مقالات

المواجهة الأخيرة وضرورة تجديد معادلة الكفاح الفلسطيني

محمد دار خليل

مر المشهد الفلسطيني بتحولات كبيرة واستثنائية على الأرض، دلت على تغير ملحوظ في معادلة الكفاح. فمنذ سنوات طويلة، لم يشهد النضال الفلسطيني حراكا شعبيا شاملا، ينخرط فيه الفلسطينيون في جميع أماكن تواجدهم في الأرض المحتلة، مما أعاد الذاكرة إلى ثورة عام 1936، في مشهد تلاشت فيه كل الجهود الصهيونية المبذولة، التي حاولت من خلالها الفصل القاطع بين الفلسطينيين وأولوياتهم، وتشتيت مطالبهم السياسية. ما أظهره الحراك الأخير هو تهشم مظاهر الاختلاف والتمايز بين فلسطينيي الداخل، والقدس، والضفة الغربية، وغزة، والشتات، وعودة القدس كعنوان مركزي وجامع، وكعنوان للكفاح في مناطق نفوذ الاحتلال. لم يكن هذا الحراك منفصلا عن سلسلة من الحراكات والأنشطة الكفاحية المتقطعة في العقد الأخير، خاصة داخل مدينة القدس، بل هو امتداد لها، كما لا يوجد ما يؤكد أن الأحداث الأخيرة هي نهاية هذه الحراكات. اليوم يبدو المشهد الفلسطيني وكأنه يعيش انتفاضة ثالثة غير تقليدية، لها خصائص مختلفة، وتتوفر فيها عوامل الانفجار كافة التي شهدتها الانتفاضات السابقة، لكنها تأتي على شكل هبات بين الفينة والأخرى.

ليس من الغريب أن يتغير شكل الهبات الجماهيرية، ويأخذ طابعا متقطعا وحذرا، فقد أصبح الوعي الجمعي الفلسطيني على ما يبدو أكثر تنورا فيما يتعلق بسؤال الجدوى. يُفترض أن تعظيم المنفعة السياسية والمنفعة التحررية لصالح الفلسطينيين، يزيد من عطائهم ومشاركتهم السياسية، ولن تكون هناك منفعة حتى يستثمر مجهودهم وفقا لمعادلة كفاح تعيد الاعتبار لثقلهم وزخمهم، ويكون العامل المنفعي التحرري جوهرها الفعلي.

أتت الهبة الأخيرة في أيار/ مايو 2021، لتختبر مكانة القضية الفلسطينية محليا وعربيا وإسلاميا وإنسانيا، وكشفت معها الكثير من الحقائق، وهدمت الكثير من الأوهام و”البروباغاندا”، التي تتعارض مع أمل الفلسطينيين في إحراز تقدم ملموس للخلاص من الاحتلال.

تناقش هذه الورقة التغير في السياقات المختلفة، التي تساهم في ترجيح كفة معادلة الصراع لصالح الفلسطينيين، وتجتهد لتطرح خصائص المعادلة الأفضل، التي ينبغي أن تعيد توجيه مسار القضية الفلسطينية، وتنهض بها بشكل يتناغم أكثر مع ما تطمح اليه الجماهير الثائرة.

التغير في السياقات الدولية والإقليمية والداخلية

  • التغير في النظام الدولي

يشهد النظام الدولي تغيرات هامة وجوهرية. يمكن تلخيص هذه التغيرات ببروز لاعبين مؤثرين على حساب الدول، إضافة إلى التوجه أكثر نحو تعددية قطبية يكون فيها للقوى المتوسطة تأثير أكبر، وعلى حساب الهيمنة الأمريكية  (Stares, 2020). فبروز الصين كمنافس قوي للولايات المتحدة، لا يعني التوجه نحو نظام ثنائي القطبية، لأن الصين تختلف في توجهاتها السياسية الخارجية، عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا. تؤدي الصين دورا في تحجيم السيطرة الأمريكية على الملفات الحساسة في العالم، في الوقت الذي لا تنوي فيه لعب نفس الدور الأمريكي في السيطرة على تلك الملفات. كما أن الصين تتبنى لغة سياسية تعبر عن منافستها الشديدة للولايات المتحدة الأمريكية، ولا تتوانى في تبني لغة سياسية تدين “إسرائيل”، وتشكل إسنادا ودعما للفلسطينيين (Propper, 2021).

  • التحول في الموقف الأمريكي

قد تشهد الولايات المتحدة الأمريكية تغيرا في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، إذ أصبحت “إسرائيل” تخشى من تعزيز التيار الداعم للحقوق الفلسطينية داخل الحزب الديمقراطي، مما قد يغير مبدأ الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل. ليس هذا فحسب، بل حتى الشارع الأمريكي أصبح يشهد تراجعا في دعمه لإسرائيل، مع اعتراف أكبر بالحقوق الفلسطينية (Lerer, 2021).

  • العالم الرقمي والرأي العام

يتوفر لدى الفلسطينيين اليوم أدوات قوة ناعمة وغير مكلفة نسبيا، لم تكن متوفرة قبل عقدين. ففي الوقت الذي كانت فيه الحركة الصهيونية تضخ أموالا طائلة من أجل تجييش الرأي العام العالمي لصالحها، من خلال استغلال أدوات الإعلام التقليدية، لم يكن لدى الفلسطينيين سبيلا للوصول إليها والتحكم بأجندتها، خاصة في الدول المؤثرة على الساحة الدولية. ولكن في خضم الأحداث الأخيرة، شهدت منصات التواصل الاجتماعي حالة دعم وإسناد غير مسبوقة للقضية الفلسطينية (Yee, 2021)، مما يعني أن هناك مساحاتٍ واسعة يمكن للفلسطيني التأثير من خلالها، وإيصال صوته للعالم الحر، الذي، إن اقتنع بحقوق الشعب الفلسطيني، لن يتوانى في إسناده، والضغط لتحقيق مطالبه.

  • التقدم في الوعي الجمعي الفلسطيني التحرري

كشفت المواجهة الأخيرة أن الشعب الفلسطيني موحد بشأن ثوابته الوطنية، وإن اختلفت مناطق تواجده. وبالرغم من الاختلافات السياقية الشاسعة، ومن الإخفاق النخبوي في تبني تطلعاته والتعبير عنها، وبالرغم من غياب برنامج سياسي موحد للفلسطينيين، وتوحدهم خلفه، إلا أن الاحتلال فشل في محاولاته المكلفة وطويلة المدى للفصل بينهم، وتشتيت أولوياتهم. كما أن التقدم في الوعي الجمعي للفلسطينيين، ينعكس على سلوكهم الثوري والكفاحي الحذر، إذ أصبح سؤال الجدوى حاضرا عندهم، وهذا يعكس الحذر عند الحراك، كي لا يتحول نضالهم إلى تضحياتٍ دون مقابل، أو تضحياتٍ مقابل نتائج عكسية.

  • امتلاك المقاومة لقوى ردع غير مسبوقة وازدياد الثقة بها

كما كشفت المواجهة الأخيرة، عن رقي أداء المقاومة، وامتلاكها لأدوات ردع قاهرة، لا يملك الاحتلال الإسرائيلي أدوات دفاعية لصدها، سوى الإذعان لمطالب المقاومة. أصبحت هذه المقاومة عامل إلهام، بل بمثابة القلب الذي يضخ دماء الكفاح في الفلسطينيين ومناصريهم، في أماكن تواجدهم كافة، حتى في العمق الإسرائيلي. وإذا كانت قهرية “إسرائيل” ومتانة بنائها الأمني، من عوامل التوحيد الإسرائيلي الداخلي، فقد حطمت المقاومة الفلسطينية هذا العامل في المواجهة الأخيرة، مما قد يساعد في التفريق بين الجماعات الإسرائيلية المختلفة، ويضعف الروابط الجمعية بينها.

معادلة الكفاح التحرري الجديدة المنشودة   

  • أن يكون الفلسطينيون موحدين حول برنامج سياسي واحد، تُحترم فيه ثوابتهم، وتكون القدس أكثرها مركزية، وإن اختلفت بعض الأولويات الفرعية، فالقدس، كعاصمة لفلسطين المحررة، هي البوصلة، ويتم تصميم الرؤية الفلسطينية الواضحة بناء عليها.
  • حل الدولتين غير واقعي، وبهذا يصبح الفلسطينيون أمام خيارات عدة منها؛ منها تسخير جميع عناصر القوة والأدوات والمؤسسات والعلاقات التي بناها الفلسطينيون طوال العقود الماضية، ومن ضمنها المؤسسة الرسمية الفلسطينية، وما أنتجته المقاومة الفلسطينية من قوى ردع، في سبيل رسم برنامج تحرري قائم على تفكيك بنى الاحتلال ومؤسساته.
  • أن تستثمر المقاومة الظروف الجديدة، فقد اكتسبت شرعية جديدة حتى على المستوى النخبوي، وبذلك تكون قادرة على المبادرة، وبذل الجهد من أجل إنتاج عقد اجتماعي كفاحي جديد. وحتى إن رفضت بعض النخب المتنفذة استبدال الصيغ القديمة، إلا أن توجيه الوعي الجمعي الفلسطيني نحو عقد اجتماعي جديد، والعمل الاستراتيجي والمستمر من أجل تحقيقه دون إقصاء، هو أمر ممكن.
  • أن يتم تعزيز الرأي العام العالمي، النخبوي والرسمي، الداعم لفلسطين والمجرّم للكيان الصهيوني.
  • أن يستغل الفلسطينيون المنافسة على الحلبة العالمية بين الولايات المتحدة والصين لصالحهم، وذلك من خلال استمالة الصين، التي قد تتبنى مواقف لصالح الفلسطينيين، كمظهر من مظاهر المنافسة ضد الأميركيين.
  • استمالة الأطراف الإقليمية، والاستناد عليها لتحقيق المصالح الفلسطينية، وذلك من خلال إقناعها بتبني برنامج فلسطيني استراتيجي عملي وواضح المعالم، كأن تتبنى تركيا وإيران وقطر وغيرها من القوى الإقليمية، مبادرة مشتركة لضمان استمراريته وتحقيق أهدافه، خاصة أنه سيحمل رؤى تحررية بعيدة المدى.
  • أن يستغل الفلسطينيون التحول النسبي في مواقف الديمقراطيين في الولايات المتحدة، ويعملوا على تعزيز لوبي ضاغط وداعم للفلسطينيين، ومناقض للوبي الصهيوني المؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية.

خاتمة

تطرقت الورقة إلى مجموعة من الحقائق المرتبطة بتغير السياقات المتعلقة بالملف الفلسطيني، بما فيها السياقات الفلسطينية الداخلية والإقليمية والدولية، وعملت على اقتراح مجموعة من التوصيات التي تساهم في تقدم القضية الفلسطينية، من خلال إعادة النظر في المعادلة الكفاحية القديمة، والعمل على استبدالها بمعادلة كفاح تحرري أكثر فاعلية، وتضمن تعظيما للنتائج المنفعية لحدها الأقصى. وهذا يتطلب تبني استراتيجيات وبرامج ورؤى عملية وواقعية، ومتعددة الأبعاد، وتعريفات جديدة وواضحة لمصطلحات الكفاح.

 

المراجع:

Stares, P. (2020). Perspectives on a Changing World Order. New York City: Council on Foreign Relations .

Propper, E. (2021). China, the United States, and the Gaza Crisis: Israel for Xinjiang? Retrieved from INSS: https://www.inss.org.il/publication/guardian-of-the-walls-china/

Efron, S. (2018). The Future of Israeli-Turkish Relations. Retrieved from RAND: https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR2445.html

Lerer, L. (2021). Tensions Among Democrats Grow Over Israel as the Left Defends Palestinians. Retrieved from The New York Times: https://www.nytimes.com/2021/05/15/us/politics/democrats-israel-palestinians.html

Yee, V. (2021). ‘Social Media Is the Mass Protest’: Solidarity With Palestinians Grows Online . Retrieved from The New York Times: https://www.nytimes.com/2021/05/18/world/middleeast/palestinians-social-media.html

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى