المشهد الإسرائيلي يوليو/تموز 2022
د.عدنان أبو عامر
تزدحم الساحة “الإسرائيلية” بجملة من التطورات والأحداث في مختلف القطاعات والمجالات السياسية والأمنية والعسكرية وغيرها، تُقدم في مجموعها صورة للمشهد “الإسرائيلي” الذي يستدعي تسليط الضوء على أبرز أحداثه؛ لفهم أبعادها ودلالاتها، من خلال عدد دوري من المشهد “الإسرائيلي” يصدر أول كل شهر في محاولة لإعطاء لمحة فاحصة للقارئ الفلسطيني والعربي، على اعتبار أن التطورات “الإسرائيلية” باتت متداخلة مع عدد من الساحات المجاورة، فضلاً عن أهميتها بالنسبة للفلسطينيين.
المقدمة:
شهد شهر يوليو/تموز جملة من التطورات “الإسرائيلية” الداخلية والخارجية، وعلى مختلف الأصعدة: الحزبية والسياسية والعسكرية والأمنية، تركت آثارها على الواقع “الإسرائيلي” من الداخل، وعلاقاته الخارجية مع المحيط العربي والمجتمع الدولي، لاسيما و”الإسرائيليون” يتجهزون للشروع في حملتهم الانتخابية لخوض الجولة الخامسة المبكرة في نوفمبر، وما يعنيه ذلك من حالة من عدم الاستقرار الداخلي لديهم.
- “لابيد” يحقق حلمه:
ربما لم يتوقع الصحفي والمذيع التلفزيوني “يائير لابيد” 59 عامًا، أن يصبح رئيسًا لحكومة دولة الاحتلال بهذه السرعة التي تقل عن عشر السنوات منذ أن دخل الحلبة السياسية، وهو الذي لم يخدم يومًا في جيش الاحتلال، بل اقتصر انخراطه فيه على العمل محررًا ومراسلًا لمجلة “بمحانيه” العسكرية، ثم مذيعًا في الإذاعة العسكرية، وصولًا إلى تقديم برامج تلفزيونية، وصدر له أحد عشر كتابًا، ولعب أدوارًا تمثيلية في أعمال سينمائية، وصاحب مقال اسبوعي لمدة 19 عامًا، وعمل في العديد من البرامج الحوارية والإخبارية الرئيسة، التي عملت على ترويج شخصيته بين “الإسرائيليين”.
اليوم، وبعد أن تولى “لابيد” رئاسة الحكومة “الإسرائيلية”، ولو كانت لفترة انتقالية، في الأول من يوليو، فقد بدأ حملته الانتخابية مبكرًا لخوض الجولة الخامسة من الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، على أمل أن يبقى في موقعه هذا أربع سنوات أخرى، إلا إذا حصلت مفاجآت دفعت بـ”بنيامين نتنياهو” زعيم المعارضة من جديد إلى الواجهة، من خلال قدرته على تشكيل الحكومة القادمة، أو أخفق “لابيد” ذاته في الحصول على أغلبية ولو ضئيلة، في الكنيست القادمة، بعدد 61 مقعدًا، وأياً كانت النتائج المتوقعة لانتخابات الكنيست، فقد بدأ “لابيد” شهره الأول في رئاسة الحكومة بأداء مزدحم، داخليًا وخارجيًا، حيث شكلت زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” باكورة لقاءات “لابيد” السياسية، ووقع معه على “إعلان القدس”، الذي تضمن تعهدًا بمنع امتلاك إيران للسلاح النووي، وضمان التفوق العسكري للاحتلال، ودعمه بـ 38 مليار دولار، كما اتصل مع “أنطوني بلينكين” وزير الخارجية الأمريكي، الذي أكد له الالتزام الراسخ بأمن “إسرائيل”، والتقى بمبعوثة الرئيس الأمريكي لمكافحة معاداة السامية “ليبستادت”، وأكدا وقف ظاهرة معاداة اليهود المتصاعدة.
أجرى “لابيد” أول رحلة دبلوماسية إلى الخارج من خلال زيارة فرنسا، ولقاء صديقه الرئيس “إيمانوئيل ماكرون”، وبحثا تطورات العلاقات الثنائية والحرب الأوكرانية والنووي الإيراني، كما التقى بنظيره اليوناني “ميتسوتاكيس”، وناقشا زيادة تعزيز التعاون بالطاقة، كما تحدث مع الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، وشكره على إحباط الهجمات ضد “إسرائيليين” في تركيا، وبحثا توثيق العلاقات الأمنية والاقتصادية، وتوسيع الطيران الثنائي.
أمّا ضمن نطاق الدول العربية، فقد اتصل لابيد بالرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، وناقشا التطورات الفلسطينية، وعواقب حرب أوكرانيا في الأمن الغذائي، والتقى بالملك الأردني “عبد الله الثاني”، وبحثا حلّ الدولتين مع الفلسطينيين، وأوضاع القدس، كما اتصل بولي عهد البحرين “سلمان آل خليفة”؛ لتوثيق تعاونهما، وبالرئيس الاماراتي “محمد بن زايد”، وبحثا علاقاتهما السياحية والاقتصادية.
يشير هذا الرصد السريع لأجندة “لابيد” أنه بدأ مهامه بنشاط ملحوظ، وكأنّه يسابق الزمن لتسجيل أكبر قدر من “الإنجازات” السياسية التي يفاخر بها منافسيه المتوقعين، رغم أن شهره الأول لم يخلُ من تحديات، بل وإخفاقات تمثلت ذروتها بتهديد روسيا بإغلاق مقار الوكالة اليهودية على أراضيها، وتفاقم الخلاف مع لبنان حول أزمة استخراج الغاز من البحر المتوسط.
- تصعيد في الضفة الغربية:
واصل الاحتلال عملياته العدوانية في الضفة الغربية في يوليو، بصورة أكثر ملاحظة من الأشهر السابقة، وصلت ذروتها إلى اغتيال اثنين من المقاومين الفلسطينيين بحي الياسمينة في مدينة نابلس، استكمالًا لسياسة “جز العشب” التي شرع بها الاحتلال منذ سنوات طويلة، لكنها زادت وتيرتها بعد سلسلة هجمات مارس وأبريل ومايو، التي أوقعت قرابة عشرين قتيلًا “إسرائيليًا” بعمليات فردية مسلحة، رغم أن جديد هذه الاغتيالات ما تخللته من مقاومة شرسة، كماً ونوعاً، فقد زادت ساعات الاشتباك بين المقاومين وجيش الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى استخدم فيها الطرفان أسلحة جديدة وثقيلة.
شهدت الضفة الغربية خلال يوليو بجانب الاغتيالات ارتفاعًا في وتيرة الاعتقالات والملاحقات والمداهمات الليلية لمنازل الفلسطينيين، فيما شكّل جيش الاحتلال في القدس ميلشيات مسلحة من المستوطنين للقيام بـ”مهام أمنية”؛ لإحباط عمليات المقاومة، وبدأ المستوطنون حملة لإقناع الحكومة بالعودة للسيطرة على قبر يوسف بنابلس، واقتلعوا 450 شجرة مثمرة بين بلدتي ترمسعيا والمغير برام الله، وافتتح الاحتلال حاجز سالم أمام دخول فلسطينيي الـ48 إلى جنين، وسحبت وزيرة التعليم “شاشا بيتون” تراخيص المدارس الإبراهيمية والإيمان في القدس، بزعم التحريض ضد الاحتلال.
تقدم هذه الأحداث الميدانية صورة بانورامية تقريبية لما قد تشهده الضفة الغربية من تطورات في أي لحظة، سواءً اندلاع انتفاضة ثالثة، ما زالت بحاجة إلى عوامل التثوير الداخلي، أو بحث حيثيات غياب الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن المشهد الفلسطيني، لأي سبب كان، أو زيادة وتيرة الاشتباكات المسلحة بين المجموعات المقاومة، وعودة العمليات الفردية التي استهدفت الجبهة الداخلية للاحتلال.
أياً كان السيناريو الذي ينتظر الاحتلال في الضفة الغربية، فإن هذه الجبهة المتوترة من المتوقع أن تبقي سلطات الاحتلال: السياسية والعسكرية الأمنية، في حالة انشغال وتفكير متواصلين، تحسباً لتحقق واحد من السيناريوهات الواردة أعلاه، التي يشكل كلّ واحدٍ منها تحديًا وتهديدًا لا يقل عن سواه، ويجعل المؤسسة “الإسرائيلية” الحاكمة في حالة استنفار حقيقي، على اعتبار أن أي توتر أمني في الضفة الغربية، لن يبقى داخل حدودها، بل سيتجاوزها إلى داخل الخط الأخضر؛ لأن المسافة الفاصلة بينهما لا تزيد عن صفر، وهذا هو التحدي الحقيقي.
يشير واقع التجربة في الضفة الغربية إلى أن اقتحام نابلس الأخير لن يكون الأخير على صعيد السباق الذي يجريه الاحتلال مع الزمن؛ لإجهاض أي محاولة فلسطينية للمقاومة، حتى لو تخلل ذلك الدخول إلى عمق المدن والمخيمات والبلدات الضيقة المزدحمة لاغتيال المقاومين، وما قد يتخلله من مخاطرةٍ بوقوع مجزرة بحق الفلسطينيين، في جهد واضح لوضع حدّ لحالة الهوس الأمني والخوف والهلع الشديدين التي تحاصر أدق التفاصيل اليومية للمستوطنين في الضفة الغربية.
تشكّل هذه التفاصيل وحدها ضغطًا عالي الحساسية في مجمل الملف الأمني “الإسرائيلي”، والانعكاسات الناجمة عن إمكانية نجاح المقاومة باختراق كل هذه الاحتياطات، وما يعرف بـ”الضرب في المليان”، وهو وحده يدفع باتجاه إشعار المحتلين بفقدان الأمان في كلّ مكان، حتى “الكرفانات” الاستيطانية المنتشرة هنا وهناك.
- تطبيع المغرب يحرق المسافات:
يشير ما شهده شهر يوليو من اتفاقيات ثنائية وزيارات متبادلة مع دولة الاحتلال، بما لا يدع مجالًا للشك إلى أن الرباط تسابق الزمن لتوثيق علاقاتها مع تل أبيب، على مختلف الأصعدة: السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، مما يضع علامات استفهام حول دوافعها لهذه الخطوات التي لاقت رفضًا شعبيًا مغربيًا واضحًا، هذا على الرغم من أن المغرب وقعت اتفاقية التطبيع بعد الإمارات والبحرين.
يمكن الإشارة قبل الحديث عن دلالات التقارب المغربي “الإسرائيلي” خلال شهر يوليو، إلى جملة التواصلات المتبادلة بينهما، من خلال اتصال وزير الحرب “الإسرائيلي” “بيني غانتس” بنظيره المغربي لتعميق العلاقات الثنائية، فيما بحث وزير التعاون الإقليمي “عيساوي فريج” مع رئيس جمعية رؤساء مجالس الجماعات المغربية توفير فرص الاستثمار، وبحث قائد جيش الاحتلال “أفيف كوخافي” مع نظرائه المغاربة تطوير تعاونهم العسكري، وأعلنت الرباط إنشاء عدة مبادرات لتقوية الجالية اليهودية فيها، كما وصل وزير القضاء “غدعون ساعر” إلى الرباط، ووقعا مذكرة للتعاون القانوني؛ لتحديث ورقمنة النظم القانونية، واتفق مع وزير الخارجية على رفع مستوى البعثات الديبلوماسية، ومع رئيس اتحاد الكرة المغربي لإجراء مباراة ودية لكرة القدم.
ليس سرّا أن العلاقات المغربية “الإسرائيلية”، لاسيما الأمنية منها، تعود إلى عقود بعيدة، كما أن الجالية اليهودية في المغرب، قليلة العدد نسبيًا، وذات نفوذ لا تخطئه العين في المملكة، رغم بعد المسافات عن فلسطين المحتلة، وعدم وجود مصالح حتمية وجودية للمغرب مع دولة الاحتلال، لكن العامين الأخيرين، ومنذ أن وقعت اتفاق التطبيع، سابق الجانبان خطواتهما بصورة متلاحقة، لاسيما مع وقوع تطورات ثنائية أو إقليمية لديهما، جعلت المغرب يعتقد “متوهماً” أن دولة الاحتلال لديها الحل السحري لمشاكله الأمنية والسياسية المحيطة به.
يتركز الحديث في هذه المسألة عن مشكلة الصحراء الغربية، ودورها في إنجاز اتفاق التطبيع، حين تعهد الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” بمنح المغرب اعترافه بسيادته على الصحراء الغربية، ثم أقر الاحتلال بذات التعهد، مما اعتبر تدخلا “إسرائيلياً” فجّاً بشأن داخلي مغربي بحت.
فضلًا عن هذه المسألة، ظهر الخلاف المغربي الجزائري حول قضايا عدة، وحالة التورط “الإسرائيلية” السافرة في تحريض الرباط على شقيقتها الجزائر، مما استدعى صدور ردود فعل جزائرية غاضبة عن تنامي العلاقات المغربية “الإسرائيلية”، وخشيتها من أن تكون ضحية لهذه العلاقات المتصاعدة، خاصة في المجال الأمني والاستخباري.
يتمثل الجانب الثالث للعلاقات المغربية “الإسرائيلية” في اعتبار الاحتلال لعلاقاته بالمغرب مدخلا رئيسًا وواسعًا لاختراق شمال غرب أفريقيا، حيث الثروات الطبيعية، والمصالح الأمنية، والتنافس مع إيران في هذه القارة، وصولًا إلى امتلاك موطئ قدم على سواحل الأطلسي، وهذا طموحٌ طالما داعب الاحتلال منذ عقود طويلة.
- زيادة التوتر اللبناني “الإسرائيلي”:
يتصاعد الخلاف اللبناني “الإسرائيلي” يومًا بعد يوم، حول مسألتي ترسيم الحدود البحرية واستخراج الغاز من البحر المتوسط، لاسيما مع صدور التهديدات المتبادلة بين حزب الله والاحتلال، وإمكانية تدحرجها إلى واقع التنفيذ على الأرض، من خلال اندلاع “حرب لبنان الثالثة”، أو ما تسميه دولة الاحتلال “حرب الشمال الأولى”، لاسيما مع تزامن هذه التهديدات مع مرور الذكرى السنوية السادسة عشرة لنشوب “حرب لبنان الثانية” في مثل هذه الأيام من عام 2006.
صحيح أن الجانبين، الحزب والاحتلال، ليس لديهما مصلحة مباشرة في نشوب حرب جديدة، لأنهما يعلمان أكثر من سواهما أن الحرب السابقة ستكون بمثابة نزهة عن الحرب اللاحقة، ورغم ذلك فقد يذهبان إليها مضطرين، انطلاقًا من فرضية “حرب اللاخيار”، حين تصل المفاوضات التي يقودها الوسيط الأمريكي إلى طريق مسدود، فضلًا عن وجود تطورات إقليمية محيطة بهما تتعلق بمفاوضات الملف النووي الإيراني، وإمكانية لجوء الأخيرة إلى تفعيل أذرعها المحيطة بالاحتلال؛ لانتزاع تنازلات أمريكية وغربية تتعلق بحيازتها للسلاح النووي.
تظهر مقابل حوافز اندلاع مثل هذه الحرب كوابح لعدم تحققها، أهمها ما يعيشه لبنان من كارثة اقتصادية معيشية غير مسبوقة، فضلًا عن نتائج الانتخابات اللبنانية الأخيرة التي مني بها الحزب وحلفاؤه بنتائج مخيبة لآماله، بجانب اعتقاد الحزب أن الاحتلال جادّ في تهديداته بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، لأنه سيعتبر أن عدوه في الحرب القادمة هو لبنان الدولة، وليس حزب الله فقط.
الاحتلال ذاته يعترف بأن الحزب يحوز قدرات كفيلة باستهداف جبهته الداخلية، من أقصاها إلى أقصاها، وهي التي منيت بضربات لم يكد ينساها “الإسرائيليون” بعد منذ حروب غزة الأخيرة، مع أن الحزب لديه قدرات تزيد عما لدى المقاومة الفلسطينية أضعافًا مضاعفة، الأمر الذي سيجعل مواقع الاحتلال الاستراتيجية، وبناه التحتية، بما فيها المطارات والموانئ والجسور، أهدافًا مفضّلة لصواريخ وقذائف ومسيّرات الحزب، وهي كلها موانع عملياتية ميدانية قد لا تجعل الاحتلال متحمّساً لمثل هذه الحرب، رغم ارتفاع ضجيج تهديداته.
الخاتمة:
من المتوقع أن تبقى دولة الاحتلال في انشغال حقيقي ومتلاحق بحملتها الانتخابية الخامسة، مما جعلها في حالة من الاستقطاب الداخلي، بين نشوء أحزاب جديدة، وانشقاق أخرى، وتحالفات وخلافات، مما قد يمنحها أولوية على سواها من الملفات والقضايا الخارجية، سواء ما تعلق بالقضية الفلسطينية، أو النووي الإيراني، أو التوتر مع حزب الله، وإمكانية تعثر الطيران “الإسرائيلي” في الأجواء السورية بسبب الخلاف مع روسيا.
هذا لا يعني ألا يكون الاحتلال بأجهزته الأمنية وجيشه في حالة جاهزية واستنفار تحسباً لأي طارئ غير متوقع، خاصة وأن التطورات المحيطة لا تحتمل الانتظار إلى حين إجراء الانتخابات “الإسرائيلية” المبكرة الخامسة، لأنها قد لا تسفر بالضرورة عن نشوء حكومة مستقرة، وبالتالي فقد تؤثر الأجواء الانتخابية على اتخاذ جملة من القرارات السياسية والعسكرية الطارئة والحرجة.