ملفات وقضاياشؤون إسرائيلية

المشهد “الإسرائيلي” يوليو/تموز 2023

عدنان أبوعامر

بدا شهر يوليو طويلًا على “الإسرائيليين”، حيث اشتمل على العديد من التطورات السياسية والأمنية، الداخلية والخارجية، بدءًا من استمرار توتر الساحة الفلسطينية، وما أعقبها من العدوان على جنين، وإقدام المقاومة على إطلاق قذائف صاروخية على المستوطنات في قلب الضفة الغربية، وصولًا إلى انتقال التوتر إلى الجبهة الشمالية، وتزايد الحديث حول مواجهة توشك أن تقع مع حزب الله، رغم رغبة الطرفين بعدم وقوعها، خشية إلحاق أضرار غير مسبوقة بهما، مما يجعل من حرب لبنان الثانية عام 2006 نموذجاً مصغراً عما سيحدث في نسختها الثالثة، أمّا التوتر الثالث الذي شهدته الساحة “الإسرائيلية” فقد جاء داخلياً، على صعيد مزيد من انسداد الأفق أمام الأزمة السياسية المستحكمة، والتخوّف من اندلاع حرب أهلية، وفي غمرة هذا التوتر العسكري في الساحتين الفلسطينية واللبنانية، تواترت التسريبات عن إمكانية إبرام اتفاق تطبيع مع السعودية، بالتزامن مع جهود حثيثة تبذلها واشنطن لإنجازه، رغم اصطدامه بمطالب المملكة حول أمنها القومي، والتقدم في القضية الفلسطينية.

  • غلاف جنين!

تتوالى التقارير “الإسرائيلية” في الأسابيع الأخيرة عن إطلاق صواريخ فلسطينية باتجاه المستوطنات، وفحص جيش الاحتلال أنباءً عن إطلاق صواريخ نحو ما بات يسمّى “غلاف جنين”.

تعود أولى عمليات إطلاق الصواريخ من الضفة الغربية إلى بداية مايو، حين رصد الاحتلال محاولات بدائية تدلّل على تطور ملحوظ في إمكانيات المقاومة ووسائلها وأدواتها، والبدء بمرحلة جديدة من الصراع المتواصل، مما أفسح المجال أمام وسائل الإعلام “الإسرائيلية” لبدء ترديد مفردة “غلاف جنين”، في إشارة الى “غلاف غزة”، الذي يتعرّض منذ أكثر من عشرين عامًا لصليات صاروخية على مدار الساعة من المقاومة في غزة.

خلال العدوان الأخير على غزة في مايو، زعم رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) “رونين بار”، إحباط خلية في جنين عملت على تصنيع قذائف صاروخية لإطلاقها، مع أنّ مقاومي الضفة الذين يبدأون محاولاتهم المتواضعة لتصنيع الصواريخ يواجهون سلسلة عقبات ومعيقات، أهمها الحصار المشدد عليهم، وقلة إمكانياتهم وخبراتهم، وملاحقة السلطة الفلسطينية لهم، بعكس حكومة حماس في غزة، التي شكّلت داعماً للمقاومين، وإسنادا لهم، رغم أنّ قرب جنين من المستوطنات يجعلها أكثر خطرًا وتأثيرًا وقدرة على زعزعة استقرار المستوطنين.

تمثل الضفة الغربية أهمية استراتيجية على مختلف الأصعدة، حيث إن أقرب نقطة بين حدودها نزولًا باتجاه الغرب إلى العمق “الإسرائيلي”، ووصولًا إلى البحر تتراوح بين 12-15 كلم، وتطل جبالها على عمق المناطق “الإسرائيلية”، وتشرف بالكامل على أكثر من 45% من مساحة الشريط الغربي، ولذلك قد تكون خطة المقاومة للمرحلة القادمة في الضفة هي امتلاك صواريخ نوعية.

تبذل المقاومة من جهتها الكثير من الجهد لتطوير القدرات الصاروخية في الضفة، والمنطق الذي يوجهها هو خلق تأثير على الوعي “الإسرائيلي”، وبمجرد إثبات قدرتها على القيام بهذا الشيء، فستحرج الاحتلال كثيرًا، وستضع جمهوره بحالة من القلق والاضطراب، وستخلق انقسامات بين الجيش والمجتمع والمستوى السياسي، لأنّ الجهات الأمنية لن تكون قادرة على الإيفاء بما هو مطلوب منها، فإطلاق صاروخ على تجمع سكاني، أو على بنية تحتية، قد ينتج عنه تأثير يوازي تأثير عدد من الهجمات التي يُخَطَط لها لمدة طويلة جداً.

  • الجبهة الشمالية:

لا زال التوتر الأمني يتزايد على طول الحدود اللبنانية-“الإسرائيلية”، وتشهد المنطقة مؤخرًا المزيد من الأحداث المتسلسلة، يرافقها تزايد مستوى الاستفزازات مع مرور الأيام، في ظل التوقعات “الإسرائيلية” بأن حزب الله يريد الحفاظ على صورته على أنه منظمة مقاتلة، وترسيخ صورة “الضعف الإسرائيلي”، ما يفسح المجال لطرح المزيد من الأسئلة والأجوبة حول ما يحدث في هذه المنطقة الحدودية الحساسة، ولعلّ ما زاد من التخوفات “الإسرائيلية”، اقتراب عشرات اللبنانيين من الخط الحدودي، وإقامة الحزب لعدة خيام عادية، لكنها باتت جزءً من أعمال المقاومة التي روّج لها مؤخرًا، وهي أفعال يفترض أن تكون دون عتبة الحرب بالنسبة له، وفي الوقت ذاته تساهم في السياسة اللبنانية الداخلية، مما يطرح تساؤلات حول خلفية كل الأحداث الأخيرة الجارية على الحدود، وإصرار الحزب على عدم إخلاء خيامه التي أقامها.

تعتقد الأوساط “الإسرائيلية” أنه بعد حلّ مشكلة الخط الحدودي البحري، فإن الحزب يبحث عن نقاط احتكاك مع الاحتلال تحافظ له على مفهوم المقاومة، وعلى صورته على أنه منظمة مقاتلة، واليوم هناك 13 نقطة تفتيش حدودية محلّ نزاع بينهما، أشهرها مزرعة شبعا ومزارع الغجر المثيرة للاهتمام، فمنذ عام نُصِب سياج يسمح بفتح القرية أمام “الإسرائيليين”، ولم يفعل الحزب شيئًا، لكنه اختار الآن الردّ، والآن يبدو السؤال مشروعًا عن سبب زيادته في رفع ألسنة اللهب في الآونة الأخيرة، وبالرغم من أنّ التقديرات “الإسرائيلية” تؤكد أنّه ما زال الحزب لا يريد إشعال المنطقة في حرب، لكنه بات أكثر جرأة، لأنه يعتقد أنّ مجال المناورة الخاص به قد زاد، لذلك يقوم بالمزيد من الأشياء التي يعتبرها أقل من عتبة الحرب.

الخلاصة “الإسرائيلية” أن هناك جدلًا حول ما إذا كان من الصواب استخدام القوة لتحريك الخيام، لكن يبدو أنّ هناك أمورًا أكثر إلحاحًا للتعامل معها، وبالتالي فإنّ هناك محاولة لاستنفاد الطرق الدبلوماسية، فمن وجهة نظر الاحتلال قد يكون من الأنسب أن يشن حملة عسكرية ضد لبنان، بزعم استهداف إنتاج الصواريخ الدقيقة التي يحاول الحزب صناعتها، رغم خشيته من تبعاتها، في الوقت ذاته، قد يختار الحزب سلّماً للنزول عن الشجرة الطويلة التي تسلّقها، وحقق إنجازا في الساحة اللبنانية، وإن لم يحدث ذلك فهناك في “إسرائيل” من يرى أنّ صراعًا محدودًا حول الخيام يشكل فرصة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة التي بدأت بهجوم مجدّو، مرورًا بحقل كاريش، وإطلاق الصواريخ من جنوب لبنان.

يتزامن هذا التوتر المتصاعد مع مرور سبعة عشر عامًا على اندلاع حرب لبنان الثانية في مثل هذه الأيام من عام 2006، مما أثار الانتباه إلى أنهما يستعدان للحرب الشمالية القادمة، حيث زاد الحزب من قوات النخبة ودقة إطلاق النار، وقلّص جيش الاحتلال من خطوات الحزب، وزاد من رصيد أهدافه، والقناعة السائدة أنه طالما أنّ اللهب على الحدود مرتفع، فإنّ أي سوء تفاهم قد يؤدي إلى صراع مسلح، لا يعرف أحد كيف سينتهي.

  • الحرب الأهلية:

لافت ما تشهده دولة الاحتلال في الأسابيع الأخيرة من استقطاب يقفز بخطوات متسارعة نحو حدوث ما لم تشهده منذ تأسيسها قبل أكثر من سبعة عقود، من خلال الدعوات المتعارضة للنزول إلى الشوارع، وتهديد الوزراء اليمينيين باعتقال المتظاهرين المعارضين للحكومة، وإقدام أحد عناصر اليمين على دهسهم، وصولًا إلى دعوة المعارضة إعلان العصيان المدني، ولا يُعرف أين وكيف ستنتهي هذه الأزمة السياسية المتفاقمة.

من الواضح أنّ هذه المستويات غير المسبوقة من التحريض المتبادل بين الحكومة والمعارضة تأخذ “الإسرائيليين” إلى منطقة غير معروفة بالنسبة لهم، فهل سيقتصر الأمر على المظاهرات الأسبوعية كل يوم سبت، وما يتخللها من إغلاق الطرق العامة، أو تنظيم مظاهرات معارضة في نفس المكان والزمان مؤيدة للحكومة، مع أنّ هناك من يتوقع أن تصل الأمور إلى تكرار سيناريو الاغتيال السياسي، كما حصل مع “اسحق رابين” في 1995، باعتباره وصفة سحرية لحل هذا الخلاف، ورغم أنّ أوساط المعارضة اليسارية الليبرالية مستبعدة من هذا الخيار الدموي، لكن اليمين المعتاد على هذه السياسة قد يلجأ إليها، وهنا لا أحد يعلم أين ستذهب دولة الاحتلال في هذه الأزمة المتفاقمة، مع العلم أنّ أزمة التعديلات القانونية تدخل شهرها السابع، وسط إصرار من حكومة اليمين على تنفيذها، وعناد من قبل المعارضة، مما دفعهما لولوج مسالك وطرق غير مسبوقة من حيث التظاهرات والاحتجاجات التي بدأت تتخذ وسائل خشنة، وتنامي التحذيرات من تدهور هذا الاستقطاب إلى كابوس الحرب الأهلية، الذي بات مصطلحاً متداولا في وسائل الإعلام والمراكز البحثية والتصريحات السياسية على مدار الساعة، بجانب سواه من مفردات غير معهودة مثل: الفوضى، انهيار الدولة.

بالتزامن مع دخول الاحتجاجات “الإسرائيلية” أسبوعها الثلاثين، تزداد حدة الاستقطابات السياسية والحزبية، وسط انتشار لافت لمفردات واتهامات بين “الإسرائيليين”، لم تكن سائدة في سنوات وعقود سابقة، وشمل ذلك الزعماء السياسيين والكتاب والمعلقين على حد سواء، وليس هناك في الأفق ما قد يشير إلى تراجع في تدهور هذا الخطاب المتداول، بل إن المعطيات السائدة تحفز على مزيد من انحدار النقاشات السياسية للكابوس المسمى “الحرب الأهلية”، أو “حرب الأشقاء”.

يتخوف “الإسرائيليون” من تحقق نبوءة الرئيس السابق “رؤوفين ريفلين” قبل عدة سنوات، حين حذر بأنّ “نتنياهو سيأخذ الدولة معه إذا سقط، صحيح أنّ “إسرائيل” قد تكون بعيدة عن حرب أهلية حقيقية، لكن المسافة تتضاءل مع مرور كل يوم”، ولعلّ رصداً حثيثا لما تشهده وسائل الإعلام والمراكز البحثية والتصريحات السياسية الصادرة عن أقطاب الساحة الحزبية، يترك انطباعًا حقيقيًا بأن “الإسرائيليين” على وشك الوقوع فيما لا تحمد عقباه من كابوس الحرب الأهلية، وأنّ الدولة تقفز بخطوات متسارعة نحو حدوث هذا السيناريو.

إن هذه الانطباعات “الإسرائيلية” تحمل شعورًا بالمرارة، لأنّ “نتنياهو” وشركاءه اختاروا طريقة عملهم بشكل “مخزي”، ولا يريدون نظامًا قضائيًا متوازنًا، فقرروا تدمير التوازنات، وحرق المكابح، والضغط على دواسة البنزين في سباق نحو الهاوية، ومع مرور الوقت سيكون “الإسرائيليون” في الشوارع ردّا على هذه الحكومة الجامحة.

  • تطبيع السعودية:

بالرغم من تعثر مسار التطبيع السعودي “الإسرائيلي”، رغم الجهود الأمريكية المبذولة لإنجازه، إلّا أنّ المحافل “الإسرائيلية” تتحدث عن أنّ قائمة مطالب المملكة من الأمريكيين طويلة ومهمة، رغم أنّ اتفاق تطبيع معها ومع دول أخرى في العالم الإسلامي سيعطي شرعية أكبر لعلاقاتها مع “إسرائيل”، لكن كل ذلك ربما يستدعي من الأخيرة التمسك بجملة من المسائل، وعدم التخلي عنها، وفق ما تعلنه أوساطها السياسية والدبلوماسية.

تشير التقديرات “الإسرائيلية” إلى أنّ اتفاقًا مع السعودية سيمنح دولًا أخرى في العالم الإسلامي فرصة لإقامة علاقات مع “إسرائيل”، مما يطرح تساؤلات حول ما الذي ستكسبه السعودية من الاتفاق، وتحديدًا من الولايات المتحدة، رغم أنّ العلاقات المستقبلية التي ستكون قائمة بين المملكة و”إسرائيل” ستختلف عن نموذج باقي اتفاقيات التطبيع مع الدول الأخرى، وستتقدم العملية بوتيرة أبطأ، ومعايير مختلفة عن سواها، مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، في ظل الحساسيات المحددة والخصائص الفريدة للمملكة.

يجري السعوديون محادثات مع الأمريكيين بشأن مطالبهم مقابل التحرك تجاه “إسرائيل”، وتشمل ضمانات أمنية أمريكية، والتوصل لاتفاقية دفاع رسمية بينهما، و”قائمة تسوق” للأسلحة الأمريكية المتقدمة، تشمل الطائرة المقاتلة المتقدمة إف35، ومساعدة بإنشاء بنية تحتية نووية مدنية، تتضمن القدرة على تخصيب اليورانيوم، ولا مانع ل”تل أبيب” من اتفاق دفاعي بين واشنطن والرياض، بزعم أنّ لديها مصلحة بأمن المملكة، وزيادة الالتزام الأمريكي ببناء تحالفها في المنطقة، مع العلم أنه فيما يتعلق بتوريد الأسلحة الأمريكية المتطورة للسعودية، يتخوف “الإسرائيليون” أن يسهم ذلك في تآكل ميزتهم العسكرية النوعية، أمّا القضية الأكثر حساسية فهي دخول المملكة للنادي النووي، كونه أمراً ليس هيّناً، وله تداعيات بعيدة المدى على توسع الانتشار النووي بالمنطقة، حتى لو كان مدنياً، وبإشراف أمريكي، فقد تطالب دول أخرى بذات القدرة، مثل مصر وتركيا وسواهما.

على صعيد المطالب السياسية السعودية لإنجاز التطبيع، فهي تتعلق بتحقيق تقدم في القضية الفلسطينية، لأنها لا تزال مركزية بالنسبة لها، وتمنحها القدرة على المضي قدمًا بها، لكسب الشرعية العربية والإسلامية لخطوتها التطبيعية، وعلى عكس ما تأمله “إسرائيل”، سيطالب السعوديون بخطوات عملية لصالح الفلسطينيين، لكنها ستواجه صعوبة بذلك بتشكيل الحكومة اليمينية الحالية.

فيما يزداد الحديث “الإسرائيلي” الأمريكي حول قرب إنجاز تطبيع مع السعودية، فقد صدرت أصوات “إسرائيلية” داخلية ترصد ما تقول أنها جملة تحديات خارجية تشجع هذا التطبيع، وصولًا لحالة من الاندماج والتكامل بين “إسرائيل” والمملكة، يتمثل أولها في إيران وبرنامجها النووي، وتكديس كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب دون انقطاع لمستويات عالية باستخدام أجهزة طرد مركزي متقدمة، وتطوير صواريخ قادرة على حمل رؤوس حربية نووية، بجانب التحدي الثاني المتمثل بتعزيز الصين لموقعها في المنطقة، واستغلال الضعف الأمريكي، وتزايد جرأة حزب الله ضد “إسرائيل”، مما يعمل على تآكل صورتها في القوة بسبب أزمتها الداخلية.

يكمن التحدي الثالث في التطورات الفلسطينية، واستمرار تنفيذ عمليات مسلحة من الضفة الغربية، وانخراط حماس فيها، وعزمها على تصعيدها، أمّا التحدي الرابع فهو التوتر مع الإدارة الأمريكية التي يخشى “الإسرائيليون” من خسارتها، وهي فرصة للتعبير عن تحفظاتها على سياسة الاحتلال، ويتعلق التحدي الخامس بتراجع العلاقات مع الدول العربية البراغماتية، نظرًا لما يبدو أنه تباطؤ في الزخم الذي ميّزها بعد وقت قصير من توقيع اتفاقات التطبيع.

الخاتمة:

لا زالت الساحة “الإسرائيلية” بشقيها: الداخلي والخارجي، مقبلة على مزيد من التوترات والاستنفارات، في ضوء بقاء الأزمات الوارد ذكرها في هذا المشهد على حالها، بل وإمكانية أن تنفجر في وجوه “الإسرائيليين”، في ظل فقدان صناع القرار لدى دولة الاحتلال للكوابح اللازمة التي تحول دون إحداث حلحلة في هذه الأزمات المستحكمة، فضلًا عن إمكانية دخول عوامل خارجية عديدة على خط هذه الأزمات، مما يزيد من تعقيد المشهد “الإسرائيلي” في الأسابيع المقبلة، دون القدرة على منعها من الانزلاق الى خط اللارجعة.

لتحميل التقرير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى