها في الدفاع عن نفسها، قبل أن تصل المجازر “الإسرائيلية” إلى مستوى لا يمكن احتماله وتمريره من القتل في حق المدنيين الأطفال والنساء على وجه الخصوص، فانتقدت استهداف المدنيين، ليشهد بذلك الموقف الفرنسي منعطفًا مهمًا تبعه دعوات متكررة لوقف إطلاق النار وإنهاء المعركة، وفي زيارة للرئيس الفرنسي إلى دولة قطر أقرَّ “ماكرون” بأنه لو استمرت الحرب “الإسرائيلية” على غزة عشر سنوات فإنه لا يمكن تفكيك حركة حماس، باعتبار أنّ الحركة لها من الأفكار والأيديولوجيا ما يجعلها متجذرة في المجتمع الغزي الذي نشأت وتأسست فيه، كما أنّ فرنسا صوتت مع قرار مجلس الأمن الداعي لوقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة، قبل أن يفشل تمرير القرار نظرًا للفيتو الأمريكي.
فيما يخص الأسباب التي ساهمت في التحول في الموقف الفرنسي إلى التوازن:
- هناك مذكرة دبلوماسية تناقلها عدد من كبار الموظفين في وزارة الخارجية الفرنسية تؤكد فقدان باريس لمصداقيتها ونفوذها، وأنّ الموقف الفرنسي الذي اتخذه رئيس الجمهورية والداعم بشكل أعمى ل”إسرائيل” كشف عن الصورة السيئة لفرنسا في العالم العربي، ولمّحت إلى ضرورة التوازن في الموقف الفرنسي بهذا الاتجاه.
- هناك ما يمكن تسميته بال French Prestige، والذي يجعل الحكومات الفرنسية المتعاقبة تفكّر في اتخاذ سياسة خارجية تليق بها كدولة كانت صاحبة امبراطورية تاريخية ولها نفوذ كبير في منطقة شمال أفريقيا وأفريقيا الوسطى والعالم العربي، وليست دولة تقلد الولايات المتحدة في موقفها وقراراتها تقليدًا أعمى كما فعلت بريطانيا في أزمتي غزة وأكرانيا.
- المظاهرات الضخمة وغير المسبوقة التي شهدتها فرنسا دعمًا لغزة، وشارك فيها مواطنون فرنسيون بكثافة كبيرة، فضلًا عن الوجود الضخم للجاليات العربية من أصول جزائرية ومغربية في البلاد، والخوف من أيّ عملية تأثير محتملة لهذا الموقف الصارخ على السلم الأهلي في البلاد، بعد أشهر شهدت فيها البلاد أحداث شغب وعنف غير مسبوقة إثر مقتل الشاب الجزائري.
الموقف الإسباني المتقدم والداعي لوقف الحرب:
منذ اللحظات الأولى للعدوان وحرب الإبادة التي شنتها “إسرائيل” على غزة، تبنّت مدريد عدة مواقف داعمة للحق الفلسطيني، فكانت إسبانيا الدولة الأولى التي عارضت مناقشات الاتحاد الأوروبي لتعليق المساعدات للفلسطينيين، كما قدّمت إسبانيا، التي تتولى رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، خلال الحرب الحالية اقتراحًا بعقد مؤتمر للسلام في غضون ستة أشهر، والأهم من ذلك تعهد رئيس الوزراء الأسباني “سانشيز” بأن تعمل حكومته على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ودعا إلى وضع حد لـما وصفه “القتل الأعمى للفلسطينيين” في غزة، بعد استهداف “إسرائيل” لعدد ضخم من المدنيين.
كما أعلنت بلدية برشلونة في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر الماضي عن قطع العلاقات مع “إسرائيل” بشكل كامل حتى يتم وقف إطلاق النا،وقررت الحكومة الإسبانية زيادة المساعدات التي تمنحها للفلسطينيين إلى 100 مليون يورو أخرى، ناهيك عن التنديد الإسباني بالموقف الأمريكي الداعم ل”إسرائيل” في حربها على غزة، واتهمت وزيرة المساواة الإسبانية “إيرين مونتيرو” الولايات المتحدة بـ”التواطؤ” مع “جرائم الحرب” التي ترتكبها “إسرائيل” في غز، حيث دفع الحنقُ من الموقف الإسباني الداعم للحق الفلسطيني الاحتلالَ إلى استدعاء السفير الإسباني لدى “تل أبيب” قبل أيام وتوبيخه.
لفهم الموقف الإسباني الأخلاقي والتاريخي من هذه الحرب يجب مناقشة حقيقة أنّ إسبانيا أقامت علاقات متأخرة مع الاحتلال “الإسرائيلي”، ولم يكن لها أيّة علاقات رسمية مع “تل أبيب” إلا في عام 1986،كما أنّه في عام 2014، تبنى البرلمان الإسباني بالإجماع قراراً غير ملزم يدعو إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مع الأخذ بعين الاعتبار الأسباب والدوافع الآتية.
- إن هذا الموقف ينسجم مع نبض الشارع الأوروبي الذي اجتاحته المظاهرات المطالبة بوقف الحرب على غزة.
- ظل “سانشيز” يسعى لسنوات طويلة لتعزيز مكانة إسبانيا على المستوى الأوروبي والدولي، وهو يأمل أن يكون لموقفه “تأثير هام” على بقية دول التكتل الأوروبي، في وقت تقوم فيه الشعوب الأوروبية بتوجيه انتقادات ضخمة لحكوماتها لموقفها المتواطئ مع حرب الإبادة “الإسرائيلية”.
- قام الحزب اليساري الذي ينتمي إليه “سانشيز” بدور هام في تحريك الدور الإسباني ودعمه في اتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
- أن القوى السياسية الإسبانية لا تنسى أنّ الدول العربية كانت بمثابة ملاذًا لها للالتفاف على عزلتها الأوروبية أثناء ديكتاتورية فرانكو (1939-1975) ما جعل مدريد أكثر قربًا لقضايا العالم الإسلامي من نظيراتها في العواصم الأوروبية.
التحول في الموقف البلجيكي من الإدانة إلى التوازن:
يتفق الموقف البلجيكي في هذه الحرب إلى حد كبير مع الموقف الإسباني، فبعد الشجب البلجيكي لأحداث السابع من أكتوبر ووصفه بأنّ غزة أصبحت كلها رهينة لدى حماس، دعا رئيس وزراء بلجيكا “ألكسندر دي كرو” أكثر من مرة إلى وقف دائم لإطلاق النار، وذهب رفقة نظيره الإسباني إلى معبر رفح للتعبير عن رفضه للأزمة الإنسانية وتنديده بالعدد الكبير من القتلى في صفوف المدنيين، كما دعا الاتحاد الأوروبي الذين يدعون إلى العنف ضد الفلسطينيين لعدم زيارة أوروبا، وخصوصًا مستوطني الضفة الغربية، قبل أن تصفه حكومة الاحتلال بأنه داعم للإرهاب، وهو اتهام غير مسبوق لرئيس وزراء الدولة التي تعتبر أنها عاصمة الاتحاد الأوروبي، والأهم من ذلك دعوة “بيترا دي سوتر” نائبة رئيس الوزراء البلجيكي حكومة بلادها إلى فرض عقوبات على “إسرائيل”، والتحقيق في قصف المستشفيات ومخيمات اللاجئين في قطاع غزة.
على ذكر الأسباب التي أثرت في الموقف البلجيكي ودعته لاتخاذ هذا الموقف الأخلاقي، فيمكن القول أنّ الحجم الضخم للتظاهرات في عاصمة القرار الأوروبي كان له أثر كبير، خصوصًا أنّ مدنًا بلجيكية عدة شهدت مظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف، ناهيك عن التواجد الكبير للجالية العربية والإسلامية الضخمة في بلجيكا، ومخاوف لدى الحكومة من تحول المظاهرات المناهضة ل”إسرائيل” الى مظاهرات ضد الحكومة البلجيكية، وأيضا الارتفاع الضخم في أعداد الضحايا الفلسطينيين، وغياب أيّ حل أو خطّة “إسرائيلية” للحرب، فهي تقوم بالقتل في غزة لمجرد القتل والإبادة، وليس ضمن خطة واضحة.
خاتمة:
تباينت مواقف الدول الغربية من الحرب “الإسرائيلية” الوحشية على غزة، فمن دول مشاركة بشكل فعلي أو حتى داعمة أو متواطئة باعتبار أنها حرب وجودية ل”إسرائيل”، كما كان التقييم في واشنطن ولندن وبرلين، إلى دول تراجعت عن دعمها الأعمى للحرب قبل أن تدعو لوقف إطلاق النار، كما جاء في موقف باريس تحت تأثير التظاهرات والاحتجاجات الشعبية والمذكرات الدبلوماسية، ودول لم ترفض الحرب وتدعو لوقف إطلاق النار فقط، بل دعت إلى تحقيق منجز سياسي للشعب الفلسطيني بعد هذه الحرب، والاعتراف بدولة للشعب الفلسطيني على حدود 67، ومناقشة عقوبات جدية بحق المستوطنين والمتطرفين “الإسرائيليين”، كما جاء في الموقف الإسباني والبلجيكي، رغم التذمر الكبير الذي عبّرت عنه “تل أبيب” من هذه المواقف.
بالرغم من حقيقة أنّ الموقف الشعبي كان متقدمًا جدًا في الولايات المتحدة وبريطانيا، إلّا أنّه لم ينجح -حتى اجتماع مجلس الأمن لبحث وقف إطلاق النار على الأقل- في تغيير مزاج الحكومتين الداعم بصورة عمياء ل”إسرائيل”، رغم امتناع لندن عن التصويت تحت تأثير الاحتجاجات، إلّا أنّه بقي موقفًا داعمًا للاحتلال في مواصلة الحرب ورافض لوقف إطلاق النار.
[1] كاتب وباحث فلسطيني.