المشهد السياسي الفلسطيني… دلالات التأجيج وأدواته
أ. سليمان بشارات[1]
عايشت الضفة الغربية خلال الأسابيع القليلة الماضية مشهدان يستدعيان الوقوف عندهما، في محاولة فهم دلالاتهما والعوامل الدافعة لهما؛ تمثل المشهد الأول في محاولات تغييب الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن المشهد السياسي، في إطار ضخ مجموعة من الإشاعات حول وفاته أو تدهور حالته الصحية، فيما تمثل المشهد الثاني في استحضار المظاهر المسلحة والخطاب الإعلامي، الذي رافق حالة الانقسام السياسي الذي عايشه الفلسطينيون في يونيو/حزيران2007 وإعادة الاحتقان الداخلي للضفة.
عادت الروح السياسية الأمريكية والأوروبية بشكل مواز لهذين المشهدين، لتنبعث من جديد عبر سلسلة زيارات وفود إلى رام الله، فكان الوزير حسين الشيخ أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية هو أبرز الحاضرين فيها، في مشهد بروتوكلي يدفع باتجاه طرح تساؤل رئيس حول محاولات تأجيج المشهد السياسي الفلسطيني داخليًا: هل يمكن أن تكون ضمن محاولات الضغط لتسليم واستلام السلطة دون المرور بصندوق الانتخابات؟، أو هي محاولة من المتنافسين على هذا المنصب لإثبات تأثير كل منهما على الميدان عبر أدواته ورسائله في اتجاهات مختلفة، وبالتالي على منافسيه التسليم بالأمر الواقع؟.
إشاعات صحة الرئيس:
نشرت قناة “بي بي سي” البريطانية في 4 حزيران/يونيو 2022 على حسابها الرسمي على “تويتر” ومواقع أخرى خبرًا نسب إلى القيادي في فتح عزام الأحمد، عن تكليف حسين الشيخ ببعض المهام الجوهرية للرئيس عباس، بسبب ظروف صحية ألمت به، ولم تمض سوى ساعات على الخبر حتى خرج الشيخ بتغريدةٍ عبر صفحته على “تويتر” ينفي ما أسماها بالأخبار الصفراء، وأن الرئيس يتمتع بصحة جيدة ويزاول عمله كالمعتاد، دون أن ينفي إن كان بالفعل قد وُكّل بمهام “جوهرية” أم لا، الأمر الذي فتح الباب أمام النقاش حول إن كانت إشاعة الخبر ثم نفي جزء منه محاولة لامتصاص أي موقف معارض لمنح الوزير الشيخ صلاحيات جوهرية للرئيس.
لم يكد يمضي أسبوع حتى عادت الشائعات من جديد للحديث حول تدهور خطير على صحة الرئيس، بل حتى الحديث عن وفاته، ولم تقابل هذه الشائعات بأي تصريحات أو أخبار رسمية تنفيها، إلا بعد مرور قرابة ليلة كاملة، ليجري الحديث بعدها عن مشاركة الرئيس شخصيًا في مؤتمر عقد في جمعية الهلال الأحمر بمدنية البيرة، حول مدينة القدس المحتلة، لتأتي مشاركته بكلمة ألقاها عبر الهاتف، ولتنشر لاحقًا صورته على وكالة الأنباء الرسمية “وفا”، وأمامه شاشة التلفزيون التي تبث المؤتمر، دون تحديد مكان تواجده، وبقي الأمر كذلك حتى ساعات العصر، إلى أن بث تلفزيون فلسطين الفيديو الكامل لمداخلته، الأمر الذي طرح تساؤلًا: لماذا أُخرجت كلمة الرئيس بهذا التتابع وبهذه الطريقة؟.
شكل وصول الرئيس عباس إلى قبرص في زيارة رسمية بتاريخ 13يونيو/حزيران، استمرت ثلاثة أيام، برفقة وفد ضم رئيس جهاز المخابرات العامة، ووزير الخارجية، ومجموعة من الشخصيات، ردًا على الشائعات حول وضعه الصحي، لتظهر أن حالته الصحية اعتيادية، ويمارس عمله بشكل طبيعي.
على الرغم من انتشار العديد من الشائعات في فترات زمانية مختلفة حول صحة الرئيس عباس، وحتى في الأعوام الماضية، إلا أنه كان يخرج إما بمشهد مباشر أمام المواطنين، أو من خلال النفي الرسمي عبر وكالة الأنباء الرسمية، أو المتحدثين باسم الرئاسة، إلا أن هذه المرحلة الوحيدة التي يكون فيها تغييب واضح لنفي الشائعات بشكل مباشر، وكذلك طريقة إخراج النفي التي انحصرت في دائرة ضيقة حول الرئيس، حتى الإعلام الرسمي لم يكن قادرًا على النشر، وهو ما يشير إلى أن هناك ما هو أشبه بالدائرة الضيقة التي تريد تأكيد سيطرتها على زمام السلطة.
تأجيج الشارع:
شهدت الضفة الغربية حالة استحضار لمفردات الخطاب الإعلامي الذي رافق حالة الانقسام السياسي في يونيو/حزيران2007، بشكل مواز لمشهد إثارة الإشاعات حول صحة الرئيس، فقد خصصت قناة عودة الفضائية التابعة لحركة فتح تغطيةً شاملةً وخاصة على مدار عدة أيام، في الذكرى الـ 15 للانقسام السياسي، تحت مسمى “الذكرى الـ15 للانقلاب على الشرعية في غزة”، استضافت من خلالها العديد من الشخصيات السياسية والأكاديمية، التي تهاجم حركة حماس وتعيد إلى الأذهان الخطاب الإعلامي والمضامين التي رافقت الأيام الأولى للانقسام.
أثيرت مجموعة من الشائعات حول أسباب اعتقال 15 مواطنًا من محافظة رام الله والبيرة، عقب وقوع انفجار داخل إحدى ورش النجارة في المدينة، حيث تضمنت الإشاعات اتهامات لهذه المجموعة بمحاولة استهداف مقرات أمنية تابعة للسلطة الفلسطينية، وقيادة الأجهزة الأمنية، وهي أخبار شبيهة بتلك التي حدثت عقب أحداث الانقسام، بتوجيه اتهامات إلى من تم اعتقالهم على خلفية الانتماء إلى حركة حماس أو العمل السياسي، حيث نشرت صفحات مقربة من الأمن والسلطة عن تورطهم في مخطط ضد أهداف للسلطة في الضفة، ونشرت صورًا وخرائط قالت إنها ضُبطت في منزل بعض المعتقلين منهم، إلا أن مجموعة “محامون من أجل العدالة”، التي حضرت بعضًا من جلسات التحقيق معهم، وعرضهم على المحكمة، وتتابع ملفهم، أوضحت أنه لا يوجد أي من هذه المعطيات على أرض الواقع، وأن التحقيق معهم على خلفية الانتماء السياسي.
أما في مدينة نابلس، وفي أعقاب الأحداث الداخلية في جامعة النجاح الوطنية على خلفية اعتداء أمن الجامعة على الطلاب داخل الحرم الجامعي وعلى بوابة الجامعة؛ فقد حملت حركة فتح حركة حماس مسؤولية الأحداث، ثم خرجت مجموعات من المسلحين تحت مسمى “كتائب شهداء الأقصى” بمؤتمرات صحفية في بلدة كفر قليل والبلدة القديمة من مدينة نابلس، تلوا من خلالها بيانات متشابهة في مضمونها الذي يهاجم حركة حماس ويتهمها بمحاولة افتعال أحداث شبيهة بتلك التي صاحبت فترة الانقسام السياسي، وبتهديد الدكتور ناصر الدين الشاعر بشكل مباشر وإطلاق النار على منزله ومنزل شقيقه، بالرغم من عمله وسيطًا ومحاولًا لاحتواء المشكلة الطلابية داخل إطارها الجامعي، وبالرغم من تعرضه هو الأخر للاعتداء من قبل أمن الجامعة.
قراءة في الدوافع:
ما بين إشاعات تدهور صحة الرئيس، ومحاولات تأجيج الشارع في الضفة الغربية وخلق حالة من الخوف، فإنه يطرح سؤال الدوافع، والأهداف، وإن كان ما يجري يصل إلى حالة من العمل المنظم، أم أن إشكالية الاحتقان الداخلي تبقي الواقع السياسي الفلسطيني يعاني نتاج غياب المؤسسات والحالة الديمقراطية؟ وفي هذا الإطار يمكن قراءة الدوافع والأهداف من خلال:
– الصراع على خلافة عباس: أشارت العديد من التقارير الإعلامية العربية و”الإسرائيلية” والعالمية إلى أن هناك حالة من الصراع والمناكفات العنيفة والخلافات الداخلية العميقة التي تعيشها حركة فتح وتياراتها والشخصيات المسيطرة فيها، بما فيهم أعضاء من اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، محاولين حسم مسألة خلافة الرئيس عباس في حالة غيابه، وهذا يشكل دافعُا أمام إصدار العديد من الشائعات حول صحة الرئيس عباس، إما بهدف الضغط عليه لمغادرة المشهد السياسي تحت إطار عدم قدرته على إدارة السلطة، أو مغادرته من باب حرص تأجيج حالة الاقتتال الداخلي وبالتالي نقل صلاحيات السلطة والرئاسة لأي من الشخصيات في حياته لضمان عدم الدخول في صراعات مستقبلية.
في هذا الإطار، عج الموقع الإلكتروني الخاص بالوزير حسين الشيخ بأخبار الوفود الغربية التي التقاها ابتداءً بالوفد الأمريكي تحضيرًا لزيارة الرئيس الأمريكي “جون بايدن” للشرق الأوسط وفلسطين، والتقائه مساعدة وزير الخارجية الأمريكي والوفد المرافق لها، وكذلك وفدًا من وزارة الخارجية الفرنسية، إضافةً إلى سلسلة لقاءات لشخصيات وممثلي مؤسسات محلية وأكاديمية فلسطينية، وكأنها تحمل رسالة أنه أصبح العنوان للمرحلة الحالية والمقبلة في ترتيب الملفات والأوراق المتعلقة بالقضية الفلسطينية على صعد عدة.
– مساعي توحيد الصف الداخلي لفتح: تعاني حركة فتح من حالة تشرذم وصراع داخلي في ظل مرحلة انتقالية تشهدها الحالة السياسية الفلسطينية، وهذا ربما يشكل دافعًا أساسيًا لدى قيادات في الحركة لخلق حالة من الخوف على مستقبل وجود الحركة، بهدف تجميع أطرها وتوحيدها لمواجهة هذا الخطر، خصوصًا في ظل الحديث عن أي ترتيبات سياسيات للمرحلة المقبلة، والتي تجعل الحركة تتخوف من منافسة حركة حماس لها، أو تغييبها عن المشهد السياسي نتاج حالة الصراعات الداخلية.
ختاماً:
يتضح من قراءة المشهد السياسي الفلسطيني الداخلي، أن هناك حالة من الاحتقان الداخلي، إضافة إلى توفر العديد من الظروف والعوامل التي قد تكون دافعًا إلى توتير الأجواء الداخلية، الأمر الذي يتطلب ضرورة التعاطي مع هذه المرحلة ضمن عدد من الخطوات المتمثلة في:
– البحث عن القواسم المشتركة والخطاب الوحدوي بعيدًا عن المناكفات الإعلامية التي يمكن أن تؤجج الحالة الميدانية، وهذا ربما يجعل المسؤولية تقع على عاتق التنظيمات والفصائل المختلفة إضافة إلى المؤسسات الرسمية والأهلية.
– في ظل جرائم الاحتلال وممارساته اليومية بحق مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى، واغتيالاته المتواصلة بحق المقاومين في مدينة جنين ومخيمها، فإن التركيز على مقاومة الاحتلال باعتباره العدو المشترك أمرًا يجعل من الهوية الوطنية مقدمة على الخطاب الحزبي، وكذلك تغلق الطريق أمام من يحاول العبث بالنسيج الاجتماعي والسياسي الداخلي.
– مطلوب من حركتي فتح وحماس باعتبارهما الفصائل الرئيسة، وكذلك باقي الفصائل الفلسطينية العمل ولو بالحد الأدنى على إعادة مفاهيم التواصل والحوار، ومحاولة فتح قنوات جديدة، سواءً من خلال وسطاء عرب، أو إقليميين، أو الحوارات المباشرة، وهي وإن كانت مرحلية فإنها تبقي حالة من الطمأنينة الداخلية لدى الجميع وتسحب الذرائع لأي حالة تصعيدية ممكنة.
– ضرورة العمل مرحليًا لإعادة تفعيل دور المؤسسات الفلسطينية وخصوصًا مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي يمكن أن تمثل مرجعية لأي حالة سياسية طارئة في حال غياب الرئيس الفلسطيني عن المشهد السياسي.
– محاولة التوافق على مرحلة انتقالية واضحة المعالم، وضمن ميثاق شرف فلسطيني داخلي، لحماية النسيج الداخلي الفلسطيني من الاقتتال أو التصارع في حال غياب الرئيس الفلسطيني المفاجيء، دون وجود شخصية انتقالية لتهيئة الأجواء لعقد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله