المنظمات القاعدية والعمل الجماهيري
من المهم في أي عملية تنموية تحررية لأي مجتمع الانتباه والتنبه للمؤسسات القاعدية بوصفها طرفًا أساسيًا في عملية البناء والتنمية والعدالة الاجتماعية، لا بوصفها جهة منفذة أو مستفيدة من المشاريع، والأهم تعزيز العلاقات بين المنظمات القاعدية والمجتمعات المحلية والمنظمات الأهلية والأحزاب، فالمنظمات القاعدية المجتمعية تلعب دورًا هامًا وتعتبر طرفًا أساسيًا في السياسات التنموية وتنفيذها. وللهيئات المحلية مصلحة أيضًا في التعاون مع المؤسسات القاعدية لقربها من المجتمع وقدرتها على الوقوف على مشاكل وقضايا الناس، الأمر الذي ينعكس بالضرورة على جودة الأداء والعمل وتلبية الحقوق والاحتياجات ولربما إشاعة ممارسات التحرر والحكم الرشيد.
إن فهم أي مسار تنموي يتطلب وبالضرورة الانطلاق من واقع الناس وأوضاعهم والسير على خطاهم والأخذ بعين الاعتبار ما يتطلعون إليه من غايات، فالتنمية بمعناها وجوهرها تعني المشاركة الواسعة والتكافؤ في الفرص بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، النساء والشباب والأطفال والرجال والأشخاص ذوي الإعاقة والمسنين وغيرهم. ولا يخفى على أحد أن عملية التنمية في الواقع الفلسطيني معقدة جدًا خاصة في ظل وجود الاحتلال، بل وربما زاد الأمر تعقيدًا وجود سلطة فلسطينية ترتبط بشكل كليّ مع الاحتلال من حيث الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأمنية، لا بل إن التنمية في فلسطين على عمومية المفهوم تخضع لأنواع مختلفة من التعطيل والتعقيد بسبب ما ذكر، إضافة إلى تعدد مصادر التمويل الأجنبية وارتباطها بعوامل محددة وقد تكون أيضًا موسمية وضمن اشتراطات خاصة.
وجد في فلسطين مطلع القرن الماضي بعض الجمعيات والمؤسسات الطوعية والخيرية، وعلى قلتها تنافس عليها أبناء العائلات الكبيرة في الأغلب الأعم، لا بل طابع الجمعيات كان العمل به يقتضي "بريستيجًا خاصًا" لأبناء أو بنات الذوات لملء أوقات فراغهم أو الاستعراض لعمل دعوي لعائلاتهم.
وتتباين المعطيات حول الدور التاريخي للمنظمات القاعدية في فلسطين، خاصة وأن مفهوم العمل الجماهيري والطوعي عبرها لم يظهر واضحًا للعيان إلا عبر العقود الأربعة الأخيرة، نتيجة الصراعات الفصائلية وتنافس الأحزاب السياسية.
ففي الوقت الذي انشدت فيه الكثير من قوى وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية إلى العمل العسكري والعنفي، حتى مطلع الثمانينيات، كانت بعض الاتجاهات الأخرى قد انتبهت إلى أهمية العمل عبر الجمعيات والمؤسسات القاعدية والنقابات، وهذا ماكان وبشكل واسع للشيوعيين الفلسطينين أو أتباع الحزب الشيوعي في الضفة الغربية وغزة، الذين افتقروا للعمل المسلح فحاولوا الاستعاضة عن ذلك بالوصول إلى قلوب الجماهير عبر النضالات الاجتماعية والنقابية. كما نشط أنصار وأعضاء من الإخوان المسلمين في ذلك عبر جمعيات خيرية ومؤسسات إغاثية، وذلك إلى جانب بعض المؤسسات الكنسية أو الجمعيات المسيحية الدولية مثل "ymca"، على أن اهتمام رجالات تابعين للنظام الأردني في ذات الموضوع كان قائمًا، إلى جانب البعد العشائري والبلدي في النوادي والجمعيات.
ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الاحتلال الصهيوني ومنذ عشية احتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة كان قد ضيق الخناق على العمل الجماهيري بكل أبعاده، حتى أن بعض الأندية والجمعيات التي كانت قائمة على قلتها وجاءت من مخلفات العهد الأردني تقع تحت رقابة شديدة من قبل الحكم العسكري، رغم طابعها الرياضي والثقافي الضيق. وأكثر من ذلك فإن الانتخابات التي كانت تجري كان يُدقق في نتائجها، بعد أن يكون الاحتلال قد غيب أي رمز وطني عنها، وكانت النتائج التي تظهر ورغم كل المتابعة لا تحظى بموافقة الحكم العسكري، وكثيرًا ما كان يتم استبدال "الناجحين" بغيرهم أو بعملاء وخاصة من روابط القرى لضمان سير الأمور على ما يرتضيه المُحتل. وليس غريبًا أن يتنبه الاحتلال لأهمية المنظمات القاعدية وبالتالي يقدم على تعطيلها، خاصة وأنها على اتصال مباشر مع الشارع الفلسطيني، ولها القدرة على تشكيل الوعي إن توفرت لها الإدارات الجادة.
على أن ما ميز فترة السبعينيات هو التسابق بين بعض أطراف اليسار إلى جانب أنصار الحزب الشيوعي على السيطرة عبر أنصار لهم على بعض الأندية المسيحية مثل نوادي الأرثوذكس والمطران وما شابه، وبدأ صراع عنيف بينهم للسيطرة عليها استمر حتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، حين ظهرت الأطر الطلابية ولجان العمل الطوعية المستقلة لكل تنظيم عن الآخر. وتبعها تشكل النقابات المستقلة لكل فصيل.
هذا الصراع ما ظهر منه وما تَبَطن لفت انتباه المنظمات الأهلية التي شرعت في العمل مع الانتفاضة الأولى، ومع تراجع دور فصائل منظمة التحرير بعد أوسلو، استعر الهجوم على المنظمات القاعدية من المنظمات غير الحكومية وبإيعاز من الجهات الممولة للسيطرة على أركان المجتمع الفلسطيني، ولكن الأخطر وهو بداية اتصال المنظمات الأجنبية بالأطر القاعدية بعد الانتفاضة الثانية لإنجاز برامجها وطموحاتها، وكان للـ "يو إس إيد" الباع الطولى في ذلك.
ومن الجدير ذكره أن عدد الأندية والجمعيات قد زاد بعد دخول السلطة الفلسطينية، حيث تسابقت العائلات على افتتاح نوادٍ ومؤسسات خاصة بها، وسيطرت رجالات عائلية على كثير من النوادي، واستطاعت حركة فتح السيطرة بفعل عوامل السلطة ووهم الدعم أو لرغبة لدى أصحاب النفوذ في الأندية بالتقرب من السلطة.
ويتباين عدد الأندية على سبيل المثال في الضفة الغربية، فهناك من يقول إنها تتجاوز الألف، وهناك من يجزم بأنها لا تزيد عن "600" والفاعل منها قليل جدًا.
ولا عجب أن يسعى جبريل الرجوب المسؤول عن الرياضة والشباب الآن لبسط نفوذه على الأندية والعمل الشبابي، وأن يَحصر الاهتمام فقط بالرياضة، وذلك لأهداف سياسية لا تخفى على أحد. وأكثر من ذلك؛ ماذا يُفهم من محاولات ابن محمود عباس الدخول في تنافس للسيطرة على بعض الأندية كنادي مخيم الأمعري، وتقديم المال لأنصار مفترضين له؟ ورغم كثرة الجهات التي تدعي الوصل بالشباب والمنظمات القاعدية إلا أن اهتمامها شكلي، أو مرتبط بعوامل ومقتضيات التمويل. أو أن أفقها معطل بقدرة وزارة الشباب والرياضة واللجنة الأولومبية التي يسيطر عليها الرجوب، أو وزارة الشؤون الاجتماعية وما شابه.
ولم يكن غريبًا والحال هذا أن تقدم مؤسسة شباب البيرة قبل نحو عامين على استقبال أوباما حين زار رام الله وتحتفل به وكأنه القديس المخلص، وهذه المؤسسة تابعة كليًا لحركة فتح ويسير أمورها رموز من السلطة كحسين الشيخ وسميح العبد وغيرهما.
إنه ومن الأهمية بمكان التعرف على واقع التجمعات السكانية الفلسطينية من حيث الخدمات والبنية التحتية والمجالات التنموية المختلفة من تعليم وصحة وثقافة وترفيه وفن ورياضة، إضافة إلى الواقع الزراعي والحرفي والصناعي والتجاري، وبالتالي التعرف على احتياجات الناس والخدمات المقدمة لهم، والمعوقات القائمة من فقر وبطالة وغيرها.
ويتبين للمتابع أنه ورغم وجود مؤسسات قاعدية مختلفة في المجتمع الفلسطيني إلا أن دورها محدود جدًا ولا يلبي طموح فئات المجتمع من شباب ونساء وأطفال. ورغم تداخل عمل بعضها مع بعض المؤسسات الأهلية مثل الصحية، إلا أنها تبقى دون المستوى المطلوب، فالنشطات الصحية لا تشمل كافة أيام الأسبوع، ولا توجد مستوصفات دائمة ولا سيارات إسعاف وخدمات طوارئ، لا بل إن الكثير من التجمعات السكانية تفتقر إلى المستشفيات والخدمات الصحية التخصصية. وبغض النظر عن انتشار الأندية الرياضية في التجمعات الريفية والشعبية، إلا أنها في المعظم تفتقر إلى الأدوات والملاعب والمقرات المناسبة وأماكن التدريب والمدربين. ويقتصر دور المؤسسات النسوية الأهلية على بعض المحاضرات ودعم منتجات نسوية دون الالتفات إلى مشاكل المرأة الحقيقية من توفير فرص عمل للخريجات والاهتمام بمشاكل التعليم والصحة.
إن الاستجابة المطلوبة من قبل مؤسسات المجتمع المدني ذات الطابع الوطني تقتضي الانتباه إلى التجمعات الشعبية والشبابية المختلفة، بل إن مسؤوليتها تتضاعف بسبب عوامل التعطيل الموضوعية التي تحيط بفلسطين. وبسب الهجمة القوية على الشباب الفلسطيني حيث تكثر محاولات اصطيادهم من قبل مؤسسات تُعنى بالتطبيع أو مرتبطة مع الولايات المتحدة، لتمرير سياسات معينة تُفضي للقبول بواقع الاحتلال وسياساته، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة، أنه حيث فشلت روابط القرى أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، تحاول أن تنجح مؤسسات ارتبطت بأجندتها مع ممولين أجانب طموحهم إجهاض أي فعل ثوري في فلسطين، وما التركيز على أطفال المخيمات والقرى عبر "بذور السلام" و"شباب من أجل السلام" إلا خطوات بهذا الاتجاه.
لقراءة النص كاملاً بصيغة PDF اضغط هنا