المشهد الفلسطينيملفات وقضايا

المشهد “الإسرائيلي” يونيو/حزيران 2024

ساهر غزاوي/ لتنزيل التقرير

بعد مرور تسعة أشهر على الحرب على قطاع غزة، ما زال “الإسرائيليون” يتجرعون مرارة الفشل التاريخي الذي تحقق بسبب هجوم السابع من أكتوبر 2023، ويسود الشعور “الإسرائيلي” العام بالوقوع في وحل الحرب في غزة جرّاء التصعيد المستمر بين “إسرائيل” من جهة، وحزب الله والفصائل الفلسطينية في الجنوب اللبناني من جهة ثانية، وقد وصلت المواجهة بين المستويين السياسي والعسكري في “إسرائيل” إلى الذروة في الأسبوع الأخير من شهر حزيران/يونيو، في ظل عدم نجاح الحكومة “الإسرائيلية” وجيشها في الخلاص من مأزق استراتيجي عميق يواجهانه منذ السابع من أكتوبر، في ظل فقدان أيّ حل في الأفق، سواء على صعيد عودة الأسرى “الإسرائيليين” المحتجزين في القطاع، أو على صعيد تحقيق هدف هزيمة حركة حماس، الذي صار مستحيلًا بنظر الكثير من “الإسرائيليين”، أو عودة سكان منطقة الحدود الشمالية إلى منازلهم، ومصير هؤلاء بات مجهولًا، لا سيما في ظل تعنت رئيس الحكومة “الإسرائيلية” في إنهاء الحرب على غزة.

تتجّه الأنظار “الإسرائيلية” نحو الجبهة الشمالية التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، لا سيّما وأنّ التوترات بين حزب الله والكيان “الإسرائيلي” وصلت مؤخرًا إلى ذروتها بعد أن استهدفت غارة جوية “إسرائيلية” أحد قادة حزب الله في المنطقة الوسطى من الشريط الحدودي الجنوبي، وتسببت مسيرات مفخخة أطلقها حزب الله في الأسابيع الأخيرة باشتعال حرائق اجتاحت شمال “إسرائيل”، والذي سبق إجلاء معظم سكانه منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. 

يُسلط الإعلام “الإسرائيلي” الضوء على تعقيدات “الوضع الصعب” الذي يعيشه المستوطنون القاطنون شمالي “إسرائيل”، في ظل عدم استطاعة الحكومة إعادتهم إلى بيوتهم قبل استعادة الأمن، وترفض الأغلبية الساحقة من هؤلاء المستوطنين التوصل إلى تسوية مع حزب الله، تفضي إلى إنهاء التصعيد المتواصل منذ الثامن أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهناك عائلات “إسرائيلية” لن تعود إلّا إذا كان هناك اتفاق يُبعد حزب الله 15 كلم على الأقل عن الحدود، وبعد 8 أشهر من الحرب، فإنّ قرابة 100 ألف “إسرائيلي” من قاطني الشمال ما زالوا لاجئين، ويعيشون خارج منازلهم، واضطر معظمهم إلى التوقف عن العمل، وفُصِل الأطفال والمراهقون من مؤسساتهم التعليمية إلى مؤسسات تعليمية مؤقتة، في بيئة جديدة وغير مألوفة لهم، وفي ذات السياق فأنّ الجيش “الإسرائيلي” كان قد أعلن في 16 أكتوبر تفعيل خطة لإجلاء سكان 28 مستوطنة ممن يعيشون على مسافة تصل إلى 2 كم من الحدود مع لبنان، فيما يصف قائد المنطقة الشمالية للجيش “الإسرائيلي” الجنرال “أوري غوردين” إخلاء المستوطنات الشمالية بأنها “أعظم إنجاز لحزب الله“، مشيرًا إلى أنه لو كان الأمر بيده لكان قد تجنب إخلاء المستوطنات في منطقة الشمال.

الدخان يتصاعد إثر غارة إسرائيلية على قرية كفر كلا في الجنوب اللبناني (الفرنسية)

تُبين استطلاعات الرأي “الإسرائيلي” رغبة المستوطنين في الشمال في حرب مع لبنان، ويفضلونها على التسوية مع حزب الله، بل إنّ جمهورًا واسعًا من “الإسرائيليين” يؤيدون شنّ هذه الحرب، إذ إنّ 46% من “الإسرائيليين” يرون أنه تجب على الدولة المبادرة لشن حرب على حزب الله، حتى في ظل الحرب المتواصلة ضد قطاع غزة، وقد صرّح مؤخرًا رئيس الحكومة “الإسرائيلية” “بنيامين نتنياهو” الذي هدد سابقًا بتحويل لبنان إلى غزة، بالقول: “إذا توصّلت “إسرائيل” إلى اتفاق يسمح بعودة سكان الشمال إلى منازلهم، فـيمكن حينها التوصل إلى تسوية مع حزب الله“، وخلال زيارته للحدود مع لبنان توعد وزير الحرب الإسرائيلي “يوآف غالانت” بإعادة لبنان إلى العصر الحجري في أي حرب مع حزب الله، قائلًا: “نحن لا نبحث عن حرب، لكننا على استعداد لها، سنصل إلى مفترق اتخاذ القرارات بالنسبة لنا وللعدو أيضًا، إذا أراد الذهاب إلى حرب سنعلم عندها ما يجب فعله”، وقال أيضًا: “البدائل المتاحة أمامنا كثيرة، ونحن نعمل على تنميتها من حيث إعداد القوة العسكرية دفاعيًا وهجوميًا، وهذا يمكن أن يحدث بسرعة، ومن ناحية أخرى يجري إعداد البديل السياسي، وهو الأفضل دائما”، بينما يرى وزراء “اليمين المتطرف”، أمثال “بن غفير”، ضرورة اجتياح لبنان وتدمير حزب الله، بقوله: “علينا شن حرب شاملة على حزب الله، “إسرائيل” لم تتعلم الدرس، وعدم جدوى الاتفاقيات في الـ20 سنة الأخيرة”، وينضم إلى هذه الجوقة التحريضية وزير الخارجية “الإسرائيلي” “يسرائيل كاتس” الذي هدد بشن هجوم حاد على السلطات الإيرانية، ولوّح بحرب مدمرة تشنها “تل أبيب” على حزب الله اللبناني إذا لم يتوقف عن إطلاق النار وانسحب من جنوب لبنان، بقوله: “فسنتحرك ضده بكل ما أوتينا من قوة حتى يعود الأمن ويعود السكان إلى منازلهم”.

على وقع هذا المشهد، يتصدر النقاش “الإسرائيلي” التخوف من حرب استنزاف متواصلة تشل الحياة في معظم أنحاء “إسرائيل”، ومن دون قدرة على الحسم، فالجيش “الإسرائيلي” ليس جاهزًا الآن لحرب واسعة في لبنان، وليس قادرًا حاليًا على تحقيق إنجاز كبير مقابل حزب الله، وتغيير الواقع في الشمال بشكل دراماتيكي، وفي أفضل الأحوال، فإن حربًا في الشمال ستنتهي بتسوية سيئة يتم التوصل إليها بثمن مؤلم، وفي حالة معقولة أكثر، لن تنتهي الحرب، وفي السياق يلفت المحلل العسكري في القناة 13 “الإسرائيلية” “ألون بن دافيد” إلى أنه منذ تأسيس الجيش “الإسرائيلي” قبل 76 عامًا، لم يُؤهَل لحرب تستمر لتسعة أشهر، وإنما كجيش ساحق، يستدعي قوات الاحتياط بسرعة، ويشن حربًا ويحسم خلال فترة قصيرة ويعود إلى الوضع الاعتيادي، وجميع الخطط العسكرية التي وضعها الجيش “الإسرائيلي” قبل 7 أكتوبر كانت لحرب تستمر لأسابيع معدودة، ولم يتوقع أحد حربًا تستمر لسنة أو لسنين.

تزداد الأصوات “الإسرائيلية” التي تؤكد على أنه من أجل تحقيق الأهداف في الحرب على غزة، لا بدّ من الأخذ بالحسبان كلّ الاعتبارات والقدرات “الإسرائيلية”، وليس بصورة عمياء، ومنها احتمالية وقف جبهة غزة إذا ما قرر الجيش ووزير الحرب مواجهة التحديات في لبنان وإيران، واعتبر رئيس “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة “تل أبيب”، والرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”) “تَمير هايمان” أنّ على “إسرائيل” استخلاص الدروس من الحرب على غزة قبل أن تشن حربًا على لبنان، مشيرًا إلى أنّ “فشلًا في الحرب (على لبنان) سيضع “إسرائيل” في وضع أخطر من وضعها الحالي، ولذلك فإنّ توقيت الحرب أقل أهمية من الإنجاز فيها، وينبغي شنها فقط في ظروف تضمن الانتصار، كما يقول إنّ “إسرائيل” ستجد نفسها في وضع إشكالي ومعقد أكثر بأضعاف من وضعها الحالي؛ فالردع “الإسرائيلي” سيتآكل أكثر، والاقتصاد سيتضرر بشكل كبير، و”إسرائيل” ستتحول إلى دولة منبوذة بنظر العالم الغربي، والعلاقات الناعمة مع دول السلام والتطبيع العربية من شأنها أن تستمر بالتدهور،  كما رجّحت تقارير “إسرائيلية” أنّ دخول “تل أبيب” حربًا متعددة الجبهات ومنها حرب واسعة مع حزب الله سيكون له تأثير وعواقب وخيمة على المناعة القومية “الإسرائيليةّ، خاصة وأن هناك تراجعَا ملحوظَا مؤخرًا في المناعة القومية للمجتمع “الإسرائيلي”، مقارنة بالأشهر الأولى للحرب على غزة.

في الوقت الذي أشارت فيه صحف أجنبية إلى أنّ “إسرائيل” لن تستطيع حماية سكانها من صواريخ حزب الله، فإنّ صحيفة “إسرائيل اليوم” تناولت التحديات الصعبة التي قد تواجه “تل أبيب” في حال حدوث حرب على الجبهة الشمالية مع حزب الله، وقالت إنه يعني القتال على جبهتين في الوقت نفسه، وترى هذه الصحيفة أنّ أبرز هذه التحديات يتمثل في تقديرات الجيش بأن أنظمة الدفاع الجوي لن تكون قادرة على حماية جميع المناطق المأهولة بالسكان من صواريخ حزب الله، مما يدفعه للتركيز على الدفاع عن البنية التحتية الحيوية للمجهود الحربي.

تشير التقارير “الإسرائيلية” إلى أنّ “تل أبيب” لم تتخذ بعد قرارًا حول توسيع القتال مع حزب الله إلى حرب واسعة في لبنان، وأنّ الآراء داخل هيئة الأركان العامة للجيش “الإسرائيلي” حول تصعيد كهذا متناقضة، وأنّ القرار “الإسرائيلي” من شأنه أن يتأثر بوضع سباق الرئاسة الأميركية، خاصة بعد الظهور الضعيف للرئيس الأميركي “جو بايدن” في المناظرة أمام خصمه “دونالد ترامب”.

أمام هذه المستجدات، وازدياد الوضع تعقيدًا في منطقة الحدود الشمالية التي تشهد تصعيدًا حادًا بين “تل أبيب” وحزب الله، تجد “إسرائيل” نفسها أمام مجموعة من التحديات التي ربما تقلل من احتمالية واندفاع المستوى السياسي والعسكري نحو خيار الذهاب لحرب شاملة مع حزب الله في الشمال، بيد أنه في حال اندلاع حرب واسعة على حزب اللّه، فإنّ “إسرائيل” تريدها ضربة سريعة تقوض قدرات الحزب من خلال استخدام أسلحة غير تقليدية ومدمرة على نطاق واسع في حالة اتّساع رقعة الحرب، لأنّ “إسرائيل” لا تستطيع خوض حرب طويلة الأمد، ويمكن القول إنّ السيناريو الأكثر ترجيحًا حتى الآن هو زيادة التصعيد “الإسرائيلي” في الجبهة الشمالية.

سؤال الجاهزية لحرب مفتوحة:

تتساءل صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن جاهزية الجيش “الإسرائيلي” في المواجهة المفتوحة المحتملة مع حزب الله في الجبهة الشمالية بسبب غرق الجيش في قطاع غزة، وتقول إنه بعد تسعة أشهر من القتال في غزة، والتي أفرغت مخزونات الجاهزية في جوانب الأدوات والذخيرة، عصرت قوات النظامي والاحتياط بشكل غير مسبوق، وأفرغت الشرعية في العالم لعمل “إسرائيل”، لذا يجدر أن نتوقف عند كلمات “حتى بثمن حرب إقليمية”، وبالذات في جانب جاهزية الجيش “الإسرائيلي” لحرب كهذه، يمكن أن نجادل في أهلية الجيش للمعركة في لبنان.

كما تشير التقديرات المالية “الإسرائيلية” إلى أنّ استمرار تجنيد الاحتياط سيرفع العجز المالي ونسبة العجز المالي مقابل الناتج، ولن يكون بحسب الهدف الذي وضعته الحكومة، أي بنسبة 6.6%، وإنما سيرتفع العجز إلى 8% من الناتج، وتفسر التقديرات ذلك بارتفاع ميزانية الأمن وتجاوز بنود فيها توقعات سابقة، حيث استدعى الجيش “الإسرائيلي” مئات آلاف جنود الاحتياط في بداية الحرب على غزة، وتعزو التقديرات إلى أنّ أحد أسباب ارتفاع العجز هو الإنفاق الكبير على قوات الاحتياط، وعدم تسريح عدد كبير من هذه القوات، وتعزو التقديرات المالية “الإسرائيلية” إلى أنّ أحد الأسباب الأكثر تأثيرًا على بقاء عديد القوات مرتفع بهذا الشكل هو أنّ الجيش أصدر أوامر استدعاء لآلاف الجنود النظاميين الذين كانوا على وشك تسريحهم من الخدمة العسكرية، وتحولوا بين ليلة وضحاها إلى عناصر احتياط يتلقون أجرًا أعلى بكثير.

  • أزمة تجنيد “الحريديم”:

لازم النقاش “الإسرائيلي” بشأن تجنيد أو إعفاء الشبان “الحريديم” من الخدمة العسكرية الحقل السياسي منذ إقامة الكيان “الإسرائيلي”، وشكلت تاريخيًا هذه المسألة موضع خلاف حاد، على الصعيد السياسي والاجتماعي “الإسرائيلي”، بين بعض الأوساط العلمانية من جهة، والمجتمع “الحريدي” من جهة أُخرى، وفي هذه الأيام وصلت إلى احتدام الأزمة السياسية العميقة داخل التحالف الحكومي “الإسرائيلي” لتبلغ أخطر مراحلها منذ تأسيس الكيان، على اعتبار أنها أزمة جوهرية تَطال لُب علاقة الأحزاب “الإسرائيلية” مع جمهور ناخبيها.

أصدرت المحكمة “الإسرائيلية” العليا في 25/6/2024 قرارًا يقضي بإلزام الحكومة ببدء تجنيد “الحريديم” من طلاب المعاهد التوراتية، ووقف تحويل الميزانيات للمؤسسات “الحريدية”، في أعقاب انتهاء مدة القانون الذي يعفيهم من الخدمة العسكرية في صفوف الجيش “الإسرائيلي”، وقد أثار هذا القرار استهجان الائتلاف الحكومي الذي يسعى إلى سَنّ قانون لتسوية هذه القضية منعًا لتفاقم الأزمة الداخلية مع “الحريديم”، وصدر قرار المحكمة بالإجماع من قِبل أعضائها التسعة، ووقع على القرار القائم بأعمال رئيس المحكمة “عوزي فوغلمان” عن كافة القضاة، وأوضحت المحكمة في قرارها أنه تم التأكيد على الموقف الحالي للمؤسسة الأمنية، وهو أنّ هناك حاجة ملموسة وعاجلة لإضافة أفراد إضافيين، في خضم حرب صعبة، وبات عِبء عدم المساواة أكثر حِدة من أي وقت مضى، ويتطلب تعزيز حل مستدام للقضية، وشددت المحكمة “الإسرائيلية” في قرارها على أنه لا توجد مقارنة بين احتياجات الجيش في الأوقات العادية، واحتياجات الجيش في أوقات الحرب، وهناك حاجة ملموسة وعاجلة لأفراد إضافيين، وفي سياق ذلك، استدعى رئيس الحكومة “الإسرائيلية” “بنيامين نتنياهو” رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن في “الكنيست” “يولي إدلشتاين” إلى ديوان رئيس الحكومة، وطالبه بتوضيح موقفه بشأن الإجراءات التشريعية لقانون إعفاء “الحريديين” من التجنيد، وتمديد الخدمة في صفوف قوات الاحتياط، في ظل إعلان الأخير أنّ قانون التجنيد سيتم إقراره بتوافق واسع، أو لن يتم إقراره على الإطلاق.

تشير التقديرات “الإسرائيلية” إلى أنّ مسألة تجنيد الشبان “الحريديم” في صفوف الجيش “الإسرائيلي” بات أمرًا حتميًا للتصعيد من الأزمة الداخلية في الائتلاف الحكومي “الإسرائيلي”، وترى كذلك أنّ الحرب التي اندلعت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر قلبت الموازين بالنسبة لل”حريديم”، حيث لم تتمكن الحكومة من تشريع تسوية جديدة بخصوص إعفاء طلاب المعاهد الدينية بعد انتهاء مدة التسوية القانونية السابقة في حزيران/ يونيو 2023، حيث تغيرت احتياجات الجيش تمامًا، وهناك حاجة ضرورية، بل ووجودية لزيادة عدد المجندين في الجيش، وترفض غالبية الأحزاب العلمانية، والعديد من حركات الاحتجاج “الإسرائيليّة” الإعفاءَ الجارف الممنوح لطلبة المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة، وتطالب بـِ “التساوي في حَمْل العبء”، كما تعتبر هذا الإعفاء تهربًا من الخدمة العسكرية، في الوقت الذي “يقاتل خيرة أبنائنا وبناتنا في ساحة المعركة”، بحسب تعليق لرئيس حزب “إسرائيل بيتنا” “أفيغدور ليبرمان”.

 ترجح التقديرات أن تُفضي هذه الأزمة إلى تفكك التحالف بسبب الخلافات العميقة بين مركبات هذا التحالف وداخل حزب “الليكود” ذاته، خاصّة وأنّ “الحريديم” يشكّلون مجتمعين 18 نائبًا في الائتلاف الحاكم الحالي من أصل 64 نائبًا، ممثلين من خلال حركة “شاس” التي لديها 11 مقعدًا، وحزب “يهدوت هتوراة” الذي لديه سبعة أعضاء في “الكنيست” (من أصل 120)، وفي المجتمع “الإسرائيلي” العام يبلغ عدد “الحريديم” أكثر من 1.3 مليون نسمة، ما نسبته 13.6% من عدد السكان، ولهم حياتهم الخاصة التي تتميز بانعزال كبير عن سائر المجتمع، ورغم عددهم القليل نسبيًا، إلّا أنّ تأثيرهم كبير في حياة المجتمع “الإسرائيلي” والساحة السياسية.

يعكس هذا المشهد الأزمة السياسية “الإسرائيلية” التي كانت دومًا تُؤجَّل لأسباب واعتبارات سياسية داخلية، بيد أنّ الوضع تغير منذ السابع من أكتوبر 2023، وبات الجيش بحاجة إلى قوى بشرية تعوض عن الخسائر في الحرب على غزة، والحالة الاقتصادية لا تسمح باستمرار رصد ميزانيات لل”حريديين” والمتدينين على حساب تقليصات في سائر الفروع، وبات من غير المقبول على غالبية المجتمع “الإسرائيلي” المس بقيم المساواة وبتقاسُم للعبء غير منصف لصالح الفئات المتدينة التي “لا تسهم” لا في الجهد العسكري ولا في الحالة الاقتصادية وأسواق العمل،  ومما يعمق الانقسام في المجتمع  “الإسرائيلي” ويزيده تصدعًا، تظاهر عشرات الآلاف من أنصار الفصائل “الحريدية” المتشددة رفضًا لمساعي تجنيد “الحريديم” في صفوف الجيش “الإسرائيلي”، في احتجاج بات يشهد مواجهات عنيفة مع الشرطة، وإغلاق طرق وتقاطعات مركزية في القدس، وإلقاء الحجارة وإشعال النار في صناديق القمامة، ما حدا بوسائل الإعلام العبرية لوصف هذا المشهد بـ “فقدان السيطرة”.

  • رفض الخدمة العسكرية والهجرة الخارجية:

ناقشت وسائل إعلام “إسرائيلية” موجة الرفض للخدمة العسكرية في غزة، والتي بدأت تنتشر في الجيش “الإسرائيلي”، حيث تشمل مئات الجنود والضباط في الاحتياط الذين يرفضون العودة إلى قطاع غزة، على اعتبار أنّ العملية العسكرية في رفح تُعرّض حياتهم وحياة الأبرياء للخطر، وأنها لن تعيد الرهائن، كما تقول صحيفة “هآرتس“، وتفيد حركة “يوجد حد” التي تساعد رافضي الخدمة بدوافع ضميرية بأنّ عدد رافضي الخدمة “غير مسبوق” في الحرب الحالية على غزة، وقد طرأ ارتفاع في عدد الجنود “الإسرائيليين” الذين يرفضون الخدمة في الجيش “الإسرائيلي”، احتجاجًا على سياسة الحكومة ضد الفلسطينيين، وتبين الحركة أنّ توجهات رافضي الخدمة بدأت في منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أي بعد أسبوع من شنّ “إسرائيل” الحرب على غزة، ولا تزال تصلها طلبات كهذه من جنود، وقد ساعدت قرابة 40 جنديًا ومجندة رفضوا الأمر العسكري باستدعائهم لقوات الاحتياط، وتلقت الحركة قرابة 100 طلب بالمساعدة من رافضي الخدمة العسكرية خلال الحرب الحالية، بينما كانت الحركة تتلقى 10 – 15 طلبًا كهذا في السنة، وحوالي 40 طلبًا في سنوات الحرب على لبنان والانتفاضتين الفلسطينيتين.

كشفت حركة “يوجد حد” في تقرير لها أنه إضافة إلى رافضي الخدمة بدافع أيديولوجي، بدأت مؤخرًا ظاهرة رفض خدمة من جانب جنود تراجعت معنوياتهم بسبب إطالة الحرب، ففي نهاية نيسان/أبريل أعلن حوالي 30 جندي احتياط في لواء المظليين، الذين استُدعوا للخدمة العسكرية في رفح، رفضهم المثول فيها، لأنه خلال أشهر الحرب الطويلة تضررت دراستهم وعملهم وعائلاتهم، وتسبب ذلك بضائقة نفسية وجسدية، بالإضافة إلى أنّ هناك حالات معدودة لرفض خدمة عند الحدود الشمالية أيضًا، وعدد غير قليل رفضوا الخدمة في منشآت اعتقال مثل “سديه تيمان” التي تُرتكب فظائع فيها.

 يشهد الكيان “الإسرائيلي” منذ السابع من أكتوبر 2023 موجة كبيرة من الهجرة العكسية، وإجمالي عدد “الإسرائيليين” الذين غادروا البلاد ولم يعودوا أكبر من نصف مليون من إجمالي عدد المواطنين الذين عادوا، ففي أيلول/ سبتمبر، والأسبوع الأول من تشرين الأول أكتوبر 2023، كما هو الحال في كل فترة عطلة، غادر حوالي مليون “إسرائيلي” البلاد لقضاء العطلات والرحلات والزيارات العائلية في الخارج، وعاد حوالي 400 ألف منهم إلى “إسرائيل” خلال العطلات، بينما حوالي 600 ألف منهم لا يزالون في الخارج في منذ السابع من أكتوبر، وفي الربع الأول من عام 2024، غادر “إسرائيل” نحو مليون و50 ألف “إسرائيلي”، ودخلها نحو مليون و30 ألف “إسرائيلي”، ليكون عدد المغادرين أكبر بنحو 20 ألفًا من عدد الداخلين، وفي أبريل/نيسان غادر حوالي 645 ألف “إسرائيلي” “إسرائيل”، ودخلها حوالي 580 ألفًا، وبالتالي فإنّ عدد الأشخاص الذين غادروا في أبريل/نيسان كان أكبر بنحو 65 ألفًا.

يمثل هذا العدد الكبير من المهاجرين تحديًا كبيرًا للحكومة “الإسرائيلية” ولجيشها، خصوصًا في ظل الحرب المستمرة على أكثر من جبهة، وبالتالي فإنّ هذه الهجرة الكبيرة أثّرت بشكل مباشر على الجيش “الإسرائيلي”، حيث يرفض العديد من الجنود الاحتياطيين الانضمام إلى الجيش، في ظل التصعيد الأمني المستمر، مما يُعقد من مهمة الجيش في الحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي، وتُشير التقديرات إلى أنّ حوالي 30,000 جندي احتياطي قد غادروا البلاد، مما يزيد الضغط على القيادة العسكرية والسياسية في البلاد.

(عدد “الإسرائيليين” المغادرين البلاد والعائدين إليها، وعدد المتبقين في الخارج منذ 7 أكتوبر 2023 حتى نهاية نيسان 2024).  

الشهرمغادرةعودةالفرق بين المغادرة والعودة (لم يعودوا)
7-30 تشرين أول 2023230.000302.00072.000
تشرين ثاني 2023140.000194.00054.000
كانون الأول 2023250.000256.0006000
كانون الثاني 2024284.000294.00010.000
شباط 2024346.000325.00021.000
أذار 2024419.000414.0005000
نيسان 2024645.000580.00065.000
المجموع2.314.0002.365.000233.000

تشير الإحصائيات إلى أنّ عدد “الإسرائيليين” الذين يقيمون بشكل دائم في الخارج وصل إلى حوالي 800,000 شخص، معظمهم لا ينوون العودة إلى البلاد في المستقبل القريب، ويمكن أن نلخص هذا التخوف في تصريح لرئيس الوزراء “الإسرائيلي” الأسبق “نفتالي بينيت”، الذي دعا فيه مواطنيه إلى عدم مغادرة “إسرائيل”، التي تمر بأصعب أوقاتها منذ عام 1948 نتيجة للارتدادات المباشرة للحرب المستمرة منذ تسعة أشهر.

  • ازدياد انتشار الأمراض النفسية بين جنود الاحتلال:

لا زالت التقارير “الإسرائيلية” تتوارد حول ما يعانيه الجنود “الإسرائيليون” الذين شاركوا في المعارك من أزمات نفسية أُخضعوا على إثرها للعلاج النفسي، ومع مرور الوقت فإن الموارد اللازمة لعلاجهم باتت مستنفدة، ما يستدعي منهم الانتظار وقتًا طويلًا جدًا لتلقي المساعدة الصحية، وقد بات يُسبب استمرار الحرب صعوبات نفسية لدى الكثير من “الإسرائيليين”: جنودا ومستوطنين، ما أوجد تحديات غير مسبوقة لمقدمي الرعاية الصحية النفسية، في ضوء عجزهم عن التكيف مع الحياة بدون هذه العلاجات، ومواصلة إلحاق الضرر بأجسادهم، وحدوث إصابات ذات تأثير عقلي.

منذ السابع من أكتوبر، عُولِج ثلاثة آلاف جندي وشرطي ممن يعانون من أمراض نفسية، فقط بسبب انخراطهم في الأحداث، حيث تعرضوا لإصابات وصدمات نفسية، ويشعرون بالذنب والفشل والضعف، ولعلّ إطالة أمد الحرب يزيد من الصعوبات أمام علاجهم، خاصة جنود الاحتياط الذين يعانون من صعوبة إعادة التكيف مع الحياة المدنية العائلية، ما يجعلهم يدخلون في حالات اكتئاب حادة مجددًا.

وفقًا لبيانات وزارة الصحة، فإن نحو 3200 “إسرائيلي” يدخلون مستشفيات الطب النفسي، وفي بداية الحرب، كان آلاف المرضى يعالَجون بالعلاجات النفسية يوميًا دون دخول المستشفى، ويتلقى اليوم 170 منهم العلاج في الرعاية النهارية، مع العلم أنّ معظمهم عرضة للانتحار، رغم عدم توفر معلومات دقيقة حول الظاهرة، لكنهم يحتاجون إلى دخول المستشفى، ويعانون أمراضًا نفسية حادة، تنشأ من عالمهم الداخلي، وكوارث في العالم الخارجي، وتبدو صعبة على معظمهم، ما يزيد من الصعوبات النفسية الناجمة عن هذا الوضع.

يتعزز الإدراك لدى الرأي العام “الإسرائيلي” بأن أهداف الحرب التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة منذ تسعة أشهر لن تتحقق، وباتت الدعوات “الإسرائيلية” الرافضة للفكرة الغوغائية المسماة “النصر المطلق” التي تبناها رئيس الحكومة “الإسرائيلية” “بنيامين نتنياهو”، وبحسبهم، فإن من ينظر إلى الواقع بمنطق وصدق، يدرك أنّ عصر الانتصارات المطلقة قد انتهى، ولا بدّ من التوقف عن الحديث عن النصر المطلق، والكفّ عن الكذب، بزعم أنّ بقاء الدولة أهم من بقاء الحكومة التي قادتها إلى حالة الانحدار الحالية، وإلّا فإنها ذاهبة نحو مزيد من الدمار الذي تعيشه حاليًا في الشمال، بعد أن عاشته في الجنوب، وربما ينتقل هذا الدمار إلى وسط الدولة.

يقول الجنرال “يائير غولان” نائب رئيس الأركان الأسبق في الجيش “الإسرائيلي”، والزعيم الجديد لحزب العمل، والذي ينادي بأن يحرر “الإسرائيليون” أنفسهم من الشعار الأجوف “النصر الشامل”، لأنّ الحرب على غزة لم تؤد إلّا لمزيد من التورط “الإسرائيلي” في غزة، وجباية المزيد من الأثمان الباهظة من جنود الاحتلال، دون جدوى، فضلًا عن كون هذه الفكرة لا تستند إلى أيّ استراتيجية، لأنّ بقاء جيش الاحتلال لفترة طويلة في غزة سيكرر الواقع المأساوي الذي استنزف الاحتلال في لبنان، لكنه هذه المرة، وفي غزة، أكثر فتكًا بعدة مرات.

فيما يتعلق بتحقيق أبرز أهداف الحرب المتمثل بالقضاء على حركة حماس وتدميرها بالكامل، فإن العديد من القادة “الإسرائيليين“، سواء سياسيين أو عسكريين، باتوا يعترفون بأنّ هذا الهدف ليس واقعيًا، بل أقرب إلى الأماني التي اصطدمت بقوة المقاومة رغم فارق الإمكانيات، وهو ما يشير بوضوح إلى الإقرار بالهزيمة النفسية والفكرية الإستراتيجية “الإسرائيلية” التي تتزامن مع هزيمة ميدانية غير مسبوقة في قطاع غزة، بيد أنه بات واضحًا أنّ “نتنياهو” أصبح مصدرًا للخلافات داخل المجتمع “الإسرائيلي”، ويعتقد أنه مع استمرار الحرب، سيصبح المجتمع “الإسرائيلي” أكثر انقسامًا.

  • حكومة الحرب على المحك:

على وقع الهجوم الحاد على “نتنياهو”، واتهامه بالتسبب بانقسام المجتمع “الإسرائيلي”، وإطالة مدة الحرب على غزة التي من شانها أن تدمر “إسرائيل”، وسط الدعوات إلى طرده، فإنّ استقالة “بيني غانتس” و”غادي أيزنكوت” ضيّقت الحبل على حكومة “نتنياهو”، إذ أعلن الوزيران في “كابينيت الحرب” “الإسرائيلي” “غانتس وأيزنكوت”  (9/6/2024) استقالتهما من حكومة الطوارئ “الإسرائيلية” التي أُقيمت بعد اندلاع الحرب على غزة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وهي خطوة كانت مُقرّرة بالنسبة إلى “غانتس”، لكنه أجّلها على خلفية قيام الجيش “الإسرائيلي” باستعادة 4 مخطوفين “إسرائيليين” محتجزين في قطاع غزة، وهم أحياء.

يُبين آخر استطلاع “إسرائيلي” أجرته صحيفة “معاريف” أنّ 44% من “الإسرائيليين يفضلون “بيني غانتس” لرئاسة الحكومة مقابل 38% يفضلون “نتنياهو”، على ضوء ذلك، تبقى حكومة “نتنياهو” الحالية على المحك، لا سيّما وأنّ “الكنيست” “الإسرائيلية” ستخرج لعطلتها الصيفية في 28 يوليو، وتعود في 27 أكتوبر، ما يعني أنّ أمام “الحريديم” شهر فقط لتسوية مسألة التجنيد الإلزامي لطلاب المعاهد التوراتية ووقف تحويل الميزانيات للمؤسسات الحريدية، في أعقاب انتهاء مدة القانون الذي يعفيهم من الخدمة العسكرية في صفوف الجيش “الإسرائيلي”، فإما تسوية أو إسقاط الحكومة.

في موازاة ذلك، لا يزال عشرات الآلاف من “الإسرائيليين” يتظاهر في عدة مواقع للمطالبة بإسقاط حكومة “بنيامين نتنياهو” وإجراء انتخابات مبكرة، وإبرام صفقة تبادل أسرى مع حركة حماس، بالرغم من ذلك فإنّ “نتنياهو” لن يُقدّم حكومته على طبق من فضة لمعارضيه، ولن يتجه إلى انتخابات مبكرة، إلّا إذا كان على قناعة بأنّ انتخابات كهذه ستُعيده إلى رأس الحكومة مع أغلبية أكبر، وهذا حتى الآن ليس قائمًا.

الخاتمة:

تكشف هذه التطورات أنه بعد مرور نحو تسعة أشهر على هذه الحرب فإن حرب استنزاف في كل الجبهات باتت من أبرز التحديات التي يواجهها الكيان “الإسرائيلي”، خاصة وأنّ الحرب بين حزب الله و “إسرائيل” على حدود لبنان الجنوبية متواصلة منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بموازاة حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة ردًا على عملية “طوفان الأقصى”، حيث باتت هاتين الجبهتين تستنزفان “تل أبيب” أكثر من أن تقربها من الحسم، بينما تنعكس تداعيات الحرب على المشهد “الإسرائيلي” الداخلي بازدياد وطأة التصدعات والانقسامات السياسية والاجتماعية في المجتمع “الإسرائيلي”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى