المشهد الإسرائيلي: فبراير/ شباط 2023
ازدحم شهر شباط/ فبراير بجملة من الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية “الإسرائيلية”، داخليًا وخارجيًا، بالتزامن مع تصاعد الاحتجاجات الحزبية على التغييرات القانونية التي تعتزم حكومة الاحتلال تنفيذها، مما أعطى صورة مشوشة عن الواقع “الإسرائيلي” الداخلي، ووضع صعوبات جادة أمام تقديم رؤية استشرافية عن مآلات الأحداث فيها، لاسيما وأنَّ الضغوط الخارجية باتت أكثر وضوحا من ذي قبل، الأمر الذي يفتح الباب واسعًا أمام مزيد من التأزم في المشهد “الإسرائيلي”، خاصة مع تنامي عمليات المقاومة الفلسطينية، والعجز الواضح في كبح جماحها، رغم استمرار المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
يسعى هذا التقرير الشهري إلى حصر أهم التطورات “الإسرائيلية” التي شهدها شهر فبراير، على مختلف الأصعدة، في محاولة لتلمّس التبعات المتوقعة على الساحتين الداخلية والخارجية.
- خطة فنزل:
تحدثت أوساط “إسرائيلية” بعد أيام فقط على انعقاد قمة العقبة الأمنية -التي هدفت إلى إحكام السيطرة على الضفة الغربية، ووقف موجة عمليات المقاومة من خلال خطة أمنية أمريكية صاغها الجنرال “مايك فنزل”- أنَّ هذه الخطة لإعادة الأمن في الضفة الغربية محكوم عليها بالفشل، وأنَّ السلطة الفلسطينية لن تكون قادرة على تنفيذها؛ لأن هجوم المستوطنين على بلدة حوارة ألحق أضرارا بالغة بالتنسيق الأمني، واستعادة هدوء المنطقة.
في المقابل، يتواصل تسخين الأجواء قبل شهر رمضان، فيما تقلق الولايات المتحدة ومعها الاحتلال بشأن الوضع الأمني في أراضي الضفة الغربية، مع استمرار إطلاق النار على قوات الجيش والمستوطنين، مع العلم أنَّ مهاجمة المستوطنين لبلدة حوارة، خلق أجواء صعبة في الشارع الفلسطيني، وقد تنصل بعض وزراء الاحتلال من تفاهمات العقبة، وفي مقدمتها تجميد شرعنة البؤر الاستيطانية بضعة أشهر؛ مما يعني أنَّ الخطة الأمنية الأمريكية يقدر لها أن تسجل فشلا ذريعًا، لأنه لا توجد فرصة لنجاحها.
تنص الخطة الأمنية الأمريكية على تجنيد عدة آلاف من رجال الأمن الجدد في السلطة، ويخضعون للتدريب والتجهيز بالسلاح، والانتشار شمال الضفة لمحاربة المجموعات المسلحة، وقد ضغطت الإدارة الأمريكية بشدة عليها لقبولها، لكنها في الوقت ذاته ضعيفة للغاية، رغم أنّها تهدف إلى القضاء على المجموعات المسلحة في الضفة التي تحظى بدعم كبير في الشارع الفلسطيني، وتأييد الفصائل كافة ، وأي اعتقاد بأنَّ السلطة ستكون قادرة على إحراز تقدم في تنفيذ الخطة بالقضاء على المقاومة من خلالها، سيكتشف أنَّه وقع في خطأ كبير في قراءة الواقع على الأرض، والنتيجة أنّها قنبلة موقوتة ستنفجر في وجه السلطة ذاتها.
ينجم التشاؤم “الإسرائيلي” بفشل تنفيذ الخطة الأمريكية نتيجة الواقع الأمني الناشئ شمال الضفة؛ لأنه يمثل تحدياً للسلطة والاحتلال على حد سواء، كما أنَّ الاحتلال ذاته قد لا يكون قادرًا على قبول الوضع الجديد الذي نشأ، مما قد يتعين عليه التحرك، خشية أن تصل العمليات إلى الداخل المحتل نفسه، في ظل ما يصفه بـ”عجز” السلطة الذي أسفر عن نشوء المجموعات العسكرية، وبالتالي فإنَّ نفاد الوقت لديه، وتردده، قد يفسره الفلسطينيون على الأرض بأنّه ضعف، وأنَّ يديه مقيدتان من قبل إدارة “بايدن”، وإن شعورًا من النشوة والنصر لديهم يشجعهم على المزيد من الهجمات.
- توتر مع واشنطن:
تتصاعد المواقف الأمريكية ضد حكومة الاحتلال بسبب تغييراتها القانونية وسياستها ضد الفلسطينيين، وآخرها ما أعلنه مسؤولون أمريكيون من إلغاء مشاركتهم في مؤتمر في بنما لكبار الاقتصاديين وذلك لحضور وزير المالية “الإسرائيلي” “بيتسلئيل سموتريتش”، زعيم حزب “الصهيونية الدينية”، في رسالة أمريكية واضحة لمقاطعته وعدم مقابلته، في ظل تصريحاته العنصرية ضد بلدة حوارة الفلسطينية، فيما هاجم “مايكل بلومبرغ” رئيس بلدية نيويورك الأسبق، “التغييرات القانونية التي تقوم بها حكومة “نتنياهو”، واصفًا إياها بأنّها كارثة على “إسرائيل”؛ لأن محاولته تحصين نفسه من خلال هذه القوانين لحماية نفسه من المحاكمة ستدفع “الإسرائيليين” إلى الاعتقاد بأنَّ العيش في “إسرائيل” سيجعلهم عرضة إلى الاضطهاد والتمييز ضدهم بسبب مواقفهم وميولهم، ولأنَّ التحالف الاستراتيجي بين “إسرائيل” والولايات المتحدة يقوم على التزام مشترك بسيادة القانون، فإنَّ إسرائيل تخاطر بإضعاف علاقتها بالعالم الحر”، كما وجه أعضاء بارزون في الكونغرس من “الحزب الديمقراطي” رسالة إلى الرئيس “جو بايدن” يطالبون فيها بأن يفعل كل شيء للحيلولة دون إلحاق الضرر بالنظام القضائي، واستخدام كل الوسائل الدبلوماسية المتاحة لمنع الحكومة “اليمينية” المتطرفة من الاستمرار في إلحاق الضرر بالمؤسسات السياسية، وتقويض إمكانية حل الدولتين مع الفلسطينيين.
جرت العادة بأن يصل كل رئيس وزراء “إسرائيلي” إلى واشنطن بعد وقت قصير من تشكيل حكومته؛ لأن زيارة كهذه لها معنى رمزي وعملي، وتوضح العلاقة الوثيقة والخاصة التي تربطهما، لكن “نتنياهو” لم يتلقَ دعوة لزيارته، وليس معروفًا ما إذا كان سيتلقى دعوة ومتى، فتجاهله يعني انتقادًا واستياءً من الإدارة.
من الواضح أنَّ تفاقم الأزمة “الإسرائيلية” مع الولايات المتحدة قد يتسرب للتعاون الاستراتيجي، خاصة عندما يشتد التحدي النووي الإيراني، ومن الصعب تصديق أن “نتنياهو” الذي يعرف السياسة الأمريكية جيدًا لا يرى أو لا يفهم الأزمة، والعواقب الوخيمة التي قد تسببها ل”إسرائيل”، أيّ أنَّ استمرار سياسة “نتنياهو” الحالية سوف تتسبب بإلحاق ضرر شديد بالعلاقة الثنائية بينهما، ولعلها رسالة من الولايات المتحدة له واضحة ومفادها أنّه إذا لم يتحكم في المتطرفين من حكومته، فقد يصبح شخصية غير مرغوب فيها في واشنطن.
تمثلث آخر حلقة في مسلسل السجال “الإسرائيلي” الأمريكي في موقف أعلنه سفير واشنطن لدى “تل أبيب” “توم نايدس”، الذي أكد أنّه نصح “نتنياهو” بـ”الضغط على الفرامل” حول مسألة التغييرات القانونية، فيما نشرت وزارة الخارجية الأمريكية تلخيصًا لعام 2021، أظهر للمرة الأولى معطيات حول العنف الذي يمارسه جيش الاحتلال والشرطة والمستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
أمّا على الصعيد الإعلامي الأمريكي؛ فقد تواصل الهجوم على الحكومة “اليمينية” الحالية، وفقًا لما جاء في العديد من المقالات والتحليلات الصادرة عن كبار المعلقين السياسيين في الصحافة الامريكية، وقد توافقت المصادر كلها على أنَّ “”نتنياهو” يحطم المجتمع “الإسرائيلي”، ويخاطر بمستقبل المؤسسات السياسية والقضائية في الدولة لمجرد خروجه من المحاكمة التي تنتظره، مما يؤكد أننا أمام شيء كبير جدا، مهم جدا، وشخصي جدا، لأن “نتنياهو” يأمل أن تؤدي التغييرات القانونية لنهاية محاكمته على تهم خرق الثقة والرشوة والاحتيال، مما قد يقوده للسجن، وفي حال أصبحت “إسرائيل” “ديمقراطية مزيفة” مثل المجر، فسيذهب العالم بأسره نحو الاتجاه غير الصحيح”.
- “المعركة بين الحروب”:
مرّ عقد كامل على بدء الهجمات “الإسرائيلية” على سوريا بزعم استهداف المواقع الإيرانية، وقد بلغ عددها المئات، بل توسعت هذه الهجمات إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط، سواءً في العراق أو اليمن أو لبنان وصولًا إلى إيران ذاتها، ضمن ما أسمتها دولة الاحتلال استراتيجية “المعركة بين الحروب”.
إنَّ مرور هذه السنوات العشر مناسبة لتقديم “كشف حساب” عن هذه الاستراتيجية التي صُممِت للاستمرار في تنفيذ الهجمات بين حين وآخر دون أن تجرّ “إسرائيل” إلى حرب شاملة، وفي بعض جوانبها تسعى إلى تعزيز وضعها في المنطقة المحيطة بها، مع العلم أنّه فور اتخاذ القرار بالشروع في استراتيجية المعركة بين الحروب في 2013، شُكلت خطة عمل أسبوعية للقوات الجوية في سوريا، مع عدم اعتراف “إسرائيل” بتنفيذ هذه الهجمات، ومنح سوريا مساحة من إنكار وقوع الهجمات في البداية بهدف منع التصعيد معها، رغم أنَها نشرت أحيانا بطاريات مضادة للالتفاف لمنع الهجوم “الإسرائيلي”، مما كشف عن تقدم “للعدو” بوتيرة مذهلة، وهناك سباق دائم معه، الأمر الذي دفع الاحتلال للعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع للتغلب على ما يحدث في الخلفية طوال الوقت.
كشفت هذه السنوات عن تنفيذ الاحتلال لعمليات معقدة في عمق الأراضي السورية وخارجها، والتفكير في جميع الخيارات التي يمكن أن تقابله، بما فيها المفاجآت غير المتوقعة، والأهم ضمان عودة الطيارين إلى منازلهم بأمان، في ضوء رؤية البطاريات المضادة للطائرات في بعض الأماكن، التي قد تطلق الكثير من الصواريخ باتجاه طائرات الاحتلال، ولا شك أنه في كل عملية نفذها الاحتلال من استراتيجية المعركة بين الحروب منذ أكثر من عقد من الزمن، كان هناك مستوى من المخاطرالتي واجهتها خلال أداء المهام الجوية، وأهمها إمكانية تنفيذ هجوم واسع جدًا منطلقًا من سوريا، مما يستدعي منه العمل والاستعداد في وقت مبكر، والتأكد من قدراته الدفاعية.
يمكن القول بعد كل هذا الوقت على بدء الاحتلال في استراتيجيته العدوانية “المعركة بين الحروب”، إنَّ بعد هجماته في سوريا قد وسع مناطق عدوانه، وهاجم قوافل الأسلحة على الحدود العراقية، فيما شدد تعاونه مع الولايات المتحدة حول استمرارها، وفي الوقت ذاته اضطر إلى ربط روسيا معه كشريك جديد بغرض تأجيل الحرب القادمة قدر الإمكان.
- الانقلاب القضائي:
رصد خبراء “إسرائيليون” -مع تفاقم التحديات الداخلية والتهديدات الخارجية أمام دولة الاحتلال- جملة من العواقب الوخيمة المترتبة على أداء رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” بما يعرف بـ”الانقلاب القضائي”، والذي يتمثل في جملة الإجراءات القانونية التي تسعى حكومة نتنياهو لإقرارها، وتتعلق بتقليص صلاحيات المحكمة العليا، ومنح السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة سلطة تعيين قضاتها، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الدولة، فضلا عن صبغ الدولة بجملة سياسات مرتبطة بالشريعة اليهودية على طريق “تديين الدولة”، مما يزيد من نفوذ المتدينين المتطرفين على حساب غالبية المجتمع “الإسرائيلي” ذو السمة العلمانية الليبرالية.
هذه الإجراءات كفيلة بإلحاق الضرر بجميع مؤسسات الدولة الرسمية: السياسية والأمنية على حد سواء، وتتمحور العواقب حول ما يلي:
- تتعلق العاقبة الأولى بأمن الدولة ومستقبلها؛ لأن تداعيات التغييرات القانوني مرتبطة بأمنها القومي، وستترك نتائجها المدمّرة على هيكل نظامها السياسي، وقد بات واضحًا أن تداعياتها ثقيلة، وتعرّض مصالح “إسرائيل” للخطر.
- تتمثل العاقبة الثانية في تضرر التعاون مع الولايات المتحدة، وسيصعّب على الرئيس “بايدن” المساعدة بتعزيز أهداف أمنها القومي، وعلى رأسها عدم حصول إيران على أسلحة نووية، وإضافة السعودية إلى اتفاقات التطبيع.
- ترتبط العاقبة الثالثة بتراجع التضامن الداخلي؛ لأنَّ العدوانية الصارخة المصاحبة للتغييرات القانونية تمزق المجتمع “الإسرائيلي”، وتقوض صموده، وتضر بالتضامن ووحدة المصير داخله، وحتى دعم اليهود الأمريكيين له.
- تتمثل العاقبة الرابعة في تراجع الردع ضد أعداء “إسرائيل”، وقدرتها على الحفاظ على الاستقرار والهدوء على الجبهات المختلفة؛ لأنَّ استراتيجيتهم طويلة المدى لهؤلاء ليس تدميره بقنبلة نووية، بل بالإرهاق والاستنزاف، حتى تستسلم.
- تدور العاقبة الخامسة حول تراجع ثقة رجال الأعمال والمجتمع الدولي ب”إسرائيل”، حيث بدأت رؤوس الأموال تبتعد عن الدولة، وثقة مجتمع الأعمال الدولي في اقتصادها تتراجع، وصولًا إلى الانهيار الاقتصادي.
- تتعلق العاقبة السادسة بالحملة المناهضة ل”إسرائيل”، لأن التغييرات القانونية توفر لمن يكرهونها إنجازًا لم يتمكنوا من تحقيقه من قبل حركات المقاطعة ونزع الشرعية، التي تتهم الدولة بأنّها عنصرية وترتكب جرائم ضد الإنسانية.
الخاتمة:
إنَّ الحدث “الإسرائيلي” الأبرز في الشهر الثاني من العام الجديد تمثل بالتطورات “الإسرائيلية” الداخلية، لاسيما ما تعلق منها بالانقلاب القضائي، ودخول الاحتجاجات المتفاقمة أسبوعها العاشر دون توقف؛ ما يعني أنَّ الدولة ذاهبة إلى مزيد من الصدام والمواجهة الداخلية، سواءً انتهى ذلك بتنفيذ اغتيال سياسي جديد، أو انفراط عقد الحكومة الحالية، واضطرار رئيسها إلى الذهاب الى الخطة “ب”، بإقالة الزمرة الفاشية المحيطة به، واستبدالهم بمن هم أقل فاشية وعنصرية، لكنهم على الأقل مقبولون في المجتمع الدولي، وهذا لا يعني إرجاء الاحتلال لبحث المسائل الأمنية المتعلقة بالملف الفلسطيني تحديدا؛ لأن العنف والمجازر يرتكبها جيشه على مدار الساعة؛ ما قد يفسح المجال لاستقبال شهر رمضان ساخن، بالتزامن مع محاولة “اليمين” فرض مزيد من الوقائع على الأرض في اقتحاماته المتوقعة للمسجد الأقصى.