المشهد الإسرائيلي: ديسمبر/كانون أول 2022
نشرة شهرية تصدر عن مركز رؤية للتنمية السياسية
د. عدنان أبو عامر
يمثّل مصادقة “الكنيست” على الحكومة الجديدة، التي جاءت بعد مخاضٍ طويل، الحدث “الإسرائيلي” الأهم والأكبر خلال الساعات الأخيرة من ديسمبر، إذ تخلّل هذا الحدث خلافات وتباينات داخل “الائتلاف” الحكومي ذاته خلال أيام وأسابيع المفاوضات التي اعتقد كثير من “الإسرائيليين” أنها ستكون أسرع مما يتصورون، لكن مطالب “اليمينيين الفاشيين” جاءت أصعب مما توقع “بنيامين نتنياهو” ذاته رئيس الحكومة الجديد، الذي يتولى مهامه للمرة السادسة.
ينشغل هذا التقرير الشهري بتسليط الضوء على أهم ملفات الحكومة الجديدة، الداخلية والخارجية على حد سواء، لاسيما ما يتعلق بالواقع الفلسطيني.
- توسيع الاستيطان:
بدأت الحكومة الجديدة ممارسة مهامها، فقد بدا واضحًا أنَّ غالبية الناخبين الذين صوّتوا لهذه الجوقة الفاشية، يتوقعون تغييرات بعيدة المدى في الضفة الغربية، تجاه جملة من القضايا، لاسيما البؤر الاستيطانية غير القانونية -وكل الاستيطان غير قانوني وغير شرعي-، وهو ما يتعلق بإجراء مسح للأراضي لأكثر من 60 بؤرة استيطانية، رغم أن الحكومة تدرك أنها أمام عملية معقدة وصعبة، يتخللها سنّ القوانين للاستفادة من شرعنة تلك البؤر.
في الوقت ذاته، تتجه الحكومة وفق اتفاقاتها الائتلافية لإلغاء قانون فك الارتباط، والمقصود به تحويل الاستيطان في مستوطنات شمال الضفة ليصبح قانونيًا، فضلًا عن الحملة الحكومية المتوقعة على المنطقة “ج”، لأن عدداً قياسيًا من الوزراء مقيمٌ في مستوطنات الضفة الغربية، ويدّعون أنّ البناء الفلسطيني فيها يهدف إلى الترويج لفكرة الدولة الفلسطينية، ولذلك ينوون تشديد الرقابة على ما يصفونه “البناء غير القانوني” فيها.
أكثر من ذلك، فإنّ “بيتسلئيل سموتريتش” زعيم الصهيونية الدينية، الوزير بوزارة الحرب، يقوم بتجهيز مجموعة محامين، ويرافقه مدير ومفتشون لفرض مزيد من القيود على البناء الفلسطيني بصرامة أكبر، أما فيما يتعلق بقضية البناء في المستوطنات؛ فسيحاول دون تأخير وعرقلة استصدار المزيد من تصاريح البناء في لجنة التخطيط الأعلى، وهو إجراء لا يتطلب موافقات سياسية عاجلة.
خلاصة القول في السياسة الاستيطانية القادمة هي أنّ التغيير المحتمل في طريقة عمل الإدارة المدنية، جاء على حساب الفلسطينيين، وذلك في كل ما يتعلق بالمستوطنين وقضاياهم، مثل التعليم والرفاهية والمواصلات والبنية التحتية والزراعة.
- الأجندة العسكرية:
يمنح الاحتلال كعادته الملف الأمني مركز الصدارة في أجندته، وذلك مع واقع تصاعد التهديدات العسكرية، وتفاقم التحديات الأمنية، مما جعل شخصية وزير الحرب الجنرال “يوآف غالانت” شخصيةً ذات مركزية لافتة على طاولة الحكومة، فهو يتولى منصبه بعد أحد عشر عامًا من إلغاء تعيينه رئيسًا للأركان، وكذلك قاد جيشه للعدوان على غزة في 2008.
صحيح أن موقع وزير الحرب يعدُّ من أصعب المناصب التي يشغلها أيّ وزير “إسرائيلي”، فالدولة كلها تلقي بأعبائها الأمنية على كاهله، ويستشعر أنّ أيّ خطأ أو إخفاق يقع به جيشه، سيكون هو كبش الفداء للتضحية به، إن لم يكن بالإقالة أو الاستقالة، فعبر لجان التحقيق والانتقادات التي تنهال عليه، كما “تتكاثر السكاكين على الثور المذبوح”.
لا يختلف اثنان أنّ أجندة “غالانت” ستكون مزدحمةّ كثيرًا بالملفات العاجلة والحرجة، ربما تبدأ بموجة من العمليات الفدائية المتصاعدة، تزامنًا مع استمرار عملية “كاسر الأمواج” التي شنها الجيش لوقف هجمات المقاومة، ولا تنتهي أجندته بمواجهة الملف النووي الإيراني، وانتشار قواتها في عدد من عواصم المنطقة المحيطة بالاحتلال، رغم أنّ هذا الملف بحاجة إلى غطاء سياسي من الولايات المتحدة.
تظهر أمام غالانت جملة تهديدات أخرى، ما بين الأوضاع في الأراضي الفلسطينية والملف الإيراني ، تتعلق بما يعانيه الجيش من إشكاليات بنيوية ومخاطر خارجية، لا يبدو أنه سيتخلص منها في المديَين المنظور والمتوسط على الأقل، مع تزايد التهديدات المحدقة بالدولة، التي قد لا تجعله يمتلك الوقت الكافي لإصلاح الأعطاب والعيوب والثغرات التي تهدد بنيته العسكرية، وهيبته المفقودة، مع أنّ “غالانت” -ابن المؤسسة العسكرية- لديه القدرة أكثر من سواه على وضع يده على أهم مشاهد القلق والإحباط التي يشعر بها الجنود والضباط عقب انتهاء العديد من المواجهات التي خاضها الجيش، ووفق أقل القراءات حِدّة لم تكن نتائجها “مُرْضية”؛ مما أدى إلى تشكيل عدد من اللجان الرسمية والبرلمانية والبحثية لمعرفة أين الخلل، وكيف حدثت الإخفاقات، ولِمَ حصل ما حصل أساسًا.
من المتوقع أن ينصرف “غالانت” إلى معالجة مظاهر تبدد قوة الردع التي أُصيبت في إصابةً قاتلة، عبر عدة شواهد عاشها الجيش في السنوات الأخيرة، إذ تبددت هذه القوة تحت وطأة ضربات المقاومة، وأثبتت المعارك مع مقاتليها إمكانية تحقيق تكافؤ في التدريب النوعي، إذا تحولت العقيدة القتالية من اعتماد الكميَّة إلى النوعيَّة، وجاءت صواريخها لتبدد الحلم “الإسرائيلي” بأن تحارب وراء الحدود، وتبقى في مأمن داخلي مطمئن!
- الداخل المحتل:
بالتزامن مع إعلان ولادة الحكومة الجديدة، يتخوف فلسطينيو 48 من التهديدات ضدهم، بزعم أنهم يشكلون عنصراً أساسيًا في المخاطر التي تواجهها، وينخرطون في العديد من الأعمال العدائية، بما فيها الهجمات المسلحة، لاسيما من تربطهم علاقات قرابة مع أشقائهم الفلسطينيين في الضفة وغزة؛ مما يسبب قلقا لدى المخابرات “الإسرائيلية”، التي يتوفر لديها معطيات تفيد بأن نسبة العائلات المختلطة من العدد الإجمالي لفلسطينيي الـ48 تقترب من 5%، بعدد يقدر بمئة ألف نسمة، لكنهم يشكلون 15% من نسبة المنخرطين في تنفيذ العمليات المعادية لدولة الاحتلال، وهذه النسبة تأخذ بالازدياد أكثر فأكثر في أوساط البدو الفلسطينيين من سكان صحراء النقب، حيث يشكل أبناء العائلات المختلطة 12% من نسبة السكان، وقد بلغ عدد الفلسطينيين من النقب المنخرطين في نشاطات أمنية معادية للاحتلال 44 شابا ما بين عامي 2000-2017، حيث شملت نشاطاتهم: تحضير عمليات، تجنيد منفذين، جلب مساعدين، نقل أموال لأعمال مسلحة، حيازة سلاح ووسائل قتالية، على الأقل وفق المزاعم الأمنية “الإسرائيلية”.
من المتوقع أن تستعين الحكومة الجديدة، لاسيما وزير الأمن “الإسرائيلي” المتطرف “إيتمار بن غفير”، بهذه المعطيات الأمنية، التي تدور شكوك كبيرة حول مصداقيتها، وتزعم بأن العائلات الفلسطينية المكونة من مثل هذا الزواج المختلط تشكل بيئة مهيأة لتجنيدها من قبل المنظمات الفلسطينية المسلحة؛ بسبب توفر جملة عوامل مشجعة لهم، خاصةً الدوافع الأيديولوجية لهؤلاء الأزواج الفلسطينيين القادمين من الضفة وغزة.
هذا الانخراط من قبل هؤلاء الشبان يبدو طبيعيًا ومنطقيًا، لأن معظم الأزواج الفلسطينيين الذين حصلوا على الجنسية “الإسرائيلية” عقب زواجهم من سيدات فلسطينيات داخل فلسطين المحتلة، لديهم علاقات عائلية في غزة والخليل، وبعضهم يقوم بزيارة هذه المناطق، ويشارك في جنازات الشهداء.
أيّاً كانت المعلومات التي يبثها أمن الاحتلال، وستوظفها الحكومة الجديدة، فإن فلسطينيي الـ48، سيكونون في عين عاصفتها، خاصةً وأنهم يعلنون فشل سياسات الأسرلة والتهويد والصهينة منذ أكثر من سبعة عقود.
- المواجهة مع العالم:
فور بدء الحكومة مهامها والمصادقة عليها، لحظات قليلة فقط كانت كفيلة بإثارة عواصف لن تنتهي حتى إتمام فترة ولايتها الكاملة، إن أكملتها، وذلك في ضوء جملة قضايا خلافية ستشرع بها، لاسيما على الصعيد الداخلي، مثل قانون التمييز، ومعاملة الشاذين، والمواجهات مع قائد الجيش ومفوض الشرطة، وتقسيمات وزارتي التعليم والحرب، فضلًا عن جملة تحديات سياسية وأمنية ستواجهها.
ستكون أولى القضايا الأساسية على أجندة الحكومة ملف العلاقات الدولية، وقد يشكل أبرز التحديات التي ستكون محور عملها، حيث تتواصل أنظار العالم في هذه الأيام لمتابعة سياساتها التي ستتكشف مع مرور الوقت وستشكل ضربة قاسية للدبلوماسية “الإسرائيلية”، وعلاقاتها الخارجية الدولية، فضلًا عن مكانتها التي تشكو من تراجع واضطراب لا تخطئهما العين، وما يزيد الطين بلّة في معالجة مثل هذه التحديات الخارجية، أنّ الحكومة عيّنت في وزارة الخارجية وزيرين بالتناوب، هما “إيلي كوهين” أولًا ثم “يسرائيل كاتس”، مما يعني عدم وجود أجندة دبلوماسية متوافق عليها لدورة حكومية كاملة.
من جهة أخرى، فإن دخول الوزير الجديد صاحَبه وجود ثلاث شخصيات تطغى عليه في العلاقات الدولية: “نتنياهو” رئيس الحكومة ذاته، ورئيس مجلس الأمن القومي “تساحي هنغبي”، ووزير الشؤون الاستراتيجية “رون دريمر”، وجميعهم لديه خبرة كبيرة في العمل الدبلوماسي، وسيكون محاطًا بمن يفهمون السياسة الخارجية أكثر منه، مما سيخلق مزيدًا من الإرباك وتضارب الصلاحيات.
- مهاجمة الجيش:
دأب قادة الاحتلال على ترديد عبارة “لكل دولة في العالم جيش يحميها، إلّا “إسرائيل”، فهي جيش، وله دولة”، مما أعلى مكانته بين باقي مؤسسات الكيان، بزعم أنّ الدولة تواجه تهديدًا وجوديًّا، وليس سوى الجيش قادرٌ على التصدي له، وجعله بمنأى عن حالة الاستقطاب السياسي والخلافات الداخلية طوال عقودٍ مضت.
إنَّ ما رافق إعلان الحكومة الجديدة، شكَّل كسرًا للقاعدة التي حكمت علاقة الجيش بالدولة والمجتمع منذ نشأتها، وإن كان هذا الجيش يواجه جملة تحديات أمنية منتشرة على خمس جبهات، بعضها متوترة، والأخرى مشتعلة، سواءً في الضفة وغزة ولبنان وسوريا وإيران، وقد باتت أكثر الساحات إثارةً لقلق الجيش: هي الساحة السادسة المتمثلة فيما يحدث من تراشق داخلي بين “الإسرائيليين”، في مختلف معسكراتهم الحزبية والأيديولوجية، كما أنّ الأوساط الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية”، لا تتردد في الحديث عن أنّ مثل هذه الهجمات الحزبية والسياسية على مؤسسة الجيش، تنذر بانفجار الوضع الداخلي، وصولًا إلى تفككه، وربما انهياره في نظرةٍ بعيدة المدى، على أساس أنّ الهجمات المتبادلة بين “اليسار واليمين” على الجيش تحوِّل الساحة الداخلية لما يشبه الفوضى.
تصل ذروة التخوفات “الإسرائيلية” من الظاهرة كونها تصيب الردع الداخلي بحالة من التصدُّع، وتسميم الأجواء، ومع مرور الوقت فقدان الانتماء إلى المؤسسة العسكرية؛ بسبب حالة الغضب التي تنتاب العديد من “الإسرائيليين” من مسلكيات الجيش، وفق الموقفين المتعارضين في الحلبة السياسية والحزبية، ما سيتسبب بإضعافه، والتهديد بتمزيقه.
- المعارضة الداخلية:
فور إعلان “نتنياهو” تشكيل حكومته، شهدت الساحة الداخلية لدى الاحتلال وما زالت، صدور العديد من التحذيرات المتصاعدة بشأن استجابته لمطالب شركائه في الائتلاف، والتخوف من تحول الدولة مع مرور الوقت إلى كيان يحتكم للتوراة والتلمود، مما يهدد بحدوث انشقاق داخلي بين اليهود أنفسهم.
لقد تزامن الإعلان عن ميلاد حكومة “نتنياهو” مع حالة غير مسبوقة من الاستقطاب والانقسام “الإسرائيلي” واليهودي لقبائل وأحزاب وتشكيلات متناثرة متشظيَّة؛ مما دفع إلى زيادة الأصوات التي تطالب الحكومة الجديدة بـ”العودة لرشدها”، والسعي إلى رأب الصدع بين “الإسرائيليين” خشية الانزلاق إلى ما لا تحمد عقباه.
صحيح أن هناك جملة من التحديات الكبيرة والاستراتيجية، مع التركيز على التهديدات الأمنية من الداخل والخارج، وصولًا إلى ترميم الوضع القائم في قضايا التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، لكن من الواضح أنّ هناك ظواهر أكثر خطورة لا تحظى بمزيد من الاهتمام الكافي، رغم أنها تتطور منذ سنوات بين “الإسرائيليين”، لكنها اكتسبت زخمًا في الآونة الأخيرة، وهي المتعلقة بانقسامهم العميق إلى عدد من المجموعات المختلفة، تعيش بينها العديد من التوترات والخلافات، وجدت تعبيرها الأكثر في المواقف الصادرة فور مصادقة “الكنيست” على الحكومة.
الخاتمة:
بدأت الحكومة السابعة والثلاثون ولايتها الدستورية وسط توقعات تمتلك كثيرًا من الوجاهة، بأنها لن تستطيع الصمود لولاية دستورية كاملة مدتها أربع سنوات، استمرارًا لحالة عدم الاستقرار السياسي من جهة، ومن جهة أخرى الخلافات التي تعصف داخل حكومة “اليمين” ذاتها، فضلًا عن حالة الاستعداء الخارجي لها، لاسيما من الحليف الأكبر، وهو الولايات المتحدة من جهة ثالثة.
أيّاً كانت مآلات هذه الحكومة، فإنّ واقعها وتأثيراتها على الساحة الفلسطينية، سيتّسم بكثير من التوتر الميداني، مع توقعات بانفجار الأوضاع الأمنية التي تحمل أسبابها ودوافعها، لاسيما فيما يتعلق بالمسجد الأقصى، وتصعيد عمليات القتل الميداني في الضفة الغربية.
لقراءة وتحميل التقرير