المقاومة وإسرائيل.. الخيارات المتاحة والاحتمالات المتوقّعة
نفذ الاحتلال الإسرائيلي موجة تصعيد على قطاع غزة، بدأت بشن غارات استهدفت قيادات وعناصر سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي بتاريخ 9 أيار/ مايو، قوبلت بقصف الغرفة المشتركة، وبتصدّر من السرايا لدولة الاحتلال والمستوطنات المجاورة، ما جعل جولة التصعيد مستمرة حتى ال 14 من أيار/مايو، استشهد خلالها 35 فلسطينيًا، من بينهم قيادات وأعضاء من الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وقتل فيها إسرائيلي بفعل صواريخ المقاومة.
قبل ذلك، وبعد استشهاد الأسير الإداري القيادي في حركة الجهاد الإسلامي خضر عدنان داخل سجون الاحتلال إثر إضرابه عن الطعام، أطلقت المقاومة بغزة رشقات من الصواريخ تجاه المستوطنات الإسرائيلية قبل أن يتم التوصّل لتهدئة بوساطة مصرية. وفي السادس من أبريل/نيسان2023، أعلن الاحتلال الإسرائيلي عن سقوط 30 قذيفة صاروخية في منطقة الجليل المحتل أطلقت من الأراضي اللبنانية.
هذه التطورات دفعت بمركز رؤية للتنمية السياسية في إسطنبول، لاستقراء آراء شريحة من النخبة الأكاديميّة والسياسيّة حول الحالة الميدانيّة وتشابكها، والإجابة عن مجموعة من التساؤلات حول الخيارات الإسرائيليّة أمام استمرارية ما يجري بالضفة من عمليات مسلّحة. وما هي الاحتمالات التي قد يلجأ إليها الاحتلال في التعامل مع جبهتيْ لبنان وقطاع غزة في حال اندلاعهما بشكل متوازٍ؟ وهل يمكن أن تتطوّر الحالة الميدانية إلى انتفاضة ثالثة تشارك بها الجبهات المختلفة؟ وكيف نقرأ مواقف الأطراف الرئيسة ممّا يجري (الاحتلال، فصائل المقاومة، السلطة الفلسطينية)؟ وهل الشارع الفلسطيني مهيأ للدخول بانتفاضة شاملة؟ وما الخيارات الفلسطينية للتعامل مع سياسات الاحتلال (خيارات السلطة، خيارات فصائل المقاومة)؟
يمكن تلخيص آراء الخبراء فيما يأتي:
- الخيار الإسرائيلي الأبرز للتعامل مع الحالة الميدانية بالضفة يتمثل في استمرارية النهج الاستخباراتي لمنع تطوّر الحالة الميدانيّة، وتنفيذ عمليات الاقتحام والاغتيال الموضعي، والتعاون مع أجهزة أمن السلطة الفلسطينيّة في استقطاب واحتواء بعض العناصر من أبناء حركة فتح أو الأجهزة.
- – هدف الاحتلال من التصعيد الأخير على غزة، واغتيال قيادات وعناصر من الجهاد والجبهة، إلى تعزيز الردع الإسرائيلي، ومحاولة تصدير بعض أزماته للساحة الفلسطينية، لكنّه في نفس الوقت لم يهدف إلى توسيع دائرة المواجهة، سواء في استهداف عناصر حماس أو شنّ عمليات عسكرية في الجبهات الأخرى.
- يسعى الاحتلال إلى عدم السماح بتوحيد الجبهات في أي مواجهة مقبلة، خاصة بعد جولة التصعيد الأخيرة في غزة، ورغم ذلك ما زال قطاع غزة، الجبهة المرجّحة لتلقّي أي ضربة إسرائيليّة مستقبليّة في حال نشوب أي مواجهة شاملة أو شبه شاملة، حتى وإن كانت من جبهات خارجيّة.
- هناك حسابات سياسيّة ومصالح لدى الدول التي تمثّل جبهات محتملة ضدّ الاحتلال، وبالتالي لا يمكن القول إنّ قرار المواجهة من جبهات عدّة، هو قرار استراتيجيّ لهذه القوى والدول، وقد يكون استخدام هذا الخطاب جزءًا من تكتيك مرحليّ ليس أكثر.
- التفاعل الشعبيّ الفلسطينيّ مع أي مواجهة مقبلة منوط بطبيعة وشكل وعمق هذه المواجهة ومداها الزمني، فتكتيكات المقاومة في ضرب الاحتلال في المواجهة الأخيرة، وجمعها بين الحزم والواقعيّة على سبيل المثال، لاقى دعمًا فلسطينيًا، وكذلك الحال بالنسبة للشعوب العربيّة، إذ تحتاج إلى تحوّل مهّم لتعزيز حضورها ميدانيًا.
- خيارات السلطة الفلسطينية والأحزاب بشكل عام ما زالت محكومة بالانقسام، وتأثيراته على برامج المقاومة الشعبيّة والسياسيّة، وهذا ينعكس على مجمل الحالة وتطوراتها.
- من أبرز تحدّيات العمل المقاوم الفلسطيني، أن القيادات الفلسطينية في الضفة باتت قيادات بيروقراطية أكثر من كونها ثورية، وباتت أولويات الحفاظ على السلطة أهم من استمرار العمل المقاوم، كما أن قيادات المقاومة في غزة باتت مقيّدة بفعل الحصار، ولا تستطيع ممارسة المقاومة بشكل مستمر.
جواد الحمد، رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في الأردن.
ثمة ثلاثة اتجاهات في التفكير الإسرائيليّ للتعامل مع الحالة بالضفة الغربيّة، الأول: هو مواجهة المجموعات المسلّحة أو المسلّحين الفرديّين بعمليات استخبارية ومجموعات المستعربين. الثاني: التعاون مع أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في استقطاب بعض العناصر، خاصة ذات الصلة القديمة بحركة فتح أو الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتفكيك هذه المجموعات، أو القيام بعمليات اعتقال مباشر من قبلها لبعض هؤلاء الأفراد. والثالث: هو سياسة النفس الطويل في الاختراق والمراقبة بالتعاون مع أجهزة أمن السلطة، والقيام بالتصفية والتحييد بطرق مختلفة.
أما الرؤية الإسرائيلية للتعامل مع غزة، فالاستراتيجية الحاليّة هي المحافظة على هدوء الجبهة الجنوبيّة للاحتلال، وللمستوطنات المحاذية للقطاع، والتعامل مع أي مواجهات بحجمها. وبعد تجربة الحروب الماضية، أصبح مجمل الاستراتيجيين في الجيش الصهيوني لا يؤمنون بعمليات اجتياح شاملة للقطاع أو بالتوجه نحو فكرة القضاء على المقاومة، وخاصة حركة حماس، بالضربة العسكرية القاضية، وثمة أفكار عن احتواء أمني واقتصادي للقطاع، ولعل هذا ما يفسر حرص الاحتلال على تجنب المواجهة المباشرة مع حركة حماس، واستهدافها في العدوان الأخير لسرايا القدس. وعلى ذلك فإن رؤية الاحتلال لواقع القطاع على المدى القريب المنظور هي تحقيق الاستقرار والهدوء.
أمّا جبهة لبنان، فهي تخضع لمعادلة قرار مجلس الأمن الدولي 1701 لعام 2006، والقاضي بحماية حدود إسرائيل الشماليّة من قبل قوات دولية متعدّدة الجنسية قوامها 15000 جنديّ، وقوات من الجيش اللبناني بنفس العدد، وانسحاب الأسلحة الثقيلة للمقاومة إلى شمال نهر الليطاني. وعليه فيعتبر الاحتلال أن المجتمع الدولي هو المعنيّ مع الدولة اللبنانيّة بالتعامل مع المقاومة في حال قيامها بأي عمليات ضدّ الكيان، وفي حال حدوث هذه العمليّات فإن الاحتلال يقوم بقصف المواقع التي انطلقت منها العمليات أو الصواريخ، وبتعاون مع قوة اليونيفيل الدولية بهذا الخصوص. وفي مقابل ذلك فإن استراتيجية المقاومة اللبنانية المدعومة من إيران تقوم على قاعدة الردع من جهة، وحماية لبنان في حال الاعتداء الإسرائيلي من جهة أخرى، ولم تشهد الجبهة اللبنانية حتى الآن أي جدية في عمليات مقاومة حقيقية متصلة، وتظهر المؤشرات أنها ترتبط عادة بنظرة وتوجهات إيران، ولعل الصواريخ الثلاثين التي أطلقت في السادس من أبريل كانت مثالًا على صحة هذا المؤشر؛ إذ جاءت ردًّا على مقتل جنرالين إيرانيّين في سوريا، وردًّا على تحليق طائرة إسرائيليّة مسيّرة فوق وزارة الدفاع الإيرانية في أصفهان، بغض النظر عن الجهة التي وقفت خلف القصف والجهات التي شجعت وسهّلت.
لذلك فإن الاحتلال يقوم باستعدادات إضافية مؤخّرًا بسبب بعض الاختراقات الأمنية التي تمّت من الجبهة اللبنانية، ويغلب أن يكون الردّ بمقدار الفعل المقاوم فقط، للمحافظة على المعادلة الدوليّة القائمة منذ العام 2006 حتى الآن، والتي شكلت حالة استقرار واسترخاء مهمة للجانب الإسرائيلي.
وبالتالي لا أتوقع أن تندلع حرب على أكثر من جبهة في وقت واحد. إذ لم يثبت بالمعلومات، ولا بالاستقراء أي توقعات جدية إزاء ضرورة تحرك أي جبهة استجابة لجبهة أخرى، خاصة أن المعادلات الدوليّة تعمل على مختلف الجبهات باستثناء جبهة قطاع غزة والضفة الغربية، أي أنّ لها ارتباطات وحسابات دوليّة ذات بعد مصلحيّ من قبل الدول المعنيّة في دول الطوق العربيّة وإيران.
وما يعزّز ذلك، أن القراءات لا تزال متباينة لطبيعة المتغيّرات الجارية في الضفة على الصعيد الميداني من قبل الأطراف الفلسطينية، ويبدو أن التعامل معها ما زال بالقطعة وحسب المتغير، ولا تظهر المؤشرات أن هناك سياسات استراتيجيّة واضحة وعليها إجماع.
على المستوى الشعبي، يتفاعل الشارع الفلسطيني أساسًا مع المواجهات مكانيًّا، وأحيانًا على صعيد الوطن، لكنّ أنماط التفاعل تعتمد على حجم المواجهة وطبيعتها، والفرص التي تحملها، فإمكانيّة تجاوب الشعب الفلسطيني في أماكنه كافة مع انتفاضة شعبية عارمة في الضفة إمكانيّة عالية. وهذا يتطلب تحوّلات مهمّة ما زالت العمليات الجارية غير قادرة على الدفع باتجاهها، فما زالت السلطة تعمل على تحجيم هذه الاندفاعات المكانيّة في أكثر من محطة، غير أن استمرار المواجهات مع الاحتلال في أماكن مقطعة جغرافيًا، وغير متحكم بها فصائليًا، يثير الشك في قدرة هذه المواجهات على إحداث تحولات مركزية.
ويمكن القول إن الخيارات الفلسطينية تتبلور حول ثلاثة اتجاهات:
الأول: العمل على تجاوز حالة التشرذم التنظيمي والسياسي والجغرافي الفلسطيني نحو مصالحة وطنيّة على الحد الأدنى.
الثاني: أهمية بلورة صور وأعمال مقاومة شعبيّة متصلة، تدار بغرف عمليات مشتركة، وتحيّد عنها الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة.
الثالث: أهمية تقوية القدرات القتاليّة في غزة والضفة وبشكل منهجيّ، والتحوّل نحو الحرب الشعبيّة المسلّحة طويلة الأمد، والتي يمكن استثمارها سياسيًّا.
من هنا، فإن تأثيرات البعد الإقليمي والدولي، تنبع من إشكالية البعد الإقليمي المحيط بفلسطين، إذ تتمثل بطبيعة التباين بين الدول المجاورة -دول الطوق- وبين القيادة الفلسطينية للسلطة من جهة، وبين فصائل المقاومة من جهة أخرى في البعد السياسي والتحرك الدبلوماسي، رغم أن البعد الإنساني والاعتداءات الإسرائيلية عادة ما توحّد الإقليم لصالح الشعب الفلسطيني، غير أن دعم عمليات المقاومة وبمختلف أشكالها، لم تصل إلى سياسة ثابتة ومستمرة ولا مستقرة لدى مختلف هذه الدول، بما في ذلك السلطة الوطنية الفلسطينية، بل إن ايران لديها حساباتها أيضًا، فهي قد تكون بحاجة إلى تسخين الجبهة لتحقيق مكاسب سياسيّة دوليّة تخصّها، أو رسائل، فيما قد تكون في لحظات أخرى بحاجة إلى التهدئة على هذ الجبهات مقابل تحقيق بعض مصالحها الخاصّة على المستوى الدولي، وتجربة المقاومة اللبنانية المرتبطة بإيران بشكل وثيق دلّلت على ذلك مرات عدّة فيما يتعلّق بقصف صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات الإسرائيلية في الأعوام ما قبل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000. وبالتالي على فصائل المقاومة أن تعمل لتعديل هذه الحالة بحكمة ورويّة، دون اصطفاف مع أي محور عربيّ أو إسلاميّ ضد آخر، أو الانحياز لأي طرف عربيّ أو إسلاميّ في بلاده دون الآخر، حتى تتمكن من بناء الحاضنة الإقليمية بالحدّ الأدنى.
نظام صلاحات، أستاذ العلوم السياسة والدراسات الأمنية، جامعة الاستقلال.
باعتقادي أن الاحتلال سيستمر بالاقتحامات والاستهدافات الأمنية، لأن ذلك أيضًا مرتبط بحسابات استراتيجيّة تتعلق بالإقليم وأدوار الأطراف الإقليمية الفاعلة لا سيما إيران. فالاحتلال مرحليًا يتعامل بحسابات دقيقة ولا يرغب بالتوجّه لحرب شاملة، وهذا ما أثبته العدوان الأخير على غزة، حيث أراد تحقيق أهداف معينة، ولم تكن هناك رغبة في توسع رقعة المواجهة، وعدم الانجرار لمواجهة مفتوحة وشاملة، في ظل الظروف الدولية الحاصلة مثل الحرب في أوكرانيا.
أمّا إمكانية تطور المواجهة، فالتجربة الفلسطينية تقول بأن توسّع الحرب لا يُسهم دائمًا في انفجار الجبهة الداخلية للاحتلال، بحكم أن هذه الجبهة الداخلية لها آلياتها ومنهجها المستقل في التعامل مع أي مواجهة.
على صعيد موقف السلطة والأحزاب الفلسطينية من تصاعد الاشتباكات في الضفة والتصعيد الأخير في قطاع غزة؛ فإنّ العلاقات الداخلية ما زالت محكومة بالانقسام. ولتحقيق تفاعل شعبي واسع مع أيّ حالة مقبلة، فمن المهم ترتيب الأوراق الداخلية وصياغة برنامج نضالي وسياسي مشترك.
فخيارات السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة أن تعمل على إعادة ترتيب علاقتها بالاحتلال وبالإقليم وبالنظام الدولي بشكل عام، على أسس جديدة في ظل انغماس روسي في الشرق الأوسط، وعدم الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية فقط كما كان سابقًا، وهذه التحولات يُمكن البناء عليها بشكل إيجابيّ على مستوى الحراك الفلسطيني.
وعلى صعيد الأدوار الإقليميّة والدوليّة، فهنالك تحولات في خارطة العلاقات الدوليّة، يُمكن إعادة النظر فيها بجديّة، وهذه التحولات الحاصلة، تبشّر بتكوّن نظام دولي جديد، أو تغير في أنماط العلاقات في النظام الدولي بشكله الحالي، وهذا ما نرى مؤشراته الآن مثل التحول في العلاقات الإيرانيّة السوريّة، أو الموقف من سوريا، وهذا ينعكس على الحالة الفلسطينيّة برمتها.
مخيمر أبو سعده، أستاذ العلوم السياسية، جامعة الأزهر، غزة.
هنالك أكثر من خيار قد يلجأ إليه الاحتلال، فرغم أن هناك من يؤيد القيام بعملية (السور الواقي 2) على غرار ما جرى في انتفاضة عام 2000، وتحديدًا الشاباك الذي يتبنّى الفكرة، إلا أن رئيس هيئة الأركان لم يعط كلمته حتى الآن. ولا شك أن استراتيجيّة السور الواقي ذات كلفة عالية، وتسبب له خسائر بشرية، وربما تؤدي لانهيار السلطة الفلسطينية، ودخول الضفة في حالة من الفوضى. لذلك يبدو أن خيار إسرائيل الآخر، هو الاستمرار في معاقبة من يقوم بعمليات، واستمرار العمليات الخاطفة كما تسميها إسرائيل، وتطبيق مقولة نتنياهو “كل من يعتدي ستصله يد إسرائيل”. ومن الواضح أن إسرائيل حاولت تطبيق هذا السيناريو، ليس لمعاقبة المقاومين في الضفة وحسب، بل وكذلك في استهداف الداعمين لهم من قطاع غزة، حيث كان أحد مبررات الاحتلال في اغتيال قادة سرايا القدس في التصعيد الأخير، توجيههم ودعمهم للعمل المقاوم في الضفة الغربية.
لعل أكثر ما يقلق إسرائيل هو فكرة توحّد الساحات، فهذا بالنسبة لها سيناريو مرعب. تاريخيًا، تُحضر إسرائيل نفسها لاشتعال الساحات على أكثر من جبهة، لكنّها لا ترغب بأن يحصل هذا الأمر، ولكن إذا حصل الأمر، وكان هنالك تدخل على أكثر من جبهة، فسوف تستخدم إسرائيل قوتها المفرطة في تدمير البنية التحتية في قطاع غزة وجنوب لبنان.
أمّا حماس والجهاد الإسلامي، فلديهما الرغبة في تصاعد الاشتباكات في الضفة. والشارع الفلسطيني يؤيد فكرة المقاومة المسلحة، وهنالك دعم لأعمال المقاومة والنضال على مستوى الشارع في غزة، وأعتقد في الضفة أيضًا.
على السلطة الاستمرار في معركتها القانونية، والعمل الدبلوماسي، وعليها أن توقف التنسيق الأمني، وأن تواصل معركتها الإعلامية، ولكن أعتقد أن سلطةً مرهونةً باتفاقيات لن تكون حرة التصرّف.
المجتمع الدولي مجتمع منافق، تقف الولايات المتحدة على رأسه، والتصريحات الأوروبيّة الأخيرة التي صدرت عن المفوضيّة الأوربية، “مقززة”، هنالك 10 حزم عقوبات ضد روسيا خلال حربها على أوكرانيا، أمّا 75 عامًا من الاحتلال الإسرائيلي فلم يُفرض عليه أي عقوبات، ولكن رغم ذلك لا بدّ من مواصلة الضغط على المجتمع الدولي، ومحاولة فضحه، وفضح انحيازه.
د. عدنان أبو عامر، أستاذ العلوم السياسية، غزة.
تتراوح الخيارات الإسرائيليّة ما بين ما يسميه الاحتلال بسياسة جزّ العشب المتمثلة بالاعتقالات، والاقتحامات، وصولًا إلى سياسة الاغتيالات، كالحال الموجود في الضفة للمقاومين، وما حدث مؤخّرًا من اغتيال لقيادات السرايا في قطاع غزة. يعتقد الاحتلال أنّ هذا الخيار له جدوى على المستوى القريب، دون أن تتوفر إجابة لسيناريوهات المدى البعيد، وهي حقيقة تُبقي إسرائيل أمام فشل جدي، لكنه في ذات الوقت مثّل ويمثّل بديلًا لعملية شاملة، كما تنادي الأحزاب المتطرّفة في الحكومة، إلا إذا وقع حدث كبير يغيّر الحسابات ويخلط الأوراق، ويجعل الاحتلال يتوجّه لحرب شاملة.
يسعى الاحتلال الإسرائيلي دومًا إلى فصل الجبهات، والحديث عن جبهات متعدّدة يزعج الاحتلال، فما جرى في العام 2021 من مواجهة دخلت فيها غزة والضفة والقدس والداخل المحتل عام 48، جعل الاحتلال يستخلص العبر في الفصل بين الجبهات، والاستفراد بكل جبهة على حدة؛ لأنه يوفر لإسرائيل بعدًا عسكريًا وأمنيًا مريحًا. والبعد الأهم في ذلك، هو البعد السياسيّ والمعنويّ، حتى لا يمنح الفلسطينيين شعورًا بوجود توافق وطني يجمع الكل الفلسطيني خلف خيار المواجهة. مدى نجاح هذا الخيار يبقى مرهونًا بأبعاد عمليّة وسياسيّة، ولكن في حال تم توجيه ضربة لإسرائيل من الجبهات كافة، ففي الغالب ستسعى لاستهداف جبهة غزة بشكل أكبر، قد تصل لعملية عسكرية. أمّا لبنان فستكتفي إسرائيل بتوجيه ضربات محددة لها، بهدف عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع حزب الله، وهو ما لا ترغب به إسرائيل حاليًّا.
ما جرى في رمضان الماضي من إطلاق صواريخ من لبنان والجولان باتجاه الاحتلال، شكّل سيناريو مزعجًا للاحتلال، لكن يبدو أن هذه الحادثة لا تعبر عن سيناريو ثابت ومستمر، وقد يكون الهدف منه تكتيكيًّا مرحليًّا، بمعنى تشتيت الانتباه وإيصال رسائل للاحتلال، وإرباك جبهته الداخلية دون أن يكون قاعدة ثابته حتى الآن.
أمّا مواقف الأطراف المتعددة، فمن الصعب قراءة ذلك من ذات الزاوية أو المستوى، فالاحتلال بالتأكيد منزعج جدًا من ظهور سيناريو الجبهات المتعددة، لذلك يعمل الاحتلال على فصل الجبهات من خلال الجهود السياسية والدبلوماسية على الأرض، وكذلك الجهد الأمريكي في المنطقة، إضافة لوجود عمليات أمنية صامتة تنفذها إسرائيل في عدد من البلدان المجاورة، فهي ليست راغبة بالدخول في حرب على جبهات متعدّدة في ظل حالة الاستقطاب الشديد، وترقّب لما تؤول إليه الأوضاع في سوريا وإيران. أمّا فصائل المقاومة، فهي معنيّة بتعزيز هذا السيناريو في قابل الأيام، لكن دون أن يكون هناك حالة استفزاز للنظم السياسية في تلك الدول من جهة، ولفت الأنظار لها، وبالتالي تسعى إلى أن يكون سيناريو استنزاف للاحتلال من جهة، وأن تصبح عملية تراكميّة واستراتيجيّة للمستقبل من جهة ثانية، دون الذهاب إلى مواجهة عسكريّة مفتوحة. أمّا على صعيد السلطة الفلسطينية، فهي قد تكون الجهة الأكثر خسارة بين الأطراف بهذه الحالة، لأنها غير مستعدة للمواجهة، وبالتالي تنظر بخوف إلى ما قد تحاول فصائل المقاومة تحقيقه؛ لأن ذلك من شأنه أن يضرب عصب مشروعها السياسي القائم على المفاوضات.
تفاعل الشارع الفلسطيني مع أي مواجهة مقبلة، يبقى منوطا بطبيعة وشكل وعمق هذه المواجهة ومداها الزمني، وبالتالي الدخول في مواجهة طويلة نسبيًا، قد يجعل الاحتلال يرتكب حماقات وجرائم، وهذا ليس بوسع الفلسطينيين تحمله، ولهذا السبب يمكن أن يكون الخيار الفلسطيني هو الذهاب في استراتيجية الاستنزاف والضربات، دون الذهاب بعيدًا لحالة مفتوحة ومواجهة عسكرية. وهذا ما ظهر في المواجهة الأخيرة بعد اغتيال قيادات السرايا في أيار/ مايو الجاري، إذ تمثلت تكتيكات المقاومة في ضرب الاحتلال، في الجمع بين الحزم والواقعية، فكان عنوان المعركة “صدّ العدوان”، وقد ساهم ذلك في تعزيز الحاضنة الشعبية للعمل المقاوم.
الأدوار الإقليمية والدولية ذات تأثير كبير على الساحة الفلسطينية على حساب الدور الفلسطيني، فقد بات النفوذ الإقليمي والدولي أكثر تدخّلًا في القضيّة الفلسطينيّة، الأمر الذي يمكن من خلاله تفسير أسباب توافد الموفدين الدوليّين والإقليميّين عند كل جولة تصعيد، وبالتالي هناك توقع لتوسع أكبر في هذا النفوذ، خصوصًا بعد اجتماعَي العقبة وشرم الشيخ الأمنيين، واستئناف برامج التدريب الأمني والعسكري لأجهزة الأمن الفلسطينيّة، خشية من أن تخرج الأمور عن السيطرة.
أيمن يوسف، أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة العربية الأمريكية، جنين.
برأيي خيارات إسرائيل بهذه المرحلة تكاد تكون محدودة، وتتمثّل في النشاط الروتيني بالضفة من خلال الاعتقالات والاغتيالات واقتحام المدن، وهذا لأن الحكومة الحالية ذات بعد دينيّ متطرّف، وهذا سيؤثر على تراجع الخيارات السياسية مقابل الاهتمام بالخيارات الأمنيّة والميدانية، لذلك ستكون الخيارات الميدانية أكثر اهتمامًا، وهذا يعني إمكانية استمرار الاقتحامات للأقصى، وعمليات القتل والاعتقال بالضفة، ممّا يعني أن الحكومة الحالية قامت بعدوانها على غزة واغتيال قيادات السرايا، بهدف ترحيل جزء من أزماتها للساحة الفلسطينيّة، وقد حرصت في ذلك أن لا تستهدف عناصر وقيادات حماس، في محاولة للتفرّد بالجهاد الإسلامي، وعدم السماح باشتعال مواجهة شاملة قد تمتدّ لساحات أخرى.
وإذا توحّدت الساحات فعليًّا في المواجهة مع الاحتلال، فإنّ ذلك قد يؤدي إلى أزمة إقليمية، رغم استبعاد هذا الأمر في ظلّ مؤشّرات التوافق الإيرانيّ السعوديّ، وإمكانيّة انعكاس ذلك في كيفيّة التعامل مع بعض الملفات. وهذا ما قد تستغله إسرائيل بالذهاب نحو التأزيم بهدف خلط الأوراق من جديد، وعدم السماح بتعزيز العلاقة السعودية الإيرانية بشكل أكبر.
أمّا الخيارات الفلسطينية الأكثر وضوحًا في هذه المرحلة، فمنها خيار استمراريّة المواجهة الميدانيّة، وقد يكون هناك خيار الوحدة والتوافق من خلال العودة إلى ترتيب المشهد السياسي عبر الانتخابات. أما الخيار الثالث، فهو محاولة الإبقاء على خيار الالتفاف الإقليمي المساند للقضيّة الفلسطينيّة، والاستقطاب ما بين قيادة السلطة الفلسطينية مع بعض الأطراف، وحماس وفصائل المقاومة مع أطراف أخرى.
أحمد عطون، النائب السابق بالمجلس التشريعي، القدس المحتلة.
منذ فترة طويلة يواصل الاحتلال استهدافه للمقاومة بالضفة وغزة، وقد ازدادت شراسة ذلك منذ بداية العام الجاري، واستخدم كلّ الأدوات الأمنيّة والعسكرية لإنهاء هذه الظاهرة، كان آخرها شن عدوان سافر على قيادات وعناصر سرايا القدس والجبهة الشعبية في قطاع غزة، ومن الواضح أن ذلك لم يوقف حراك المقاومة في الضفة.
أمّا الدعوات المستمرة من بعض الأطراف الإسرائيليّة وقادة الاحتلال لتنفيذ عملية في الضفة، فما تزال في إطار التشكيك لدى الاحتلال نفسه بنجاعة هذا الأسلوب، وذلك نتيجة ما قد يترتب عليها من تبعات، خصوصًا إذا ما ارتقى عدد كبير من الشهداء الفلسطينيين.
المشهد القادم، باعتقادي، هو استمرار الاحتلال بتنفيذ عملياته العسكرية في الضفة الغربية، لكن دون الوصول إلى عملية واسعة، أو اجتياح واسع للضفة، ودون التفكير بالتهدئة والعودة للخلف. فقراءة الميدان وتحليله، ينطلق من سلوك الجماعات الاستيطانية، وتفكير الحكومة الحالية المتطرّفة، وبالتالي فإن المتوقع هو الاستمرارية ضمن دائرة الفعل وردّ الفعل، ومحاولة إرضاء قاعدة اليمين المتطرّف في إسرائيل، وهو ما قد يزيد حدّة المواجهة مستقبلًا.
ومن غير الوارد أن تسعى إسرائيل إلى فتح جبهة مواجهة أخرى في ظلّ ما تعيشه من أزمة داخلية، وقد برزت حالة الانقسام الداخلي بين المستويين السياسي والأمني في إسرائيل، في كيفية التعامل مع التطورات الأخيرة، لدرجة لم نشهدها سابقًا. فالاحتلال يسعى إلى عدم توحيد الجبهات من جانب، ولا يريد أن يتحول ليصبح الطرف المتلقي فقط، لذلك كان الخيار الأنسب له شن غارات على قطاع غزة يستهدف من خلالها قيادات في المقاومة. لذلك أعتقد أن الاحتلال، وفي ظل الظروف الحالية، غير معنيّ بالتصعيد من جديد.
تطور الميدان مرهون بطبيعة الأحداث، فمثلًا ما جرى في رمضان بالمسجد الأقصى كان بمثابة المحرك الأساس، وبالتالي قد يكون هناك انعكاس لأحداث معيّنة في تعزيز حالة المواجهة، وبتقديري فإنّ الإهمال العربي، والتراجع السياسي لقيادة السلطة الفلسطينية، ونجاح المقاومة في إدارة المعركة الأخيرة ضمن إطار الغرفة المشتركة، أوصلت الشعب الفلسطيني لقناعة مفادها أن المقاومة هي الحل الأمثل للمواجهة، خصوصًا إذا ما ارتبط الأمر بالمسجد الأقصى؛ لأنّه يمثل بوصلة توحّد الجميع حولها. وبالتالي فإن المواجهة الشاملة أو الانتفاضة، أمر لا مفر منه مع الاحتلال في ظل سياساته المستمرة. وتقديري أن الاحتلال لا يستطيع أن يخوض مواجهة متعدّدة الساحات، وبالتالي فهو يعيد القراءة في كيفية التعاطي مع الحالة الجديدة ميدانيًا.
الضفة هي ساحة المواجهة الحقيقيّة أمام الاحتلال، وبالتالي فهو يخشى أيّ توحّد خلف الضفة، وهي الأكثر خطورة بالنسبة للاحتلال، وبالتالي فإنّ استهداف الاحتلال يمكن أن يكون مباشرًا، ويحدث إصابات مباشرة، وأجهزة الأمن الإسرائيلية تستنفر مكوّناتها وإمكانيّاتها كافة لمنع أي عمل بالضفة ضمن مستوى عالٍ جدًّا، ومحاولة الضغط على السلطة الفلسطينية نفسها للقيام بمهمة التنسيق الأمني، وملاحقة الحالة المقاومة بالضفة. الاحتلال يريد أن ينهي المقاومة بالضفة، لكنه فشل في ذلك.
استمرار ممارسات الاحتلال يوفر حالة من الإجماع للقاعدة الشعبية الفلسطينية خلف المقاومة الفلسطينية، وهذا ما تؤكده استطلاعات الرأي بشأن تفاعل الشارع الفلسطيني مع ما يجري بالضفة.
أمّا بشأن خيارات السلطة الفلسطينية في التعامل مع الحالة الميدانية، فإن تصاعد المقاومة مؤرّق لها ولا ينسجم مع تصوراتها، فالسلطة أسقطت خيار المقاومة، وبالتالي لا تتبناها، بل تغرق في معادلة التنسيق الأمني، حتى بات دورها الوظيفي أقرب ما يكون إلى معاداة خيار الشعب، وبالتالي تساهم في التفاوض مع التيارات المقاومة كما جرى في نابلس، بهدف احتواء هذه الظاهرة، أو مقاومتها لمنع تمدّدها، وبالتالي ستفشل في كل الخيارات؛ لأنّ وعي الشعب الفلسطيني متقدم على هذه القيادة، وأصبحت مواقفها السياسية واضحة ومفضوحة، والهدف الأساس منها تكبيل العمل المقاوم.
بخصوص أدوار الإقليم والمجتمع الدولي، فهو لم يخرج عن الموقف الإسرائيلي في المنطقة، وواضح جدًا أن هناك تراجعًا للدور الأمريكي في المنطقة، وهناك مشاكل عديدة يواجهها الاحتلال، مثل مشكلة العمق الاستراتيجي، ومشكلة الديمغرافيا، والنزاعات بين التيارات السياسية والدينية الإسرائيلية، وتزايد الفجوات الاجتماعية، وتعاظم الوعي القومي المتنامي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ساهر غزاوي، باحث في القضايا السياسية، حيفا.
استمرارية العمليات المسلحة وتصاعدها في الضفة، من أبرز التحديات التي يواجهها الاحتلال الإسرائيلي، خاصة وأن خيار المقاومة هو الخيار الوحيد أمام الشعب الفلسطيني في الضفة وغيرها، لمواجهة الجرائم البشعة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بشكل شبه يومي، كما حصل في نابلس وجنين وأريحا وحوّارة، إلى جانب استمرار البناء الاستيطاني وشرعنة البؤر الاستيطانية في الضفة. لذلك لا يملك الاحتلال الإسرائيلي إلا خيار مواجهة المقاومة في الضفة، بالمزيد من عمليات الاغتيال وملاحقة المقاومين، وارتكاب المزيد من الجرائم البشعة، خاصة وأن جميع خيارات الاحتلال لإيقاف هذه العمليات، ولوأد المقاومة، باءت بالفشل، بما في ذلك شن الغارات الأخيرة على القطاع، وسابقًا عقد المؤتمر الأمني في مدينة العقبة بالأردن، الذي هدف إلى وأد المقاومة الفلسطينية، ومنع اندلاع انتفاضة ثالثة وشاملة.
نستطيع أن نقرأ التصعيد الأخير على قطاع غزة في سياق تعزيز الردع الإسرائيلي، والذي زاد مؤخّرًا الحديث عن تآكله وضعفه، وبنفس الوقت، فإنّ الاحتلال تجنب إشعال جبهتين، بل حتى تجنب استهداف مقاومين من حماس. ورغم ذلك، فإنّ الاستعدادات الميدانيّة العسكريّة الإسرائيليّة للتعامل مع جبهتي لبنان وقطاع غزة ما زالت قائمة. تصاعد الاشتباكات في الضفة، وعلى الجبهات الأخرى، يشكل التهديد الرئيس للاحتلال الإسرائيلي، الذي سيؤثر عليه وعلى صورته وأمنه على المديين القريب والبعيد، خاصة بعد فشل أو موت خيار التسوية السياسية ومفرداتها. أما فصائل المقاومة، فإنها ستستمر في محاولتها توسيع دور المقاومة، وتشجيع العمليات المسلحة، للوصول إلى مرحلة تفرض فيها شروطها وقواعدها على الاحتلال الإسرائيلي.
أمّا السلطة الفلسطينية، فلم يكن لها دور في حماية الشعب الفلسطيني، ولن يكون لها هذا الدور مستقبلًا أيضًا، وهي أمام مسار سياسي مسدود، لكنّ هذا لا يمنعها من أداء دورها في محاولة تهدئة الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية، ومنع التصعيد كلّما سنحت لها الفرصة، فهذه وظيفتها، ولأجل ذلك أُنشئت.
والمجتمع الدولي لا يتحرّك إلا عندما يشعر الإسرائيلي أنه في خطر، والقمم لا تُعقد لصالح الشعب الفلسطيني، إنما لوأد مقاومته ضد الاحتلال، وضد الجرائم البشعة التي ترتكب بحق أبنائه، كقمة العقبة التي اجتمعت فيها وفود من الولايات المتحدة الأمريكية والأردن ومصر، إلى جانب الكيان الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، فقط لوأد المقاومة الفلسطينية المتصاعدة، لكن هذا لا يعني إقصاء بعض الأدوار الدولية الداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته، إلا أنها تبقى محدودة ومتواضعة أمام الدعم الدولي للاحتلال الإسرائيلي.
حافظ البرغوثي، رئيس تحرير صحيفة الحياة الجديدة سابقًا.
ما يتجاهله كثيرون في قراءة السلوك الإسرائيلي الحالي، هو ما طرح داخل إسرائيل عقب توقيع اتفاق أوسلو، وإن كانت هذه الاتفاقية ستمثل نهاية المشروع الصهيوني بعد الحصول على الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، فمشروع شارون الذي حاول أن يجسده في ترسيم الحدود من جانب واحد بالضفة، واحتفاظ إسرائيل بما تراه ملائمًا لها من أراضي الضفة، وخنق الفلسطينيين في تجمعات سكانيّة، لم يتوافق مع رؤية اليمين الإسرائيلي، الذي يتصدر المشهد في إسرائيل اليوم، وينطلق من أن المشروع الصهيوني لم يكتمل بعد، وبالتالي هناك استمرارية لهذا المشروع من خلال استمرارية الاستيطان بالضفة بشكل كامل، وضم الأردن لهذا المشروع، ولذا يأتي طرح فكرة الطرد للفلسطينيين إما طوعًا أو بالقوة، وما يجري اليوم هو نمو متواصل للمشروع الصهيوني ليشمل كامل أراضي الضفة. هذا يجعلنا نفهم أن السياسة الإسرائيلية الحالية، لا تقوم على رغبة إسرائيليّة في التفاوض، أو التعامل مع أي مسار سياسي.
في المقابل، لا يمكن وصف المقاومة الفلسطينية الحالية على الأرض، على أنها مقاومة منظمة، وإنما شعبية أو فردية، وهي تأتي ضمن رد الفعل على ما يقوم به الاحتلال، وهذا الأمر يجعلنا نفهم لماذا يسعى الاحتلال إلى تحييد قطاع غزة بأي وسيلة كانت، ونجح حتى اللحظة في ذلك، حتى أن حركة حماس لم تشارك على الأقل بشكل علني في الضربات الأخيرة لقطاع غزة، لأن إسرائيل تعي بشكل واضح، أن هناك تباعدًا فكريًا أيديولوجيًا ما بين حماس والجهاد الإسلامي، من حيث فهمها لمستقبل إقامة الدولة.
أمّا الخيارات الفلسطينية، فإننا للأسف وصلنا إلى مرحلة سيئة جدًّا، مفادها أن المقاوم لا يستطيع أن يقاوم كما جرى مع حماس، وأن المفاوض أيضًا لا يستطيع أن يفاوض الاحتلال استنادًا لمفهوم القرارات والمرجعيّات الدولية، وهذا سببه الرئيس حالة الانقسام التي أوجدت حساسية بين طبقات المجتمع الفلسطيني، بدأت بالمستوى السياسي والتنظيمي، ووصلت إلى المجتمع الذي بات تفاعله مع القضايا الوطنية نابعًا من دوافع جغرافية أو تكتلات معينة، وليس من دوافع وطنية، وأصبح مبدأ التفرقة بين المناطق والطبقات هو الأكثر وجودًا.
وفيما يتعلق بالحالة السياسيّة الرسميّة المتمثلة بالسلطة الفلسطينية، فقد أفرزت طبقة مستفيدة من الاحتلال، سواء داخل السلطة نفسها، أو داخل المجتمع المدني، أو طبقة رجال الأعمال التي تخشى على مستقبلها المالي والاقتصادي، وبات الاعتماد الكلي في الاقتصاد الفلسطيني على العمالة لدى الاحتلال بمعدل يصل إلى 40 مليون دولار.
هذا الواقع لا يخلق حالة ثورية، بل يخلق حالة مقاومة شبه فردية، أو مجموعات لا تصل إلى حالة تنظيميّة متماسكة، وبالتالي هذا ليس بالوضع المثالي لمفهوم المقاومة.
إضافة إلى ذلك، لم يعد الوضع السياسي الدولي مثاليًّا للترويج لخيار المفاوضات أو المشروع السياسي وفقًا للشرعية الدولية، والوضع العربي أيضًا بات ينصاع لما يريده الإسرائيليون من خلال مشاريع التطبيع التي جرت، وبالتالي بات الفلسطينيّ يدفع باتجاه خيارات القبول بطلب عربي أيضًا لما يريده الاحتلال.
كل ذلك أدى إلى حالة سياسيّة فلسطينيّة لا يقودها ثوريّون، وإنما بيروقراطيّون، وهي حالة لا تنتج بيئة مريحة للعمل الثوري، وبالتالي الخيار أمامنا هو العودة للمقاومة الشعبية التي انطلقنا من خلالها في الانتفاضة الأولى، والعمل على إعادة بلورة الفعل الفلسطيني خارج بيئة الانقسام، وخارج مفهوم الفئوية.