المشهد “الإسرائيلي”  مارس/آذار 2023

شهد شهر مارس جملة من الأحداث السياسية والأمنية في دولة الاحتلال على الصعيدين الداخلي  والخارجي على حد سوا، والتي من المتوقع أن تترك بصماتها على الفترة القادمة، سواء منها ما تعلق بالتراجع المفاجئ للحكومة عن مخططها القانوني الهادف إلى تغيير معالم الدولة من النواحي القضائية، عقب تصاعد المعارضة وضغوط واشنطن، التي رفعت صوتها عالياً في انتقاد ربيبتها الصغرى في المنطقة، بسبب مُضيها قدمًا في إنفاذ انقلابها القضائي، فضلًا عن اتخاذها عدة خطوات ميدانية تجاه الفلسطينيين من شأنها توتير الأوضاع معهم، وكذلك الصدمة التي تلقاها الاحتلال عقب الاتفاق الإيراني السعودي، وما شكّله من انتكاسة في جهود إحكام العزلة على طهران، وصولًا لانفجار مجدّو شمال فلسطين المحتلة الذي جاء على حين غرّة، ومثّل إخفاقًا أمنيًا “إسرائيليًا” من العيار الثقيل.

  • تجميد الانقلاب:

بالرغم من كل مكابرته وغطرسته، أعلن رئيس الحكومة “الإسرائيلية” “بنيامين نتنياهو” تراجعه عن تنفيذ انقلابه القضائي، سواءً كان تراجعًا مؤقتًا أو دائمًا، تكتيكيًا أو استراتيجيًا، لكنّ ما حصل هو تراجع وخضوع لما شاهده في الأسابيع الأخيرة من مظاهرات واحتجاجات عمّت دولة الاحتلال من أقصاها إلى أقصاها، تفاقمت من عدة آلاف إلى مئات آلاف بشكل غير مسبوق، فضلًا عن انخراط كل القطاعات “الإسرائيلية” فيها، وقبل ذلك وبعده الضغوط القادمة من الراعية الأكبر للاحتلال في واشنطن.

اللافت في الأمر أنه قبل يوم واحد من خطاب التراجع، أظهر “نتنياهو” في عرض مذهل انعدامًا للمسؤولية ومستوى غير مسبوق من “الطيش”، حين أقال وزير حربه “يوآف غالانت”، وأغرق الدولة في جنون العظمة، وردّ بكبرياء معروف عنه على الاحتجاجات العفوية الكبيرة بوصفهم “أقلية متطرفة” من الرافضين والفوضويين، رغم تورطه حتى أخمص قدميه فيما وصلت إليه هذه الأوضاع من تدهور، وكادت أن تفقد الدولة سيطرتها، و بغض النظر عن دوافع وحقيقة تجميد “نتنياهو” لخطواته القانونية، فإن ذلك لا يمحو مسؤوليته عن أعمق أزمة في تاريخ دولة الاحتلال، كما أنّ المهلة التي أعلن عنها لن تعيد الثقة لحكومته التي ارتكبت أخطاء كثيرة، وتسببت بأضرار اقتصادية وأمنية ودولية بالغة، كادت أن تدخل الدولة في كابوس الحرب الأهلية.

صحيح أنّ “نتنياهو” حاول أن يتقمص شخصية الحريص على الدولة، لكنّه من الناحية العملية رفع الراية البيضاء، ورغم أنّ مؤيديه سعوا إلى إظهاره على أنه اتخذ قرارًا صحيحًا وقياديًا ومسؤولًا، لكنه عبّر عن ضعف وتراجع لمن يسمي نفسه “ملك ملوك إسرائيل” أمام إمكانية تصاعد المشاهد المؤلمة التي كان سيجنيها “الإسرائيليون” إذا أمعن في عناده ومكابرته.

لقد شهد الكيان أسابيع قليلة من التدهور الاجتماعي في الشوارع، وفقدان التضامن الاجتماعي، وإجراءات سحق الاقتصاد، وتفكك المجتمع والجيش، والإقالة غير الضرورية لوزير الحرب، وإغلاق نصف الاقتصاد، ووقف الرحلات الجوية، وحتى الخطوة الخطيرة المتمثلة بوقف الخدمات الطبية، واقتراب أصداء العاصفة من عصب الدولة التي سعت دائمًا للابتعاد عنه، وأمام كل هذا تراجع “نتنياهو” وخضع، وأدرك بعد طول مكابرة أنّ هناك “حدودًا للقوة”، رغم امتلاكه شبكة أمان برلمانية في الكنيست، إلا أنّها لم تسعفه لتحقيق ما يريد من أطماعه ومخططاته.

  • خلافات الحلفاء:

شهد شهر مارس تطورات متلاحقة على صعيد توتر العلاقات الأمريكية “الإسرائيلية” بسبب الانقلاب القضائي الذي شرعت بتنفيذه حكومة الاحتلال، وإجراءاتها القمعية ضد الفلسطينيين، تخللها صدور جملة تصريحات من واشنطن مفادها أنّ التغييرات القانونية التي تقوم بها حكومة “نتنياهو” تمثل كارثة على الدولة، لأنّ محاولته تحصين نفسه من خلال هذه القوانين لحماية نفسه من المحاكمة ستدفع “الإسرائيليين” إلى الاعتقاد بأنّ العيش في الدولة سيجعلهم عرضة للاضطهاد والتمييز ضدهم بسبب مواقفهم وميولهم، مما سيعرض التحالف الاستراتيجي بين “إسرائيل” والولايات المتحدة للخطر الحقيقي.

وجّه أعضاء بارزون في الكونغرس من الحزب الديمقراطي رسالة إلى الرئيس “بايدن” يطالبونه بفعل كل شيء للحيلولة دون إلحاق الضرر بالنظام القضائي “الإسرائيلي”، واستخدام كل الوسائل الدبلوماسية المتاحة لمنع الحكومة اليمينية المتطرفة في “إسرائيل” من الاستمرار بإلحاق الضرر بالمؤسسات السياسية، وتقويض حل الدولتين مع الفلسطينيين.

ورغم ما شهدته الأسابيع الأربعة من مارس من وصول جملة من رسائل التحذير الدبلوماسية من واشنطن إلى “نتنياهو”، فيما يتعلق بالتغييرات القانونية والعلاقات مع الفلسطينيين، لكنّه وشركاءه تجاهلوا الرسائل، بدليل أنّ وصول “سموتريتش” إلى الولايات المتحدة للمشاركة في مؤتمر اقتصادي، لم يتخلله لقاءات بمسؤولين حكوميين كبار آخرين، عقب إعلان إدارة بايدن أنّ أيّ أحد فيها لن يلتقي به.

على الصعيد الإعلامي الأمريكي، فقد تواصل الهجوم على الحكومة اليمينية الحالية، وفقًا لما جاء في العديد من المقالات والتحليلات الصادرة عن كبار المعلقين السياسيين في الصحافة الأمريكية، وقد توافقوا على أنّ “نتنياهو” يحطّم المجتمع “الإسرائيلي”، ويخاطر بمستقبل المؤسسات السياسية والقضائية في الدولة لمجرد خروجه من المحاكمة التي تنتظره، مما يؤكد أننا أمام شيء كبير جدًا، مهم جدًا، وشخصي جدًا، لأنّ “نتنياهو” يأمل أن تؤدي التغييرات القانونية إلى إنهاء محاكمته على تهم خرق الثقة والرشوة والاحتيال، مما قد يقوده للسجن.

على صعيد آخر، شهدت “تل أبيب” في الآونة الاخيرة سلسلة زيارات أمريكية رفيعة المستوى، تمثلت بوزيري الخارجية “أنتوني بلينكين” والدفاع “لويد أوستين” ومستشار الأمن القومي “جيك سوليفان” ورئيس المخابرات المركزية “وليام بيرنز”، وقد كشفت جميعها عن خلافات غير عادية بين الضيوف والمضيفين، بشأن الشؤون الداخلية “الإسرائيلية”، عندما تحدث الأمريكيون عن العاصفة المحيطة بخطة “نتنياهو” لإجراء تغييرات في النظام القضائي، كلّ ذلك كشف عن قلق أمريكي بشأن الخطة المثيرة للجدل، وأدت بالفعل لاحتجاجات واسعة النطاق من قبل رجال الأعمال والاقتصاديين والمحامين في الولايات المتحدة و”إسرائيل” والرؤساء التنفيذيين لوزارات حكومية سابقة.

  •  الاتفاق الإيراني السعودي:

ظهر اتفاق تجديد العلاقات بين الرياض وطهران على أنه شأن “إسرائيلي” داخلي، عقب انخراط الحلبة السياسية والحزبية والإعلامية “الإسرائيلية” في الحديث عن تبعاته، كونه شكّل انهيارًا في اللبنة الأساسية لجدار العزلة الذي حاولت بناءه حول إيران، حيث يتزامن الاتفاق السعودي الإيراني مع جهود “إسرائيلية” حثيثة غير عادية انخرطت فيها المنظومتان السياسية والأمنية بأكملهما لحمل السعودية على إعلان التطبيع مع “إسرائيل”، لكنّ ما حصل برعاية صينية اعتبر تصدُّعًا في اللبنة المركزية في جدار العزل الإيراني، الذي بدا أنه على وشك السقوط، ما يعني أنّ التحالف الذي حاولت “إسرائيل” والولايات المتحدة إقامته ضد طهران يتراجع.

تتناقل المحافل الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية” طوال الأيام الماضية فرضية مفادها أنّ إعلان تجديد العلاقات الثنائية بين إيران والسعودية يمثل ضربة قاسية للسياسة الأمريكية “الإسرائيلية” في المنطقة، إذ قامت “تل أبيب” تحت مظلة واشنطن ببناء بنية إقليمية تعتمد تعاونًا استخباراتيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا مع دول الخليج، بلغت ذروتها في اتفاقات التطبيع، لكن الجائزة الكبرى التي سعت إلى تحصيلها هي محاولة جلب الرياض إلى الصورة.

دلالات عديدة يحملها الموقف “الإسرائيلي” المحبط من الاتفاق السعودي الإيراني، أهمها خيبة الأمل بشكل رئيس، ولا سيما بعد قرار الرياض رفض إعطاء تأشيرات دخول لوفد “إسرائيلي” دُعي لمؤتمر للأمم المتحدة، في إشارة بأن آمال “إسرائيل” بتحسين العلاقات معها سابقة لأوانها، واعتبار ذلك أولى ثمار اتفاقها مع طهران.

يربط “الإسرائيليون” بين الاتفاق السعودي الإيراني وتأثيره السلبي عليهم، وبين نتائج القمة الصينية الإيرانية الأخيرة التي شهدت إبرام العديد من اتفاقيات التعاون التي يؤثر بعضها على أمن “إسرائيل” التكنولوجي، فضلًا عن الضربة التي تلقتها من ما تعنيه هذه الاتفاقيات من تقوية إيران، وإعطائها المزيد من الشرعية، وتوسيع الثغرة التي يمكن لها من خلالها اختراق الجدار الذي حاولت الولايات المتحدة و”إسرائيل” بناءه حولها، وقد فتحت أول ثقب لأول مرة من قبل روسيا، عقب مساعدتها في المسيّرات الفاعلة ضد أوكرانيا.

الخلاصة “الإسرائيلية” أنّ الاتفاق السعودي الإيراني جعل الأخيرة لاعبًا جيو-سياسيًا قاريًا خارج حدود الشرق الأوسط، مما يعني استفادتها من التقنيات التي يُزعم أن الصين وعدت بتقديمها لها، مثل الوصول لأقمارها التجسسية الكبيرة، وحينها تطرح علامات استفهام خطيرة حول تأثير ذلك على الأمن القومي “الإسرائيلي”.

ما زال استئناف العلاقات السياسية بين إيران والسعودية يترك تبعاته وأصداءه في “إسرائيل”، والتي تشهد حربا ضارية بين معسكراتها السياسية والحزبية، وبدأت على الفور بمهاجمة بعضها حين أعلنت الرياض وطهران عن تقاربهما، في وقت عاشت فيه أربع سنوات من الفوضى السياسية التي أحدثت أضراراً جسيمة في خطابها الاستراتيجي، وباتت تقترب من نقطة اللاعودة في مجموعة متنوعة من القضايا.

  • انفجار مجدّو:

تتزايد القناعات “الإسرائيلية” بأن انفجار مجدّو شمال فلسطين المحتلة منتصف مارس، يقف خلفه حزب الله وحركة حماس، وسط تصاعد القلق من إمكانية أن يكون تعاونهما بداية لتنفيذ عمليات داخل الحدود “الإسرائيلية”، رغم استمرار الأوساط الأمنية والعسكرية بالانشغال بنتائج التحقيق في العملية، خاصة طريقة تنفيذها، مما قد يشير إلى تغيير في استراتيجية الحزب الذي تجنب حتى الآن تنفيذ عمليات في عمق الأراضي الفلسطينية.

أتى هجوم مجدو بعد سنوات شهدت تقاربًا بين حزب الله وحماس في لبنان، حيث تحاول الحركة ربط الفلسطينيين في الضفة الغربية بأربعمائة ألف لاجئ فلسطيني يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان، وخلق علاقة تسمح لها بالتنسيق بين الساحات الفلسطينية الثلاث في غزة والضفة ولبنان في القتال ضد “إسرائيل”.

قد يكون لدى الجيش “الإسرائيلي” وأجهزته الأمنية بأكملها مصلحة كبيرة لتفكيك الحادثة، وفهم من تصرف، وكيف، وتحت أوامر من، والأهم كيف تمكن مسلح محمّل بالمتفجرات من التسلل من لبنان إلى “إسرائيل” من فوق الأرض أو تحتها، وإذا ما كان لديه مساعدون داخلها، وفي حال العثور عليهم، فقد يشير إلى أنّ الحزب وحماس لديهما بالفعل بنية تحتية مشتركة في الضفة الغربية، وكل هذه أسئلة تتطلب الفحص، والتأكد أولًا هل قرّر الجانبان التعاون بتنفيذ الهجمات داخل “إسرائيل” نفسها، وكذلك في الضفة الغربية.

لا يخفي “الإسرائيليون” انتقاداتهم الموجهة إلى أجهزة الأمن بعد هجوم مجدو، بزعم أنّ العنوان كان مكتوبًا على الجدار بأن لدى الجيش تحذيرات من نشاط غير عادي على طول الحدود، دون معرفة ماذا وكيف، بعد أن حدد محاولات من حزب الله لمساعدة المنظمات الفلسطينية في الموجة الحالية من الهجمات، والافتراض السائد أنّ هذه العملية لا يمكن إطلاقها دون موافقة وتخطيط كبار مسؤولي الحزب.

في ذات السياق، فإنّ هجوم مجدو كشف أنّ حماس وحزب الله يعرفان جميع نقاط الضعف التكتيكية والاستراتيجية والاجتماعية في “إسرائيل”، والأزمة فيها تقربهم من تحقيق أملهم في أنّ المجتمع “الإسرائيلي” ضعيف، باعتبارها فرصة لممارسة مزيد من الضغط، وأنه سينهار، مما قد يستدعي منها اتباع استراتيجية جديدة، مع أدوات أكثر فاعلية وعدوانية من شأنها أن تعيد الردع.

الخلاصة “الإسرائيلية” تكمن في التحذير من احتواء انفجار مجدو، بزعم أنّ ذلك سيزيد من نطاق عمل حماس وحزب الله من هذه الجبهة الشمالية الجديدة، لأنهما إذا أدركا أن هذه الساعة الذهبية ضد “إسرائيل”، فإنّ رغبتهما في العمل ضدها ستزداد، مما يعني أنّ الحادث وضع الردع “الإسرائيلي” على المحك، ليس فقط في مواجهة احتمالية نشوب حرب واسعة النطاق، ولكن أيضًا في مواجهة سيناريو الاحتكاك اليومي مع الحزب على خط التماس.

  • الخاتمة:

ليس من المتوقع أن تشكل الأحداث “الإسرائيلية” خلال مارس نهاية بطيّ صفحة هذا الشهر، على اعتبار أنها في مجملها لها امتدادات زمنية قادمة في الأشهر المقبلة، الداخلية منها والخارجية، خاصة في حال عودة الساحة “الإسرائيلية” إلى مزيد من التأزّم في حال فشل جهود الوساطة، أو استمرت الإدارة الأمريكية في الضغط على “تل أبيب” بسبب موضوعي الانقلاب القضائي، أو التوتر مع الفلسطينيين، في حين قد تشهد الأسابيع القادمة تطورات لافتة في الملف الإيراني، مع تصاعد التحذيرات من قرب دخولها النادي النووي، وصولًا لتجديد العمليات الفدائية الفلسطينية في مختلف الجبهات.

لتنزيل التقرير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى